باب ذكر ما يتعلق بخلق السماوات وما فيهن من الآيات

باب ذكر ما يتعلق بخلق السماوات وما فيهن من الآيات
المؤلف احمد خليل
تاريخ النشر
آخر تحديث
البداية والنهاية لابن كثير
باب - ذكر - ما - يتعلق - بخلق - السماوات - وما - فيهن - من - الآيات
باب ذكر ما يتعلق بخلق السماوات وما فيهن من الآيات
خلق السّماوات وعظمة اتّساعها وارتفاعها وما فيها من الآيات
قد قدّمنا أنّ خلق الأرض قبل خلق السّماء كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9-12[.
وقد أجبنا عن قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " بأنّ الدّحي غير الخلق، وهو بعد خلق السّماء.
وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 1-5].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:12-13[.
وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61-62].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:16-18].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:32-33].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:96-97].
والآيات في هذا كثيرة جدّا، وقد تكلّمنا على كلّ منها في التّفسير.
والمقصود أنّه تعالى يخبر عن خلق السّماوات وعظمة اتّساعها وارتفاعها وأنّها في غاية الحسن والبهاء والكمال والسّناء.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7].
أي الخلق الحسن.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4].
أي النّجوم. وقيل: محالّ الحرس الّتي يرمى منها بالشّهب لمسترق السّمع، ولا منافاة بين القولين.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر:16-17].
كَمَا قَالَ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} [الصافات:6-8].
قال البخاريّ في كتاب بدء الخلق: وقال قتادة: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. خلق هذه النّجوم لثلاث ; جعلها زينة للسّماء، ورجوما للشّياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأوّل فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلّف ما لا علم له به. وهذا الّذي قاله قتادة مصرّح به في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].
فمن تكلّف غير هذه الثّلاث أي من علم أحكام ما تدلّ عليه حركاتها، ومقارناتها في سيرها، وأنّ ذلك يدلّ على حوادث أرضية فقد أخطأ. وذلك أنّ أكثر كلامهم في هذا الباب ليس فيه إلّا حدس وظنون كاذبة ودعاوى باطلة. وذكر تعالى أنّه خلق سبع سماوات طباقا أي ; واحدة فوق واحدة.
واختلف أصحاب الهيئة هل هنّ متراكمات؟ أو متفاصلات بينهنّ خلاء؟ على قولين. والصّحيح الثّاني ; لما قدّمنا من حديث عبد اللّه بن عميرة، عن الأحنف، عن العبّاس في حديث الأوعال أنّ رسول اللّه قال: (أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَثِفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ). الحديث بتمامه رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والتّرمذيّ وحسّنه، وفي الصّحيحين من حديث أنس في حديث الإسراء قال فيه: (وَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي نِعَمَ الِابْنُ أَنْتَ). إلى أن قال: (ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ).
وكذا ذكر في الثّالثة، والرّابعة، والخامسة، والسّادسة، والسّابعة. فدلّ على التّفاصل بينها لقوله: (ثمّ عرج بنا حتّى أتينا السّماء الثّانية فاستفتح فقيل من هذا؟). إلى آخر الحديث، وهذا يدلّ على ما قلناه، واللّه أعلم.
وقد حكى ابن حزم، وابن المنادي، وأبو الفرج ابن الجوزيّ، وغير واحد من العلماء الإجماع على أنّ السّماوات كرّيّة مستديرة، واستدلّ على ذلك بقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
قال الحسن: يدورون، وقال ابن عبّاس في فلكة مثل فلكة المغزل قالوا: ويدلّ على ذلك أنّ الشّمس تغرب كلّ ليلة من المغرب، ثمّ تطلع في آخرها من المشرق كما قال أميّة بن أبي الصّلت:
والشّمس تطلع كلّ آخر ليلة. حمراء يصبح لونها يتورّد
ليست بطالعة لهم في رسلها. إلّا معذّبة وإلّا تجلد
فأمّا الحديث الّذي رواه البخاريّ حيث قال: حدّثنا محمّد بن يوسف، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه، عن أبي ذرّ قال: (قال رسول اللّه لأبي ذرّ حين غربت الشّمس: تدري أين تذهب قلت: اللّه ورسوله أعلم قال: فإنّها تذهب حتّى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]).
هذا لفظه في بدء الخلق. ورواه في التّفسير، وفي التّوحيد من حديث الأعمش أيضا. ورواه مسلم في الإيمان من طريق الأعمش، ومن طريق يونس بن عبيد، وأبو داود من طريق الحكم بن عتيبة، كلّهم عن إبراهيم بن يزيد بن شريك، عن أبيه، عن أبي ذرّ به نحوه. وقال التّرمذيّ: حسن صحيح.
إذا علم هذا، فإنّه حديث لا يعارض ما ذكرناه من استدارة الأفلاك الّتي هي السّماوات على أشهر القولين، ولا يدلّ على كرّيّة العرش كما زعمه زاعمون قد أبطلنا قولهم فيما سلف. ولا يدلّ على أنّها تصعد إلى فوق السّماوات من جهتنا حتّى تسجد تحت العرش بل هي تغرب عن أعيننا، وهي مستمرّة في فلكها الّذي هي فيه، وهو الرّابع فيما قاله غير واحد من علماء التّسيير، وليس في الشّرع ما ينفيه، بل في الحسّ وهو الكسوفات ما يدلّ عليه ويقتضيه فإذا ذهبت فيه حتّى تتوسّطه وهو وقت نصف اللّيل مثلا في اعتدال الزّمان، بحيث يكون بين القطبين الجنوبيّ والشّماليّ فإنّها تكون أبعد ما يكون من العرش ; لأنّه مقبّب من جهة وجه العالم، وهذا محلّ سجودها كما يناسبها، كما أنّها أقرب ما تكون من العرش وقت الزّوال من جهتنا، فإذا كانت في محلّ سجودها استأذنت الرّبّ جلّ جلاله في طلوعها من الشّرق، فيؤذن لها، فتبدو من جهة الشّرق، وهي مع ذلك كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم، ولهذا قال أميّة:
ليست بطالعة لهم في رسلها. إلّا معذّبة وإلّا تجلد
فإذا كان الوقت الّذي يريد اللّه طلوعها فيه من جهة مغربها تسجد على عادتها، وتستأذن في الطّلوع من عادتها فلا يؤذن لها، فجاء أنّها تسجد أيضا، ثمّ تستأذن فلا يؤذن لها، ثمّ تسجد فلا يؤذن لها، وتطول تلك اللّيلة كما ذكرنا في التّفسير، فتقول: يا ربّ إنّ الفجر قد اقترب، وإنّ المدى بعيد. فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا رآها النّاس آمنوا جميعا، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. وفسّروا بذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38].
قيل: لوقتها الّذي تؤمر فيه أن تطلع من مغربها وقيل: مستقرّها موضعها الّذي تسجد فيه تحت العرش. وقيل: منتهى سيرها وهو آخر الدّنيا، وعن ابن عبّاس أنّه قرأ: والشّمس تجري لا مستقرّ لها أي ليست تستقرّ فعلى هذا تسجد، وهي سائرة، ولهذا قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]. أي لا تدرك الشّمس القمر فتطلع في سلطانه ودولته، ولا هو أيضا {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40].
أي: ليس سابقه بمسافة يتأخّر ذاك عنه فيها بل إذا ذهب النّهار جاء اللّيل في إثره متعقّبا له كما قال في الآية الأخرى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
أي: يخلف هذا لهذا وهذا لهذا كما قال رسول اللّه : (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ). فالزّمان المحقّق ينقسم إلى ليل ونهار، وليس بينهما غيرهما ; ولهذا قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 13].
أي: يولج من هذا في هذا أي: يأخذ من طول هذا في قصر هذا فيعتدلان كما في أوّل فصل الرّبيع ; يكون اللّيل قبل ذلك طويلا والنّهار قصيرا، فلا يزال اللّيل ينقص والنّهار يتزايد حتّى يعتدلا وهو أوّل الرّبيع، ثمّ يشرع النّهار يطول ويتزايد، واللّيل يتناقص إلى آخر فصل الرّبيع، ثمّ يتراجع الأمر وينعكس الحال فيشرع النّهار يتناقص واللّيل في ازدياد حتّى يعتدلا أيضا في أوّل فصل الخريف، ثمّ يشرع اللّيل يطول ويقصر النّهار إلى آخر فصل الخريف، ثمّ يترجّح النّهار قليلا، قليلا، ويتناقص اللّيل شيئا فشيئا حتّى يعتدلا في أوّل فصل الرّبيع كما قدّمنا. وهكذا في كلّ عام، ولهذا قال تعالى: {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون: 80].
أي هو المتصرّف في ذلك كلّه الحاكم الّذي لا يخالف ولا يمانع ; ولهذا يقول في ثلاث آيات عند ذكر السّماوات، والنّجوم، واللّيل، والنّهار: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
أي العزيز الّذي قد قهر كلّ شيء، ودان له كلّ شيء فلا يمانع، ولا يغالب، العليم بكلّ شيء، فقدّر كلّ شيء تقديرا على نظام لا يختلف ولا يضطرب.
وقد ثبت في الصّحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه : (قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). وَفِي رِوايَةٍ (فَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ).
قال العلماء ; كالشّافعيّ، وأبي عبيد القاسم بن سلّام، وغيرهما: يسبّ الدّهر أي يقول فعل بنا الدّهر كذا يا خيبة الدّهر أيتم الأولاد أرمل النّساء. قال اللّه تعالى: (وَأَنَا الدَّهْرُ).
أي أنا الدّهر الّذي يعنيه فإنّه فاعل ذلك الّذي أسنده إلى الدّهر، والدّهر مخلوق، وإنّما فعل هذا هو اللّه الخالق فهو يسبّ فاعل ذلك، ويعتقده الدّهر، واللّه هو الفاعل لذلك الخالق لكلّ شيء، المتصرّف في كلّ شيء كما قال: (وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ). وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26-27].
أي فاوت بين الشّمس والقمر في نورهما، وفي شكلهما، وفي وقتهما، وفي سيرهما فجعل هذا ضياء وهو شعاع الشّمس برهان ساطع وضوء باهر، والقمر نورا، أي أضعف من برهان الشّمس، وجعله مستفادا من ضوئها، وقدّره منازل. أي يطّلع أوّل ليلة من الشّهر صغيرا ضئيلا قليل النّور لقربه من الشّمس، وقلّة مقابلته لها فبقدر مقابلته لها يكون نوره ; ولهذا في اللّيلة الثّانية يكون أبعد منها بضعف ما كان في اللّيلة الأولى فيكون نوره بضعف النّور أوّل ليلة، ثمّ كلّما بعد ازداد نوره حتّى يتكامل إبداره ليلة مقابلته إيّاها من المشرق، وذلك ليلة أربع عشرة من الشّهر، ثمّ يشرع في النّقص لاقترابه إليها من الجهة الأخرى إلى آخر الشّهر، فيستتر حتّى يعود كما بدأ في أوّل الشّهر الثّاني فبه تعرف الشّهور، وبالشّمس تعرف اللّيالي والأيّام، وبذلك تعرف السّنون والأعوام ; ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وقد بسطنا القول على هذا كلّه في التّفسير.
فالكواكب الّتي في السّماء منها سيّارات ; وهي المتحيّرة في اصطلاح علماء التّسيير، وهو علم غالبه صحيح بخلاف علم الأحكام فإنّ غالبه باطل، ودعوى ما لا دليل عليه، وهي سبعة ; القمر في سماء الدّنيا، وعطارد في الثّانية، والزّهرة في الثّالثة، والشّمس في الرّابعة، والمرّيخ في الخامسة، والمشترى في السّادسة، وزحل في السّابعة. وبقيّة الكواكب يسمّونها الثّوابت، وهي عندهم في الفلك الثّامن، وهو الكرسيّ في اصطلاح كثير من المتأخّرين.
وقال آخرون: بل الكواكب كلّها في السّماء الدّنيا، ولا مانع من كون بعضها فوق بعض. وقد يستدلّ على هذا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وَبِقَوْلِهِ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]. فخصّ سماء الدّنيا من بينهنّ بزينة الكواكب فإن دلّ هذا على كونها مرصّعة فيها فذاك وإلّا فلا مانع ممّا قاله الآخرون، واللّه أعلم.
وعندهم أنّ الأفلاك السّبعة بل الثّمانية تدور بما فيها من الكواكب الثّوابت والسّيّارات في اليوم واللّيلة دورة كلّيّة من الشّرق إلى الغرب، وعندهم أنّ كلّ واحد من الكواكب السّيّارات يدور على خلاف فلكه من المغرب إلى المشرق ; فالقمر يقطع فلكه في شهر، والشّمس تقطع فلكها وهو الرّابع في سنة فإذا كان السّيران ليس بينهما تفاوت، وحركاتهما متقاربة كان قدر السّماء الرّابعة بقدر السّماء الدّنيا ثنتي عشرة مرّة، وزحل يقطع فلكه وهو السّابع في ثلاثين سنة، فعلى هذا يكون بقدر السّماء الدّنيا ثلاثمائة وستّين مرّة.
وقد تكلّموا على مقادير أجرام هذه الكواكب وسيرها وحركاتها، وتوسّعوا في هذه الأشياء حتّى تعدّوا إلى علم الأحكام، وما يترتّب على ذلك من الحوادث الأرضيّة، وممّا لا علم لكثير منهم به. وقد كان اليونانيّون الّذين كانوا يسكنون الشّام قبل زمن المسيح عليه السّلام بدهور لهم في هذا كلام كثير يطول بسطه، وهم الّذين بنوا مدينة دمشق، وجعلوا لها أبوابا سبعة، وجعلوا على رأس كلّ باب هيكلا على صفة الكواكب السّبعة يعبدون كلّ واحد في هيكله، ويدعونه بدعاء يأثره عنهم غير واحد من أهل التّواريخ وغيرهم. وذكره صاحب " السّرّ المكتوم في مخاطبة الشّمس والقمر والنّجوم " وهو خرافات لا يلتفت إليها. وغيره من علماء الحرّنانيّين فلاسفة حرّان في قديم الزّمان، وقد كانوا مشركين يعبدون الكواكب السّبع، وهم طائفة من الصّابئين، ولهذا قال اللّه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
وقال تعالى إخبارا عن الهدهد أنّه قال لسليمان عليه السّلام مخبرا عن بلقيس وجنودها ; ملكة سبأ في اليمن وما والاها: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:23-26].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:48-50].
وَقَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. والآيات في هذا كثيرة جدّا.
ولمّا كان أشرف الأجرام المشاهدة في السّماوات والأرض هي الكواكب، وأشرقهنّ منظرا، وأشرفهنّ معتبرا الشّمس والقمر، استدلّ الخليل على بطلان إلهيّة شيء منهنّ، وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:77-79].
وثبت في الصّحيحين في صلاة الكسوف من حديث ابن عمر، وابن عبّاس، وعائشة، وغيرهم من الصّحابة (أنّ رسول اللّه قال: في خطبته يومئذ أنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه عزّ وجلّ، وإنّهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته).
وقال البخاريّ في بدء الخلق: حدّثنا مسدّد، حدّثنا عبد العزيز بن المختار، حدّثنا عبد اللّه الدّاناج حدّثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ قال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
انفرد به البخاريّ، وقد رواه الحافظ أبو بكر البزّار بأبسط من هذا السّياق فقال: حدّثنا إبراهيم بن زياد البغداديّ، حدّثنا يونس بن محمّد، حدّثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد اللّه الدّاناج سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن زمن خالد بن عبد اللّه القسريّ في هذا المسجد مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدّث قال: حدّثنا أبو هريرة أنّ رسول اللّه قال: (إنّ الشّمس والقمر ثوران في النّار يوم القيامة) فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدّثك عن رسول اللّه وتقول وما ذنبهما؟ ثمّ قال البزّار: لا يروى عن أبي هريرة إلّا من هذا الوجه، ولم يرو عبد اللّه الدّاناج، عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
وروى الحافظ أبو يعلى الموصليّ من طريق يزيد الرّقاشيّ، وهو ضعيف، عن أنس قال: قال رسول اللّه : (الشّمس والقمر ثوران عقيران في النّار). وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، وعمرو بن عبد اللّه الأوديّ، حدّثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن شيخ من بجيلة، عن ابن عبّاس {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].
قال: يكوّر اللّه الشّمس والقمر والنّجوم يوم القيامة في البحر، ويبعث اللّه ريحا دبورا فتضرمها نارا.
فدلّت هذه الآثار على أنّ الشّمس والقمر من مخلوقات اللّه خلقها اللّه لما أراد، ثمّ يفعل فيها ما يشاء، وله الحجّة الدّامغة، والحكمة البالغة، فلا يسأل عمّا يفعل لعلمه وحكمته وقدرته ومشيئته النّافذة وحكمه الّذي لا يردّ ولا يمانع ولا يغالب.
وما أحسن ما أورده الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار في أوّل كتاب "السّيرة" من الشّعر لزيد بن عمرو بن نفيل في خلق السّماء والأرض والشّمس والقمر وغير ذلك قال ابن هشام: هي لأميّة بن أبي الصّلت:
إلى اللّه أهدي مدحتي وثنائيا. وقولا رصينا لا يني الدّهر باقيا
إلى الملك الأعلى الّذي ليس فوقه. إله ولا ربّ يكون مدانيا
ألا أيّها الإنسان إيّاك والرّدى. فإنّك لا تخفي من اللّه خافيا
وإيّاك لا تجعل مع اللّه غيره. فإنّ سبيل الرّشد أصبح باديا
حنانيك إنّ الجنّ كانت رجاءهم. وأنت إلهي ربّنا ورجائيا
رضيت بك اللّهمّ ربّا فلن أرى
أدين إلها غيرك اللّه ثانيا. وأنت الّذي من فضل منّ ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا. فقلت له يا اذهب وهارون فادعوا
إلى اللّه فرعون الّذي كان طاغيا. وقولا له أأنت سوّيت هذه بلا
وتد حتّى اطمأنّت كما هيا. وقولا له أأنت رفعت هذه بلا
عمد أرفق إذا بك بانيا. وقولا له أأنت سوّيت وسطها
منيرا إذا ما جنّه اللّيل هاديا. وقولا له من يرسل الشّمس غدوة
فيصبح ما مسّت من الأرض ضاحيا. وقولا له من ينبت الحبّ في الثّرى
فيصبح منه البقل يهتزّ رابيا. ويخرج منه حبّه في رءوسه
وفي ذاك آيات لمن كان واعيا. وأنت بفضل منك نجّيت يونسا
وقد بات في أضعاف حوت لياليا. وإنّي ولو سبّحت باسمك ربّنا
لأكثر إلّا ما غفرت خطائيا. فربّ العباد ألق سيبا ورحمة
علىّ وبارك في بنيّ وماليا.
فإذا علم هذا فالكواكب الّتي في السّماء من الثّوابت والسّيّارات، الجميع مخلوقة خلقها اللّه تعالى كما قال: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12].
وأمّا ما يذكره كثير من المفسّرين في قصّة هاروت وماروت ; من أنّ الزّهرة كانت أمرأة حسناء فراوداها على نفسها، فأبت إلّا أن يعلّماها الاسم الأعظم، فعلّماها، فقالته ; فرفعت كوكبا إلى السّماء فهذا أظنّه من وضع الإسرائيليّين، وإن كان قد أخبر به كعب الأحبار، وتلقّاه عنه طائفة من السّلف فذكروه على سبيل الحكاية والتّحديث عن بني إسرائيل. وقد روى الإمام أحمد، وابن حبّان في صحيحه في ذلك حديثا ; رواه أحمد، عن يحيى بن بكير، عن زهير بن محمّد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النّبيّ ، وذكر القصّة بطولها، وفيه: (فَمَثَّلَتْ لَهُمَا الزَّهْرَةُ أمْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا). وذكر القصّة.
وقد رواه عبد الرّزّاق في تفسيره عن الثّوريّ، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر عن كعب الأحبار به. وهذا أصحّ وأثبت. وقد روى الحاكم في مستدركه، وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عبّاس فذكره. وقال فيه: وفي ذلك الزّمان امرأة حسنها في النّساء كحسن الزّهرة في سائر الكواكب. وذكر تمامه. وهذا أحسن لفظ روي في هذه القصّة، واللّه أعلم.
وهكذا الحديث الّذي رواه الحافظ أبو بكر البزّار: حدّثنا محمّد بن عبد الملك الواسطيّ، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا مبشّر بن عبيد، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن النّبيّ ، وحدّثنا عمرو بن عيسى، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر أنّ رسول اللّه ذكر سهيلا فقال: (كَانَ عَشَّارًا ظَلُومًا فَمَسَخَهُ اللَّهُ شِهَابًا).
ثمّ قال: لم يروه عن زيد بن أسلم إلّا مبشّر بن عبيد، وهو ضعيف الحديث ولا عن عمرو بن دينار إلّا إبراهيم بن يزيد، وهو ليّن الحديث. وإنّما ذكرناه على ما فيه من علّة لأنّا لم نحفظه إلّا من هذين الوجهين. قلت: أمّا مبشّر بن عبيد القرشيّ فهو أبو حفص الحمصيّ، وأصله من الكوفة فقد ضعّفه الجميع. وقال فيه الإمام أحمد، والدّارقطنيّ: كان يضع الحديث ويكذب، وأمّا إبراهيم بن يزيد فهو الخوزيّ، وهو ضعيف باتّفاقهم قال فيه أحمد، والنّسائيّ: متروك. وقال ابن معين: ليس بثقة، وليس بشيء. وقال البخاريّ: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: منكر الحديث ضعيف الحديث. ومثل هذا الإسناد لا يثبت به شيء بالكلّيّة، وإذا أحسنّا الظّنّ قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل كما تقدّم من رواية ابن عمر، عن كعب الأحبار، ويكون من خرافاتهم الّتي لا يعوّل عليها، واللّه أعلم.

الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

تعليقات

عدد التعليقات : 0