شرح حديث (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه) فذكر
باب تحريم الكِبْر والإِعجاب
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن
عثيمين رحمه الله
أحاديث رياض الصالحين: باب تحريم
الكِبْر والإِعجاب
٦٢٢ - وَعنْ أبي هريرة -رَضِّيَّ
اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ:
«ثَلاثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّه يوْمَ
الْقِيَامةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلا ينْظُرُ إلَيْهِمْ، ولَهُمْ عذَابٌ أليمٌ:
شَيْخٌ زَانٍ، ومَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِل مُسْتَكْبِرٌ» رواهُ مسلم.
العَائِل: الفقير.
٦٢٣ - وعن أبي هريرة -رَضِّيَّ اللهُ
عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ:
«قَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: العِزُّ إِزاري،
والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه»
رواه مسلم.
٦٢٤ - وعن أبي هريرة -رَضِّيَّ اللهُ
عَنْهُ- أَنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «بيْنَمَا
رَجُلٌ يَمْشِي في حُلَّةٍ تُعْجِبُه نَفْسُه، مُرَجِّلٌ رأسَه، يَخْتَالُ فِي
مِشْيَتِهِ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ في الأَرْضِ إِلَى
يوْمِ القِيامةِ» متفقٌ عَلَيْهِ.
«مُرَجِّلٌ رأسَه» أي: ممشطه.
«يَتَجَلْجَلُ» بالجيمين، أي: يغوص وينزل.
الشرح:
هذه الأحاديث ساقها النووي -رحمه
الله- في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم الكبر والإعجاب، فذكر عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم».
«ثلاثة» يعني: ثلاثة أصناف، وليس
المراد ثلاثة رجال، بل قد يكون آلاف الناس، لكن المراد ثلاثة أصناف. وهكذا كلما
جاءت كلمة ثلاثة أو سبعة أو ما أشبه ذلك فالمراد أصنافًا لا أفرادًا.
فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله يوم
القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
الأول شيخ زانٍ: شيخ يعني: رجلًا
كبيرًا مسنًا زانٍ، يعني: أنه زنى، فهذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر
اليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم؛ وذلك لأن الشيخ إذا زنى فليس هناك شهوة تجبره على
أن يفعل هذا الفعل.
فالشاب قد يكون عنده شهوة ويعجز أن
يملك نفسه، لكن الشيخ قد بردت شهوته وزالت أو نقصت كثيرًا، فكونه يزني هذا يدل على
أنه -والعياذ بالله- سيئٌ للغاية؛ لأنه فعل الفاحشة من غير سبب قوي يدفعه إليها.
والزنى كله فاحشة سواء من الشاب أو
من الشيخ، لكنه من الشيخ أشد وأعظم -والعياذ بالله- إلا أن هذا الحديث مقيدٌ بما
ثبت في الصحيحين أن من أتى شيئًا من هذه القاذورات، وأقيم عليه الحد في الدنيا،
فإن الله تعالى لا يجمع عليه عقوبتين بل يزول عنه ذلك، ويكون الحد تطهيرًا له.
الثاني ملك كذَّاب: وكذاب هذه صيغة
مبالغة أي: كثير الكذب؛ وذلك لأن الملك لا يحتاج أن يكذب، كلمته هي العليا بين
الناس، فلا حاجة إلى أن يكذب، فإذا كذب صار يعدُ الناس ولكن لا يوفي، يقول سأفعل
كذا ولكن لا يفعل، سأترك كذا ولكن لا يترك، ويحدث الناس يلعب بعقولهم ويكذب عليهم،
فهذا -والعياذ بالله- داخل في هذا الوعيد، لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر
إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والكذب حرامٌ من الملك وغير الملك،
لكنه من الملك أعظم وأشد؛ لأنه لا حاجة إلى أن يكذب، كلمته بين الناس هي العليا
فيجب عليه أن يكون صريحًا، إذا كان يريد الشيء يقول: نعم، يوافق عليه ويفعل، وإذا
كان لا يريده يقول: لا، يرفضه ولا يفعل، الواحد من الرعية قد يحتاج إلى الكذب
فيكذب، ولكن الملك لا يحتاج.
والكذب حرام، ومن صفات المنافقين -والعياذ
بالله- فإن المنافق إذا حدث كذب، ولا يجوز لأحد أن يكذب مطلقًا، وقول بعض العامة:
إن الكذب إذا كان لا يقطع مُحلاًّ من حلاله فلا بأس به، هذه قاعدة شيطانية، ليس
لها أساس من الصحة ولا من الدين، والصواب أن الكذب حرامٌ بكل حال.
الثالث عائل مستكبر: وهذا هو الشاهد
من الحديث، عائل يعني: فقيرًا، مستكبر يعني: يتكبر على الناس -والعياذ بالله- فإن
هذا العائل الفقير ليس عنده ما يوجب الكبر، والغني ربما يخدعه غناه ويغرّه؛ فيتكبر
على عباد الله، أو يتكبر عن الحق، لكن الفقير حشف وسوء كيلة، ما دام فقيرًا فكيف
يستكبر؟ فالعائل المستكبر هذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا
يزكيه وله عذاب أليم.
والكبر حرامٌ من الغني ومن الفقير،
لكنه من الفقير أشد، ولهذا تجد الناس إذا رأوا غنيًا متواضعًا استغربوا ذلك منه،
واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغني في غاية ما يكون من الخلق النبيل، لكن لو
يجدون فقيرًا متواضعًا لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛
لأنه لأي شيء يستكبر؟ فإذا جاء إنسان -والعياذ بالله- عائل فقير يستكبر على الخلق،
أو يستكبر عن الحق، فليس هناك ما يوجب الكبرياء في حقه فيكون -والعياذ بالله-
داخلًا في الحديث.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- فيما ساقه
من الأدلة على تحريم الكبر والإعجاب، وأنه من كبائر الذنوب، عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «العز
إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته».
هذا من الأحاديث القدسية التي يرويها
النبي ﷺ عن الله، وهي ليست في مرتبة القرآن،
فالقرآن له أحكام تخصه، منها أنه معجزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه،
أو بسورة أو بحديث مثله، وأنه لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وأن الصلاة تصح إذا
قرأ المصلى من القرآن؛ بل تجب القراءة بالفاتحة، أما الأحاديث القدسية فليست كذلك.
ثم القرآن محفوظ لا يزاد فيه ولا
ينقص، ولا ينقل بالمعنى، وليس فيه شيء ضعيف، أما الأحاديث القدسية فإنها تروى
بالمعنى، وفيها أحاديث ضعيفة، وفيها أحاديث مكذوبة على الرسول ﷺ
ليست بصحيحة وهو كثير، فالمهم أنه ليس في منزلة القرآن إلا أنه يُقال إن النبي ﷺ
يرويه عن ربه.
فالله تعالى يقول: «العز إزاري
والكبرياء ردائي» وهذا من الأحاديث التي تمر كما جاءت عن النبي ﷺ،
ولا يتعرض لمعناها بتحريف أو تكييف، وإنما يُقال هكذا قال الله تعالى فيما رواه
النبي ﷺ عنه، فمن نازع الله في عزته وأراد
أن يتخذ سلطانًا كسلطان الله، أو نازع الله في كبريائه وتكبر على عباد الله، فإن
الله يعذبه، يعذبه على ما صنع ونازع الله تعالى فيما يختص به.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- حديث أبي
هريرة الآخر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «بينما
رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجلٌ رأسه، يختال في مشيته» أي: عنده من
الخيلاء والكبرياء والغطرسة ما عنده "إذ خسف الله به" أي: خسف به الأرض «فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» يعني: انهارت
به الأرض وانغمس فيها واندفن، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة؛ لأنه -والعياذ
بالله- لما صار عنده هذا الكبرياء وهذا التيه وهذا الإعجاب خسف به.
وهذا نظير قارون الذي ذكره المؤلف -رحمه
الله- في صدر الباب، فإن قارون خرج على قومه في زينته: {قَالَ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ
قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا
يُلَقَّاهَا إِلَّا الصاَبِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ
لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: ٧٩-٨١].
وقوله: «يتجلجل في الأرض» يحتمل أنه
يتجلجل وهو حي حياة دنيوية، فيبقى هكذا معذبًا إلى يوم القيامة، معذبًا وهو في جوف
الأرض وهو حي، فيتعذب كما يتعذب الأحياء، ويحتمل أنه لما اندفن مات، كما هي سنة
الله عزّ وجلّ، مات ولكن مع ذلك يتجلجل في الأرض وهو ميت، فيكون تجلجله هذا
تجلجلًا برزخيًا لا تُعلم كيفيته، والله أعلم. المهم أن هذا جزاؤه والعياذ بالله.
وفي هذا وما قبله وما يأتي بعده
دليلٌ على تحريم الكبر وتحريم الإعجاب، وأن الإنسان يجب عليه أن يعرف قدر نفسه
وينزلها منزلتها، والله الموفق.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم
مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا
ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: