شرح حديث / ازهد في الدنيا يحبك الله
باب
فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث / ازهد في الدنيا يحبك الله
أحاديث
رياض الصالحين: باب فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر
٤٧٥ - وعن
ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: أَخَذ رسول اللَّه ﷺ بِمَنْكِبَيَّ،
فقال: «كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ
عَابِرُ سبيلٍ».
وَكَانَ
ابنُ عمرَ -رضي اللَّه عنهما- يقول: إِذَا أَمْسيْتَ، فَلا تَنْتظِرِ الصَّباحَ،
وإِذَا أَصْبحْت، فَلا تنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ منْ صِحَّتِكَ لمرضِكَ، ومِنْ
حياتِك لِموتكَ. رواه البخاري.
قالوا
في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه: لاَ تَركَن إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ تَتَّخِذْهَا
وَطَنًا، وَلاَ تُحدِّثْ نَفْسكَ بِطُول الْبقَاءِ فِيهَا، وَلا بالاعْتِنَاءِ
بِهَا، وَلاَ تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلاَّ بِما يَتَعَلَّقُ بِه الْغَرِيبُ في غيْرِ
وطَنِهِ، وَلاَ تَشْتَغِلْ فِيهَا بِما لاَ يشتَغِلُ بِهِ الْغرِيبُ الَّذِي
يُريدُ الذَّهاب إِلَى أَهْلِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقٌ.
٤٧٦ - وعن
أَبي الْعبَّاس سَهْلِ بنِ سعْدٍ السَّاعديِّ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جاءَ
رجُلٌ إِلَى النبيِّ ﷺ: فقالَ: يَا رسولَ
اللَّه دُلَّني عَلى عمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ أَحبَّني اللَّه، وَأَحبَّني النَّاسُ،
فقال: «ازْهَدْ
في الدُّنيا يُحِبَّكَ اللَّه، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحبَّكَ
النَّاسُ» حديثٌ حسنٌ رواه
ابن مَاجَه وغيره بأَسانيد حسنةٍ.
٤٧٧ - وعن
النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ، رضيَ اللَّه عنهما، قالَ: ذَكَر عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب -رَضِّيَّ
اللهُ عَنْهُ- مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: "لَقَدْ
رَأَيْتُ رسول اللَّه ﷺ يَظَلُّ الْيَوْمَ
يَلْتَوي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَل مَا يمْلأُ بِهِ بطْنَهُ". رواه مسلم.
"الدَّقَلُ"
بفتح الدال المهملة والقاف: رَدِئُ التَّمْرِ.
٤٧٨ - وعن
عائشةَ -رضي اللَّه عنها- قالت: تُوفِّيَ رسولُ اللَّه ﷺ،
وَمَا في بَيْتي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعيرٍ في رَفٍّ
لي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَال علَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. متفقٌ عليه.
"شَطْرُ
شَعيرٍ" أَي: شَيْء مِنْ شَعيرٍ. كَذا فسَّرهُ التِّرمذيُّ.
٤٧٩ -
وعن عمر بنِ الحارِث أَخي جُوَيْرِية
بنْتِ الحَارثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ -رضي اللَّه عنهما- قال: «مَا تَرَكَ رسولُ
اللَّه ﷺ، عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَاراً
وَلا دِرْهَماً، ولا عَبْداً، وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئاً إِلاَّ بَغْلَتَهُ
الْبَيْضَاءَ الَّتي كَان يَرْكَبُهَا، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضاً جَعَلَهَا لابْنِ
السَّبيِلِ صَدَقَةً» رواه البخاري.
الشرح:
هذه
الأحاديث التي ساقها المؤلف -رحمه الله تعال- في باب الزهد في الدنيا وترك
المكاثرة فيها والرغبة في الآخرة، والمتاجرة فيها، فذكر حديث ابن عمر -رضي الله
عنهما- قال: أخذ النبي ﷺ بمنكبي، وأخذ بمنكبه
من أجل أن يستعد لما يلقيه عليه فينتبه فقال: «كن في
الدّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» يحتمل أن هذا من باب الشك، أي: أن الراوي
شك، هل قال رسول الله ﷺ الأول أو الثاني.
ويحتمل
أنه من باب التنويع، يعني: كن كالغريب الذي يداخل الناس ولا يهتم بالناس، ولا يعرف
بين الناس، أو كأنك عابر سبيل تريد أن تأخذ ما تحتاجه في سفرك وأنت ماش.
وهذا
التمثيل الذي ذكره النبي ﷺ هو الواقع؛ لأن
الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فالدنيا ليست دار مقر؛ بل هي دار ممر، سريعٌ راكبه
لا يفتر ليلًا ولا نهارًا، فالمسافر ربما ينزل منزلًا فيستريح، ولكن مسافر الدنيا
لا ينزل، هو دائمًا في سفر، كل لحظة فإنك تقطع بها شوطًا من هذه الدنيا لتقرب من
الآخرة.
فما ظنكم بسفر لا يفتأ صاحبه يمشي ويسير. اليس ينتهي بسرعة؟
الجواب:
بلى، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}
[النازعـات: ٤٦].
وينبغي
للإنسان أن يقيس ما يستقبل من عمره بما مضي، فالذي مضى كأنه لا شيء، حتى أمسك
الأدنى، كأنك لم تمر به، أو كأنه حلم، وكذلك فما يستقبل من دنياك، فهو كالذي تقدم،
ولهذا لا ينبغي الركون إلى الدنيا ولا الرضا بها؛ وكأن الإنسان مخلد فيها.
ولذلك كان ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء؛ فإنك قد تموت
قبل أن تمسي. وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح؛ فإنك قد تموت قبل أن تصبح، ولكن انتهز
الفرصة، لا تؤخر العمل، لا تركن إلى الدنيا فتؤمل البقاء مع أنك لا تدري.
«وخذ
من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» انتهز الصحة، انتهز الحياة، فإنك قد تمرض فتعجز،
وقد تفتقر فتعجز، وقد تموت فينقطع عملك.
ثم ذكر أحاديث في هذا المعنى، منها: «أن النبي ﷺ مات
ولم يترك شيئاً مما يأكله ذو كبد رطبة إلا شيئاً من الشعير» كما قالت ذلك عائشة أم
المؤمنين -رضي الله عنها-: «لم يترك إلا شيئاً من الشعير» ومع ذلك
فإنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بشعير أخذه لأهله. اضطر عليه الصلاة والسلام،
فأخذ من هذا اليهودي شعيراً، ابتاعه منه ورهنه درعه، فمات وهي مرهونة عنده عليه
الصلاة والسلام.
وهذا يدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- أزهد الناس في الدنيا إذ لو شاء أن تصير
معه الجبال ذهباً لصارت، ولكنه لا يريد هذا، يريد أن يتقلل من الدنيا حتى يخرج
منها لا عليه ولا له منها؛ بل كان -عليه الصلاة والسلام- يعطي عطاء من لا يخشى
الفاقة، ويعيش عيشة الفقراء. والله الموفق.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: