باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي
فتح الباري شرح صحيح البخاري: أَبْوَابُ
تَقْصِيرِ الصَّلاَةِ، بَابُ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا، ثُمَّ صَحَّ، أَوْ وَجَدَ خِفَّةً،
تَمَّمَ مَا بَقِيَ.
وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ شَاءَ المَرِيضُ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا وَرَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا.
١١١٨- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أُمِّ المُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا
أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ
قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ
آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ.
الشرح:
قوله: (باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو
وجد خفة تمم ما بقي) في رواية الكشميهني "أتم ما بقي" أي: لا
يستأنف بل يبني عليه إتيانا بالوجه الأتم من القيام ونحوه، وفي هذه الترجمة إشارة
إلى الرد على من قال: من افتتح الفريضة قاعدا لعجزه عن القيام ثم أطاق القيام وجب
عليه الاستئناف، وهو محكي عن محمد بن الحسن، وخفي ذلك على ابن
المنير حتى قال: أراد البخاري بهذه الترجمة رفع خيال من تخيل أن
الصلاة لا تتبعض فيجب الاستئناف على من صلى قاعدا ثم استطاع القيام.
قوله: (وقال الحسن إن شاء المريض)
أي: في الفريضة "صلى ركعتين قائما" وهذا الأثر
وصله ابن شيبة بمعناه، ووصله الترمذي أيضا بلفظ آخر،
وتعقبه ابن التين بأنه لا وجه للمشيئة هنا؛ لأن القيام لا يسقط عمن قدر عليه،
إلا إن كان يريد بقوله "إن شاء" أي: بكلفة كثيرة اهـ. ويظهر أن مراده أن
من افتتح الصلاة قاعدا ثم استطاع القيام كان له إتمامها قائما إن شاء بأن يبني على
ما صلى، وإن شاء استأنفها، فاقتضى ذلك جواز البناء وهو قول الجمهور.
ثم أورد المصنف حديث عائشة من
رواية مالك بإسنادين له أنه ﷺ كان
يصلي قاعدا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثلاثين أو أربعين آية قائما ثم ركع. وزاد
في الطريق الثانية منهما أنه كان يفعل ذلك في الركعة الثانية، وفي الأولى منهما
تقييد ذلك بأنه ﷺ لم يصل صلاة الليل قاعدا إلا
بعد أن أسن، وسيأتي في أثناء صلاة الليل من هذا الوجه بلفظ حتى إذا كبر، وفي
رواية عثمان بن أبي سليمان عن أبي سلمة عن عائشة لم
يمت حتى كان أكثر صلاته جالسا، وفي حديث حفصة ما رأيت رسول الله ﷺ يصلي في سبحته جالسا حتى إذا كان قبل موته
بعام وكان يصلي في سبحته جالسا الحديث أخرجهما مسلم، قال ابن
التين: قيدت عائشة ذلك
بصلاة الليل لتخرج الفريضة، وبقولها "حتى أسن" لنعلم أنه إنما فعل ذلك
إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة، وأفادت أنه كان يديم القيام وأنه كان لا يجلس عما
يطيقه من ذلك. وقال ابن بطال: هذه
الترجمة تتعلق بالفريضة، وحديث عائشة يتعلق بالنافلة. ووجه استنباطه أنه
لما جاز في النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام وكان عليه الصلاة والسلام،
يقوم فيها قبل الركوع كانت الفريضة التي لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على
القيام أولى اهـ. والذي يظهر لي أن الترجمة ليست مختصة بالفريضة، بل قوله: "ثم
صح" يتعلق بالفريضة. وقوله "أو وجد خفة" يتعلق بالنافلة، وهذا الشق
مطابق للحديث، ويؤخذ ما يتعلق بالشق الآخر بالقياس عليه، والجامع بينهما
جواز إيقاع بعض الصلاة قاعدا وبعضها قائما، ودل حديث عائشة على
جواز القعود في أثناء صلاة النافلة لمن افتتحها قائما كما يباح له أن
يفتتحها قاعدا ثم يقوم، إذ لا فرق بين الحالتين، ولا سيما مع وقوع ذلك منه ﷺ في الركعة الثانية خلافا لمن أبى ذلك، واستدل به
على أن من افتتح صلاته مضطجعا ثم استطاع الجلوس أو القيام أتمها على ما
أدت إليه حاله.
١١١٩- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ
رَسُولَ ﷺ لَّمَ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا،
فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ
ثَلاَثِينَ -أَوْ أَرْبَعِينَ- آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ
يَرْكَعُ، ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ،
فَإِذَا قَضَى صَلاَتَهُ نَظَرَ: فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ
كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ.
الشرح:
قوله: (فإذا بقي من قراءته) فيه إشارة
إلى أن الذي كان يقرؤه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل.
وفي هذا الحديث أنه لا يشترط لمن افتتح النافلة قاعدا أن يركع قاعدا، أو قائما أن
يركع قائما وسيأتي البحث في ذلك في "باب قيام النبي ﷺ
بالليل" من أبواب التهجد.
قوله: (فإذا قضى صلاته نظر إلخ) يأتي
الكلام عليه في أبواب التطوع في الكلام على ركعتي الفجر إن شاء الله تعالى.
(خاتمة): اشتملت أبواب التقصير وما معه من
الأحاديث المرفوعة على اثنين وخمسين حديثا، المعلق منها ستة عشر حديثا والبقية موصولة،
المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون والبقية موصولة،
وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عباس في قدر
الإقامة بمكة، وحديث جابر في التطوع راكبا إلى غير القبلة،
وحديث أنس في الجمع بين المغرب والعشاء، وحديث عمران في صلاة القاعد.
وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم ستة آثار والله أعلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

ليست هناك تعليقات: