Top Ad unit 728 × 90

باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم

شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله

باب – إجراء – أحكام – الناس – على – الظاهر - وسرائرهم

باب إجراء أحكام الناس عَلَى الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى


أحاديث رياض الصالحين: باب إجراء أحكام الناس عَلَى الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى.

قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: ٥].

٣٩٥- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أَنَّ رسولَ اللَّه قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّه تَعَالَى» [١] متفقٌ عَلَيهِ.

٣٩٦- وعن أَبي عبدِ اللَّه طَارِقِ بن أشيم رضي اللَّه عنه، قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه يَقُولُ: «مَنْ قالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، محمدٌا رسولُ الله، وَكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ حَرُمَ مالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسابُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى» [٢] رواه مسلم.

٣٩٧- وعن أَبي مَعْبدٍ المِقْدَادِ بنِ الأَسْوَدِ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قُلْتُ لرسُولِ اللَّه : أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للَّهِ، أَأَقْتُلُهُ يَا رسولَ اللَّه بَعْدَ أَنْ قَالَها؟ فَقَالَ: «لا تَقْتُلْهُ»، فَقُلْتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ قطعَ إِحدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذلكَ بَعْدَما قَطعَها؟! فَقَالَ: «لا تَقْتُلْهُ فإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمنزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قَالَ» [٣] متفقٌ عَلَيهِ.

ومعنى «إِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك» أَيْ: مَعْصُومُ الدَّمِ مَحْكُومٌ بِإِسْلامِهِ.

ومعنى «إنَّكَ بِمَنْزِلَته» أَيْ: مُبَاحُ الدَّمِ بِالْقِصَاص لِوَرَثَتِهِ، لا أَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ في الْكُفْرِ، واللَّه أعلم.

٣٩٨- وعن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي اللَّه عنهما، قَالَ: بعثَنَا رسولُ اللَّه إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فَلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ فَقَالَ لِي: «يَا أُسامةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قلتُ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟» فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ. [٤] متفقٌ عَلَيهِ.

وفي روايةٍ: فَقالَ رسولُ اللَّه : «أَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: «أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَومَئذٍ.

"الحرقة" بضم الحاء المهملة وفتح الراء: بطن من جهينة القبيلة المعروفة، وقوله "متعوذًا" أي: معتصمًا بها من القتل لا معتقدًا لها.


الـشـرح:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب حمل الناس على ظواهرهم، وأن يكل الإنسان سرائرهم إلى الله -عزَّ وجلَّ.

أولًا: اعلم أن العبرة في الدنيا بما في الظواهر؛ اللسان والجوارح، وأن العبرة في الآخرة بما في السرائر بالقلب. فالإنسان يوم القيامة يحاسب على ما في قلبه، وفي الدنيا على ما في لسانه وجوارحه، قال الله تَبارَك وتعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: ٨-٩]، تختبر السرائر والقلوب. وقال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: ٩-١١]، فاحرص يا أخي على طهارة قلبك قبل طهارة جوارحك. كم من إنسان يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج، لكن قلبه فاسد. وهاهم الخوارج حدث عنهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ أنهم يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويقرؤون القرآن، ويقومون الليل، ويبكون، ويتهجدون، ويحقر الصحابي صلاته عند صلاتهم، لكن قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ» [٥]، لا يدخل الإيمان قلوبهم. مع أنهم صالحو الظواهر، لكن ما نفعهم. فلا تغتر بصلاح جوارحك، وانظر قبل كل شيء إلى قلبك، أسأل الله أن يصلح قلبي وقلوبكم. أهم شيء هو القلب.

 

رفع رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قد شرب الخمر فجلده، ثم رفع إليه مرة أخرى فجلده، فسبه رجل من الصحابة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول : «لا تلعنْه؛ فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه» فالقلب هو الأصل ولهذا قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: ٤١]، أما في الدنيا بالنسبة لنا مع غيرنا، فالواجب إجراء الناس على ظواهرهم؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نعلم ما في القلوب، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ» [٦]، ولسنا مكلفين بأن نبحث عما في قلوب الناس، ولهذا قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ٥]، يعني: المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ فخلوا سبيلهم وأمرهم إلى الله، إن الله غفور رحيم.

 

وقال النبي عليه الصلاة والسلام، فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّه تَعَالَى»، وبذلك يكون العمل بالظواهر؛ فإذا شهد إنسان أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ عصم دمه وماله، وحسابه على الله؛ فليس لنا إلا الظاهر. وكذلك أيضا من قال: لا إله إلا الله؛ حرم دمه وماله، هكذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام.

 

ثم ذكر المؤلف حديثين عجيبين فيهما قصتان عجيبتان: الأول: حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، إن لقيت رجلًا من المشركين، فقاتلته، فضربني بالسيف حتى قطع يدي، ثم لاذ مني بشجرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أَأَقْتُلُهُ؟ قال: «لا تقتله» وهو مشرك قطع يد رجل مسلم، ولاذ بالشجرة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أأقتله؟ قال: «لا تَقْتُلْهُ»، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقول هذه الكلمة، يعني: تكون كافرًا. مع العلم بأني أنا وأنتم، نظن أن هذا الرجل قال: أشهد أن لا إله إلا الله خوفًا من القتل، ومع ذلك يقول: لا تقتله، فعصم دمه وماله.

وفي هذا الحديث أيضًا: الدليل على أن ما أتلفه الكفار من أموال المسلمين وما جنوه على المسلمين غير مضمون. يعني: الكافر لو أتلف شيئًا للمسلمين، أو قتل نفسًا لا يضمن إذا أسلم، فالإسلام يمحو ما قبله.

 

القصة الثانية: بعث النبي  أسامة بن زيد في سرية إلى الحرقة من جهينة، فلما وصلوا إلى القوم وغشوهم، هرب من المشركين رجل، فلحقه أسامة ورجل من الأنصار يتبعانه يريدان قتله، فلما أدركاه قال: لا إله إلا الله، أما الأنصاري فكان أفقه من أسامة، فكف عنه، تركه لما قال: لا إله إلا الله. وأما أسامة فقتله. فلما رجعوا إلى المدينة. وبلغ ذلك النبي  قال لأسامة: «أقتلته بعد أن قال لا إله إلا لله» قال: نعم يا رسول الله؛ إنما قال ذلك يتعوذ من القتل، يستجير بها من القتل، قال: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قال: نعم قالها يتعوذ من القتل. كرر ذلك عليه، حتى قال له في رواية لمسلم: «ما تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة؟»، يقول أسامة رضي الله عنه: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل هذا اليوم؛ لأنه لو كان كافرًا ثم أسلم عفا الله عنه، لكن الآن فعل هذا الفعل وهو مسلم، فهذا مشكل جدًا على أسامة.

 

والرسول  يكرر: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟»، «ما تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة؟» مع العلم بأن الذي يغلب على الظن ما فهمه أسامة؛ أنه قالها: متعوذًا من القتل يستجير بها من القتل، لكن مع ذلك إذا قال: لا إله إلا الله، انتهى الأمر ويجب الكف عنه، ويعصم بذلك دمه وماله، وإن كان قالها: متعوذًا أو قالها: نفاقًا، فحسابه على الله.

فهذا دليل: على أننا نحمل الناس في الدنيا على ظواهرهم، أما ما في القلوب فموعده يوم القيامة، تنكشف السرائر، ويحصل ما في الضمائر، ولهذا علينا أيها الأخوة أن نطهر قلوبنا قبل كل شيء ثم جوارحنا.

 

أما بالنسبة لمعاملتنا لغيرنا، فعلينا أن نعامل غيرنا بالظاهر. واسمع إلى قول الرسول : «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ» يعني: تخاصمون مخاصمات بينكم، «ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ» يعني: أفصح وأقوى دعوى، «فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقتطع له جمرة من نار، فليستقل أو ليستكثر»، فحمل النبي عليه الصلاة والسلام، الأمر في الخصومة على الظاهر، لكن وراءك النار إذا كنت كاذبًا في دعواك، وأنك أخذت القاضي بلسانك وبشهادة الزور، فإنما يقتطع لك جمرة من النار فاستقل أو استكثر.

 

وخلاصة ما تقدم: أن الإنسان في الدنيا على الظاهر، وأما يوم القيامة فعلى الباطن. فعلينا نحن أن نعامل غيرنا يظهر لنا من حاله، وأمره إلى الله، وعلينا نحن أنفسنا أن نطهر قلوبنا، لا يكون فيها شيء؛ لا يكون فيها بلاء، كبر، حقد، حسد، شرك، شك، نسأل الله أن يعيذنا من هذه الأخلاق، فإن هذا خطير جدًا. نسأل الله أن يهدينا وإياكم لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يجنبنا سيئات الأخلاق والأعمال، ولا يجنبنا إياها إلا هو.

 

[١] صحيح البخاري: (٢٥)، (١٣٩٩)، (٦٩٢٤)، مسلم: (٢٢).

[٢] صحيح مسلم: (٢٣).

[٣] صحيح البخاري: (٦٨٦٥)، مسلم: (٩٥).

[٤] صحيح البخاري: (٤٢٦٩)، (٦٨٧٢)، مسلم: (٩٦).

[٥] صحيح البخاري: (٦٩٣٠)، مسلم: (١٠٦٦).

[٦] صحيح البخاري: (٧١٦٩)، مسلم: (١٧١٣) باختلاف يسير.


الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين

اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم

تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم Reviewed by احمد خليل on 9:15:00 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.