باب زيادة الإيمان ونقصانه
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر
باب زيادة
الإيمان ونقصانه
فتح
الباري شرح صحيح البخاري: كتاب الإيمان بَابُ زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: ١٣]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: ٣١]، وَقَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ
حَدَّثَنَا
مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ
مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ
خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي
قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ».
قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«مِنْ إِيمَانٍ» مَكَانَ «مِنْ خَيْرٍ».
الشرح:
قوله:
(باب زيادة الإيمان ونقصانه) تقدم له قبل بستة عشر بابا "باب تفاضل أهل
الإيمان في الأعمال" وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي
أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه بأن الحديث لما كانت الزيادة
والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق، ترجم لكل من الاحتمالين، وخص
حديث أبي سعيد بالأعمال لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس
ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبرة والذرة، قال بن
بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلا
بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة أو شعيرة، إلا أن أصل التصديق
الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم
والمعاينة، انتهى.
وقد
تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يشير إلى هذا المعنى، ووقع الاستدلال في هذه
الآية بنظير ما أشار إليه البخاري لسفيان بن عيينة، أخرجه أبو نعيم في ترجمته من
الحلية من طريق عمرو بن عثمان الرقي قال: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون: الإيمان
كلام، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا: «لا إله إلا
الله» فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة
ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار.
فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما
تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] الآية. فمن ترك شيئا من ذلك
كسلا أو مجونا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كان كافرا، انتهى
ملخصا.
وتبعه أبو عبيد في كتاب الإيمان له فذكر نحوه
وزاد: إن بعض المخالفين لما الزم بذلك أجاب بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما
الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال جزآن لأنها فرائض ونوافل، وتعقبه أبو
عبيد بأنه خلاف ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ
الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ١٩]، والإسلام حيث أطلق
مفردا دخل فيه الإيمان كما تقدم تقريره. فإن قيل: فلم أعاد في هذا الباب الآيتين
المذكورتين فيه وقد تقدمتا في أول كتاب الإيمان؟ فالجواب: أنه أعادهما ليوطئ بهما
معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة، لأن الاستدلال بهما نص في الزيادة، وهو
يستلزم النقص.
وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه
للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: "فإذا ترك شيئا من الكمال
فهو ناقص" ولهذه النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين حيث
قال أولا: "وقول الله" وقال ثانيا: "وقال" وبهذا التقرير
يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} لا دليل فيها على مراده. لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على
المخالفين، أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين فلا حجة للمصنف فيه، وإن كان
بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصا، وأن من مات من الصحابة قبل
نزول الآية كان إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك لأن الإيمان لم يزل تاما.
ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي بأن النقص أمر
نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب، فالأول: ما نقصه بالاختيار
كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدا، والثاني: ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو
لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنا بأنه لو زيد لقبل ولو
كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض. ومحصله أن النقص
بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى. وهذا نظير قول من
يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في
الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملا، وتجدد في شرع عيسى بعده
ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر. والله أعلم.
قوله: (هشام) هو بن أبي عبد الله
الدستوائي، يكنى أبا بكر، وفي طبقته هشام بن حسان، لكنه لم يرو هذا الحديث.
قوله: (يخرج) بفتح أوله وضم الراء،
ويروى بالعكس، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: "أخرجوا". قوله: (من قال
لا إله إلا الله وفي قلبه) فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول
هنا القول النفسي، فالمعنى من أقر بالتوحيد وصدق، فالإقرار لا بد منه، فلهذا أعاده
في كل مرة. والتفاوت يحصل في التصديق على الوجه المتقدم. فإن قيل: فكيف لم يذكر
الرسالة؟ فالجواب: أن المراد المجموع، وصار الجزء الأول علما عليه كما تقول: قرأت
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: السورة كلها.
قوله: (برة) بضم الموحدة وتشديد
الراء المفتوحة، وهي: القمحة، ومقتضاه أن وزن البرة دون وزن الشعيرة لأنه قدم
الشعيرة وتلاها بالبرة ثم الذرة، وكذلك هو في بعض البلاد فإن قيل إن السياق بالواو
وهي لا ترتب، فالجواب: أن رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم" وهي
للترتيب.
قوله: (ذرة) بفتح المعجمة وتشديد
الراء المفتوحة، وصحفها شعبة فيما رواه مسلم من طريق يزيد بن زريع عنه، فقال: ذرة
بالضم وتخفيف الراء، وكأن الحامل له على ذلك كونها من الحبوب فناسبت الشعيرة
والبرة. قال مسلم في روايته قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، يعني: شعبة، ومعنى
الذرة قيل: هي أقل الأشياء الموزونة، وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل
رؤوس الإبر، وقيل: هي النملة الصغيرة، ويروى عن بن عباس أنه قال: إذا وضعت كفك في
التراب ثم نفضتها فالساقط هو الذر. ويقال: إن أربع ذرات وزن خردلة، وللمصنف في
أواخر التوحيد من طريق حميد عن أنس مرفوعا "أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة
ثم من كان في قلبه أدنى شيء" وهذا معنى الذرة.
قوله: (قال أبان) هو بن يزيد
العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة. قال:
حدثنا أبان بن يزيد. فذكر الحديث. وفائدة إيراد المصنف له من جهتين: إحداهما تصريح
قتادة فيه بالتحديث عن أنس، ثانيتهما تعبيره في المتن بقوله: "من إيمان"
بدل قوله: "من خير" فبين أن المراد بالخير هنا الإيمان. فإن قيل: على
الأولى لم لم يكتف بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها موصولة؟ فالجواب: أن
أبان وإن كان مقبولا لكن هشام أتقن منه وأضبط. فجمع المصنف بين المصلحتين. والله
الموفق.
وسيأتي الكلام على بقية هذا المتن
في كتاب التوحيد حيث ذكر المصنف حديث الشفاعة الطويل من هذا الوجه، ورجال هذا
الحديث موصولا ومعلقا كلهم بصريون.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: