فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
باب الصفوف على الجنازة
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
الجَنَائِزِ:
بَابُ الصُّفُوفِ عَلَى الجِنَازَةِ.
١٣١٨- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ
تَقَدَّمَ، فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
الشرح:
قوله: (باب الصفوف على الجنازة) قال الزين
بن المنير ما ملخصه: إنه أعاد الترجمة؛ لأن الأولى لم يجزم فيها بالزيادة على
الصفين. وقال ابن بطال: أومأ
المصنف إلى الرد على عطاء حيث ذهب إلى أنه لا يشرع فيها تسوية الصفوف، يعني: كما
رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أحق
على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة؟ قال: لا، إنما
يكبرون ويستغفرون. وأشار المصنف بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف،
وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعا:
"من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب". حسنه الترمذي وصححه الحاكم وفي
رواية له: "إلا غفر له" قال الطبري: ينبغي لأهل الميت إذا
لم يخشوا عليه التغير أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث.
انتهى. وتعقب بعضهم الترجمة بأن أحاديث الباب ليس فيها صلاة على جنازة، وإنما فيها
الصلاة على الغائب أو على من في القبر، وأجيب: بأن الاصطفاف إذا شرع والجنازة
غائبة ففي الحاضرة أولى. وأجاب الكرماني بأن المراد بالجنازة في الترجمة
الميت سواء كان مدفونا أو غير مدفون، فلا منافاة بين الترجمة والحديث.
قوله: (عن سعيد) هو
ابن المسيب كذا رواه أصحاب معمر البصريون عنه، وكذا هو في مصنف عبد
الرزاق، عن معمر، وأخرجه النسائي، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق،
فقال فيه: "عن سعيد، وأبي سلمة". وكذا أخرجه ابن
حبان من طريق يونس، عن الزهري عنهما، وكذا
ذكره الدارقطني في "غرائب مالك" من
طريق خالد بن مخلد وغيره عن مالك، والمحفوظ عن مالك ليس
فيه ذكر أبي سلمة، كذا هو في "الموطأ"، وكذا أخرجه المصنف كما تقدم
في أوائل الجنائز، والمحفوظ عن الزهري أن نعي النجاشي والأمر
بالاستغفار له عنده عن سعيد وأبي سلمة جميعا. وأما قصة الصلاة عليه
والتكبير، فعنده عن سعيد وحده، كذا فصله عقيل عنه، كما سيأتي
بعد خمسة أبواب، وكذا يأتي في هجرة الحبشة من طريق صالح بن
كيسان عنه، وذكر الدارقطني في "العلل" الاختلاف فيه،
وقال: إن الصواب ما ذكرناه.
قوله: (نعى النجاشي) بفتح
النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة، ثم ياء ثقيلة كياء النسب، وقيل: بالتخفيف،
ورجحه الصغاني، وهو لقب من ملك الحبشة، وحكى المطرزي تشديد الجيم
عن بعضهم وخطأه.
قوله: (ثم تقدم) زاد ابن
ماجه من طريق عبد الأعلى، عن معمر: "فخرج وأصحابه إلى البقيع،
فصفنا خلفه". وقد تقدم في أوائل الجنائز من رواية مالك بلفظ:
"فخرج بهم إلى المصلى". والمراد بالبقيع بقيع بطحان، أو يكون
المراد بالمصلى موضعا معدا للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين
والأول أظهر، وقد تقدم في العيدين أن المصلى كان ببطحان، والله أعلم.
١٣١٩- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى قَبْرٍ
مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ، قَالَ:
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الشرح:
قوله: (حدثنا مسلم) هو ابن إبراهيم، وحديث ابن عباس المذكور سيأتي الكلام عليه بعد اثني عشر بابا.
١٣٢٠- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُمْ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«قَدْ تُوُفِّيَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ
الحَبَشِ، فَهَلُمَّ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ»، قَالَ: فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى
النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ
صُفُوفٌ. قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي.
الشرح:
قوله: «قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش» بفتح
المهملة والموحدة بعدها معجمة، في رواية مسلم من طريق يحيى بن سعيد،
عن ابن جريج: "مات
اليوم عبد لله صالح أصحمة". وللمصنف في
هجرة الحبشة من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة". وسيأتي
ضبط هذا الاسم بعد في "باب التكبير على الجنازة".
قوله: (فصلى النبي ﷺ) زاد المستملي في روايته "ونحن
صفوف" وبه يصح مقصود الترجمة. وقال الكرماني: يؤخذ مقصودها من قوله:
"فصففنا"؛ لأن الغالب أن الملازمين له ﷺ
كانوا كثيرا، ولا سيما مع أمره لهم بالخروج إلى المصلى.
قوله: (قال أبو الزبير،
عن جابر كنت في الصف الثاني) وصله النسائي من طريق شعبة،
عن أبي الزبير بلفظ: "كنت في الصف الثاني يوم صلى النبي ﷺ على النجاشي". ووهم من نسب وصل هذا
التعليق لرواية مسلم، فإنه أخرجه من طريق أيوب، عن أبي
الزبير وليس فيه مقصود التعليق. وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على
الجنازة تأثيرا ولو كان الجمع كثيرا؛ لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه ﷺ كانوا عددا كثيرا، وكان المصلى فضاء، ولا يضيق بهم
لو صفوا فيه صفا واحدا، ومع ذلك فقد صفهم، وهذا هو الذي فهمه مالك بن
هبيرة الصحابي المقدم ذكره، فكان يصف من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف
سواء قلوا أو كثروا، ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف والعدد قليل، أو كان
الصف واحدا والعدد كثير أيهما أفضل؟ وفي قصة النجاشي علم من أعلام النبوة؛ لأنه ﷺ أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بعد ما
بين أرض الحبشة والمدينة. واستدل به على
منع الصلاة على الميت في المسجد وهو قول الحنفية والمالكية، لكن
قال أبو يوسف: إن
أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس. قال النووي: ولا
حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو
كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزيزة وغيره:
استدل به بعض المالكية، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج
بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه ﷺ
صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ بل
الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه،
ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد
روى ابن أبي حاتم في التفسير من
طريق ثابت، والدارقطني في "الأفراد"، والبزار من طريق حميد كلاهما عن أنس: أن
النبي ﷺ لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه:
صلى على علج من الحبشة، فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل
عمران: ١٩٩] الآية. وله
شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي بن حرب وآخر عنده في الأوسط
من حديث أبي سعيد، وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا، واستدل به على
مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي، وأحمد وجمهور
السلف، حتى قال ابن حزم: لم
يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له،
وهو إذا كان ملففا يصلى عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه
الذي يدعى له به وهو ملفف؟ وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك، وعن بعض أهل العلم
إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب منه لا ما إذا طالت المدة
حكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن كان
في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز، قال المحب الطبري: لم
أر ذلك لغيره، وحجته حجة الذي قبله: الجمود على قصة النجاشي، وستأتي حكاية
مشاركة الخطابي لهم في هذا الجمود. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على
الغائب عن قصة النجاشي بأمور: منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت
الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا
إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه. واستحسنه الروياني من الشافعية،
وبه ترجم أبو داود في السنن: "الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك
ببلد آخر". وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل
عليه في بلده أحد، ومن ذلك قول بعضهم: كشف له ﷺ
عنه حتى رآه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه، ولم يره المأمومون
ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا
يثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع،
وكأن مستند قائل ذلك ما ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد عن ابن
عباس قال: كشف للنبي ﷺ عن سرير النجاشي
حتى رآه وصلى عليه. ولابن
حبان من حديث عمران بن حصين: "فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن
جنازته بين يديه". أخرجه من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير،
عن أبي قلابة، عن أبي المهلب عنه، ولأبي عوانة من
طريق أبان وغيره عن يحيى: "فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن
الجنازة قدامنا". ومن الاعتذارات أيضا أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه
ﷺ صلى على ميت غائب غيره، قال المهلب: وكأنه
لم يثبت عنده قصة معاوية الليثي، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي
بالنظر إلى مجموع طرقه، واستند من قال بتخصيص النجاشي لذلك إلى ما تقدم من إرادة
إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته، قال النووي: لو
فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه
لتوفرت الدواعي على نقله. وقال ابن العربي المالكي: قال المالكية: ليس ذلك
إلا لمحمد. قلنا:
وما عمل به محمد تعمل به أمته، يعني: لأن الأصل عدم الخصوصية. قالوا:
طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه. قلنا: إن ربنا عليه لقادر، وإن نبينا
لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا
تحدثوا إلا بالثابتات، ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف، إلى ما ليس له تلاف.
وقال الكرماني: قولهم:
رفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي
ﷺ. قلت: وسبق إلى ذلك الشيخ أبو
حامد في تعليقه، ويؤيده حديث مجمع بن جارية-
بالجيم والتحتانية- في قصة الصلاة على
النجاشي قال: "فصففنا خلفه صفين، وما نرى شيئا". أخرجه الطبراني،
وأصله في ابن ماجه، لكن أجاب بعض الحنفية عن ذلك بما تقدم من أنه يصير كالميت
الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمومون، فإنه جائز اتفاقا.
(فائدة): أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب
أن ذلك يسقط فرض الكفاية، إلا ما حكي عن ابن القطان أحد أصحاب الوجوه من
الشافعية أنه قال: يجوز ذلك ولا يسقط الفرض. وسيأتي الكلام على الاختلاف في عدد
التكبير على الجنازة في باب مفرد.
الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا
بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال