شرح حديث (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) - فذكر
باب أمر وُلاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم
والشفقة عليهم والنهي عن غشهم والتشديد عليهم وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن
حوائجهم
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
أحاديث
رياض الصالحين: باب أمر وُلاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم
٦٦٠ -
وعن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ
يقُولُ في بيتي هَذَا: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ
أَمْرِ أُمَّتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ
أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ.
٦٦١
- وعن أَبي هريرةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما
هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي
خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ»، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟
قَالَ: «أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ،
ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه
سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم» متفقٌ عليه.
الشرح:
قال
المؤلف الحافظ النووي في (رياض الصالحين) في باب أمر ولاة الأمور بالرفق واللين،
ورعاية مصالح من استرعاهم الله عليهم. قال في سياق الأحاديث ما نقله عن عائشة -رضي
الله عنها- قالت: سمعت النبي ﷺ
في بيتي هذا يقول: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا
فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه».
وهذا
دعاء من النبي ﷺ
على من تولى أمور المسلمين الخاصة والعامة؛ حتى الإنسان يتولى أمر بيته، وحتى مدير
المدرسة يتولى أمر المدرسة، وحتى المدرس يتولى أمر الفصل، وحتى الإمام يتولى أمر
المسجد.
ولهذا
قال: «من ولي من أمر أمتي شيئا»، «وشيئًا» نكرة في سياق الشرط، وقد ذكر علماء الأصول أن
النكرة في سياق الشرط تفيد العموم؛ أي شيء يكون، «فرفق
بهم فارفق به»، ولكن ما معنى الرفق؟
قد
يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون، وليس الأمر
كذلك؛ بل الرفق أن تسير بالناس حسن أمر الله ورسوله، ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق
الطرق الناس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، فإن شققت عليهم في
شيء ليس عليه أمر الله ورسوله؛ فإنك تدخل في الطرف الثاني من الحديث؛ وهو الدعاء
أن الله يشقق عليك -والعياذ بالله.
يشق
عليه إما بآفات في بدنه، أو في قلبه، أو في صدره، أو في أهله، أو في غير ذلك؛ لأن
الحديث مطلق «فاشقق عليه» بأي شيء يكون، وربما
لا تظهر للناس المشقة، وقد يكون في قلبه نار تلظى والناس لا يعلمون، لكن نحن نعلم
أنه إذا شق على الأمة بما لم ينزل به الله سلطانًا؛ فإنه مستحق لهذه الدعوة من
رسول الله ﷺ.
أما
الحديث الثاني: فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر بأن بني إسرائيل كانت تسوسهم
الأنبياء؛ أي: تُبعث فيهم الأنبياء فيصلحون من أحوالهم، "وإنه لا نبي
بعدي" فإنّ النبي ﷺ
خاتم النبيين بالنص والإجماع كما قال الله تعالى: {مَا
كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: ٤٠].
ولهذا
من ادَّعى النبوة بعده؛ فهو كافر مرتد يجب قتله، ومن صدّق من ادعى النبوة بعده؛
فهو كاذب مرتد يجب قتله إلا أن يتوب، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هو خاتم الأنبياء،
ولكن جعل الله له خلفاء؛ خلفاء في العلم، وخلفاء في السلطة، والمراد بالخلفاء في
هذا الحديث: خلفاء السلطة.
ولهذا
قال: "سيكون خلفاء ويكثرون" قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ يعني: من
نفي ببيعته؟ قال: "الأول فالأول" فإذا بايعوا الخليفة وجب عليهم أن يبقوا
على بيعتهم، وأن ينبذوا كلّ من أراد الخلافة وهو حي، وأن يعينوا الخليفة الأول على
من أراد الخلافة في حياته، لأن كل من نازع السلطان في سلطانه؛ فإنه يجب أن يُقاتل؛
حتى تكون الأمة واحدة، فإن الناس لو تركوا فوضى، وصار كل من لا يريد هذا السلطان
يذهب ويتخذ له حزبًا يقاتل به السلطان؛ فسدت الأمور.
وفي
آخر الحديث أن النبي ﷺ
حمل هؤلاء الخلفاء ما عليهم، وأمرنا نحن أن نوفي لهم بحقهم، ونسأل الله الذي لنا،
لا نقل هؤلاء ظلموا هؤلاء جاروا، هؤلاء لم يقوموا بالعدل، ثم ننابذهم ولا نطيعهم
فيما أمرنا الله به، لا، هذا لا يجوز، يجب أن نوفي لهم بالحق، وأن نسأل الله الحق
الذي لنا، كالإنسان الذي له قريب إذا قطعك فصِله، وأسأل الله الذي لك، أما أن تقول
لا أصلُ إلا من وصلني، أو لا أطيع من السلطان إلا من لا يظلم ولا يستأثر بالمال
ولا غيره، فهذا خطأ، قم أنت بما يجب عليك، واسأل الله الذي لك.
وفي
قول النبي ﷺ:
"تسوسهم الأنبياء" دليلٌ على أن دين الله- وهو دين الإسلام في كل مكان
وفي كل زمان- هو السياسة الحقيقية النافعة، وليست السياسة التي يفرضها أعداء
الإسلام من الكفار.
السياسة
حقيقة ما جاء في شرع الله، ولهذا نقول إن الإسلام شريعة وسياسة، ومن فرق بين
السياسة والشريعة فقد ضلّ؛ ففي الإسلام سياسة الخلق مع الله، وبيان العبادات،
وسياسة الإنسان مع أهله، ومع جيرانه، ومع أقاربه، ومع أصحابه، ومع تلاميذه، ومع
معلميه، ومع كل أحد؛ كل له سياسة تخصه، سياسة مع الأعداء الكفار، ما بين حربيين
ومعاهدين ومستأمنين وذميين.
وكل
طائفة قد بيّن الإسلام حقوقهم، وأمر أن نسلك بهم كما يجب، فمثلًا الحربيون
نحاربهم، ودماؤهم حلال لنا، وأموالهم حلال لنا، وأراضيهم حلال لنا.
والمستأمنون
يجب أن نؤمنهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: ٦].
والمعاهدون
يجب أن نوفي لهم بعهدهم، ثم إما أن نطمئن إليهم، أو نخاف منهم، أو ينقضوا العهد.
ثلاث
حالات كلها مبينة في القرآن؛ فإن اطمأنننا إليهم وجب أن نفي لهم بعهدهم، وإن
خفناهم فقد قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَأنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨]، قل لهم: ليس بيننا عهدٌ إذا خفت
منهم، ولا تنقض العهد دون أن تخبرهم.
والثالث
هم الذين نقضوا العهد: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَأنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}
[التوبة: ١٢]، إذا نقضوا العهد فلا إيمان لهم ولا عهد لهم، فالمهم أن الدين دين
الله وأن الدين سياسة: سياسة شرعية، سياسة اجتماعية، سياسة مع الأجانب، ومع
المسالمين، ومع كل أحد.
ومن
فصل الدين عن السياسة فقد ضل؛ وهو بين أمرين:
إما
جاهل بالدين ولا يعرف، ويظن أن الدين عبادات بين الإنسان وربه، وحقوق شخصية وما
أشبه ذلك؛ يطن أن هذا هو الدين فقط.
أو
أنه قد بهره الكفرة وما هم عليه من القوة المادية، فظن أنهم هم المصيبون.
وأما
من عرف الإسلام حق المعرفة عرف أنه شريعة وسياسة، والله الموفق.
ليست هناك تعليقات: