شرح حديث / حق المسلم على المسلم خمس
باب تعظيم حُرمات المُسلمين
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث / حق المسلم على
المسلم خمس
أحاديث رياض الصالحين
باب تعظيم حُرمات المُسلمين الحديث
رقم: 243
عن
أبي هريرة- رضي الله عنه -أن رسول الله ﷺ قال: (حق المسلم على المسلم خمسٌ: رد السلام، وعيادة المريض،
واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). متفق عليه [١].
وفي
رواية لمسلم: (حق المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه،
وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض
فعده، وإذا مات فاتبعه). [٢].
الشرح
ذكر
المؤلف رحمه الله-تعالى-هنا ما نقله عن أبي هريرة- رضي الله عنه -في بيان حقوق
المسلم على أخيه، وحقوق المسلم على أخيه كثيرة، لكن النبي ﷺ أحيانًا يذكر أشياء معينة من
أشياء كثيرة عناية بها واحتفاءً بها فمن ذلك ما ذكره أبو هريرة- رضي الله عنه -عن
رسول الله ﷺ
أنه قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام)
يعني إذا سلّم عليك فردّ عليه، وفي الحديث الثاني: (حق
المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه).
فهذان
أمران: ابتداء السلام المأخوذ من قوله: (إذا لقيته
فسلم عليه)، وردّ السلام المأخوذ من قوله: (رد
السلام)، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وإذا كان الحاصل لتركه الهجُر كان
حرامًا فيما زاد على ثلاثة أيام، ما في الثلاثة أيام فأقل فلا بأس أن تهجره، ومن
المعلوم أن الإنسان لن يهجر أخاه إلا لسبب، فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام
للمسلم أن يهجر أخاه ثلاثة أيام فأقل؛ لأن الإنسان بشر، فقد يكون في النفوس شيء،
ولا يتحمل المرء أن يسلم عليه، أو أن يرد السلام، فرخص له ثلاثة أيام فأقل.
وابتداء
السلام يكون من الصغير على الكبير، ومن الماشي على القاعد، ومن الركاب على الماشي،
كل بحسبه وصيغة السلام المشروعة أن يقول: السلام عليكم، أو السلام عليكم، كلاهما
جائز، والرد أن يقول: عليك السلام أو وعليكم السلام.
بهذا
يتضح لنا أن النبي ﷺ
بين أن من الحقوق التي للمسلم على أخيه السلام وردًا وابتداءً.
وحكم
السلام أن ابتداءه سنةٌ وردّه فرضٌ، فرض عين على من قُصد به، وفرض كفاية إذا قُصد
به جماعة، فإنه يجزئ رد أحدهم، والسلام حسنة من الحسنات إذا قام به الإنسان فله
عشر أمثاله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، يعني إذا سلمت على أخيك وقلت: السلام عليكم
فلك عشر حسنات أجرًا باقيًا تجده أحوج ما تكون إليه.
ونحن
نعلم أنه لو قيل لشخص: كلما لقيت أحدًا فسلمت عليه فلك بكل تسليمة درهم واحد،
لوجدت الإنسان يطلب الناس ليسلم عليهم ابتغاء هذا الدرهم الواحد، مع أن الدرهم
الواحد يفني ويزول، والأجر والثواب يبقى وتجده أحوج ما تكون إليه. عاملنا الله
وإياكم بعفوه وفضله وإحسانه إنه جواد كريم.
فالذي
ينبغي لك كلما لقيك أحد من إخوانك المسلمين أن تسلم عليه، أما غير المسلم فلا تسلم
عليه؛ لأن النبي ﷺ
قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا
وجدتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) [٣]. فاليهودي والنصراني والمشرك
والملحد والمرتد كالذي لا يصلي، والمبتدع بدعة يكفر بها، كل هؤلاء لا يحل ابتداء
السلام عليهم، ولو كانوا أقرب الناس إليك، لكن إذا سلموا فرد عليهم بمثل ما سلموا
به، إذا قالوا: أهلًا ومرحبًا، فقل أهلًا ومرحبًا، وإذا قالوا: السلام عليكم قل:
وعليكم السلام، وإذا شككت هل هو يقول: السلام عليكم، أو يقول السام عليكم، فقل:
وعليكم.
بل
إذا لم تتيقن إنه قال: السلام عليكم باللام فقل: وعليكم، وذلك أن اليهود كانوا
يمرون بالنبي ﷺ
وأصحابه فيسلمون عليه لكن يقولون: السام عليكم يدعمونها، والسام يعني الموت، فقال
النبي ﷺ:
(إن اليهود إذا لقوكم قالوا: السام عليكم، فقولوا: وعليكم). [٤] أي: إن كانوا
يدعون لنا بالسلام فعليهم السلام، وإن كانوا يدعون علينا بالموت فعليهم الموت،
وهذا من العدل ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86] ولهذا
ذكر ابن القيم- رحمه الله -في كتابه " أحكام أهل الذمة" أنهم إذا قالوا:
السلام عليكم بكلام بين فلك أن تقول: عليكم السلام.
وأما
أهل المعاصي فإن كان في هجرهم فائدة فاهجرهم، والفائدة أن يقلعوا عن معصيتهم، وإن
لم يكن في هجرهم فائدة فهجرهم حرام؛ لأنهم من المؤمنين، إذا كانوا من المؤمنين فقد
قال النبي ﷺ:
(لا يحل لأحد أن يهجر أخاه المؤمن فوق ثلاث، يلتقيان
فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) [٥]، أما إذا كان الهجر
مفيدًا، بحيث يرتدعون عن المعصية، وينتهون عنها، فهو مطلوب، إما واجب وإما مستحب.
وأنظر
إلى ما حصل من فائدة هجر كعب بن مالك- رضي الله عنه -وصاحبيه؛ حين تخلفوا عن غزوة
تبوك، وماذا حصل لهم من قوة الإيمان والصبر على ما حصل، وانتظر الفرج من الله- عزّ
وجلّ -ما نالوا به ما هو أعظم المثوبات، نالوا به كلام رب العالمين، الذي يقرأ في
الليل والنهار من كل مسلم حتى في الصلوات. من مِنَ الناس يثني عليه في الصلوات:
الفريضة والنافلة؟ ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
[التوبة: 118]، وهذا نص، وإن كانوا
لم يذكروا بأسمائهم، لكن ذكروا بوصف لا ينطبق على من سواهم.
وأما
ما ذهب إليه كثير من المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَمَا
لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ ﴿إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ ﴿وَلَسَوْفَ
يَرْضَى﴾ [الليل: 19-21]، بان هذا هو أبو
بكر فهذا ليس كالنص الحاصل لهؤلاء الثلاثة، ولذلك لا نعلم أن أحدًا من الصحابة
أثني عليه بهذا النص مثل ما أثني عليه هؤلاء الثلاثة.
وقد
هجرهم النبي عليه الصلاة والسلام أربعين ليلة لا يكلمهم، وقال للناس: لا تكلموهم،
فلا يكلمهم أحد، وبعد تمام الأربعين أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، ولما جاء الرسول صلى
إلى كعب بن مالك - الرسول الذي أرسله النبي ﷺ بأن يعتزل امرأته- قال له
كعب: أأطلقها- يعني فأنا مستعد-أم ماذا؟ قال الرسول: لا أدري، إن النبي ﷺ أمرك أن تعتزل امرأتك ولا
أدري، فانظر كيف كان هذا الامتثال العظيم مع هذه المحنة العظيمة التي لا ترد على
قلب فينجو منها إلا من عصمه الله عزّ وجلّ.
فالحاصل
أن هجره إذا كان ينفع في تقليل المعصية أو التوبة منها فإنه مطلوب؛ إما على سبيل
الوجوب، أو على سبيل الاستحباب، أما إذا كان لا ينفع وإنما يزيد العاصي عتوًا
ونفورًا من أهل الخير فلا تهجره؛ لأن الإنسان مهما كان عنده من المعاصي وهو مسلم
فهو مؤمن، لكنه ناقص الإيمان.
أما
الحق الثاني فهو عيادة المرض: المريض إذا مرض وانقطع في بيته فإن له حقًا على
إخوانه المسلمين أن يعودوه ويذكروه ما ينبغي أن يذكروه به، من التوبة، والوصية،
وكثرة الذكر، والاستغفار، وقراءة القرآن، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وكذلك
يدعون له بالشفاء؛ مثل أن يقولوا: لا بأس طهور إن شاء الله، وما اشبه ذلك.
وعيادة
المريض فرض كفاية، لا بدَّ أن يعود المسلمون أخاهم، وإذا عاده واحد منهم حصلت به
الكفاية، وقد تكون فرض عين إذا كان المريض من الأقارب، وعدت عيادته من الصلة، فإن
صلة الأرحام واجبة فتكون فرض عين.
واعلم
أن العلماء - رحمهم الله - ذكروا لعيادة المريض آدابًا منها: ألا يكثر العائد
لمريض محادثته بالسؤال عن حاله وعن نومه وأكله وشربه وما أشبه ذلك، إلا إذا كان
يأنس بهذا ويُسر به، أما إذا كان يتضجر ولا يحب أن يكثر أحد الكلام معه كما هو حال
بعض المرضي، فإنك لا تتبع مع الكلام ولا تضجره بالمسائلات.
لذلك
قالوا: ينبغي أن لا يكثر المقام عنده ويطيل؛ لأنه قد يكون له حاجة مع أهله أو في
نفسه، ولا يحب أن يطيل الجلوس عنده أحد، لكن إذا علمت أنه يستأنس بهذا ويفرح، فإنك
تنظر ما فيه المصلحة.
وقالوا:
ينبغي أيضًا أن لا يزوره في الأوقات التي يكون الغالب فيها النوم والراحة؛
كالقيلولة والليل وما اشبه هذا؛ لأن ذلك يضجره وينكد عليه، بل يكون بكره وعشيا حسب
ما تقتضيه الحال.
قالوا:
ولا ينبغي ايضًا أن يكثر من عيادته، بحيث يأتيه صباحًا ومساءً، إذا اقتضت الحاجة
لذلك.
والحاصل:
أن العائد للمريض ينبغي أن يراعى المصلحة في كل ما يكون مع المريض وفي كل ما يترك،
ثم إنه إذا كان المرض مما يُعلم أنه له دواء معينًا فينبغي أن تذكر له هذا الدواء؛
لأن الدواء مباح بل هو سنة إذا رُجي نفعه وغلب على الظن؛ لأن النبي ﷺ قال: (تداووا ولا تداووا بحرام). [٦].
وكذلك
ينبغي أن يسأله كيف يصلى؟ لأن كثيرًا من المرضى يجهل هل يصلى بالماء أو بالتيمم؟
هل يصلى كل صلاة في وقتها أو يجمع؟ لأن هذا أمر مهم قد يخفى على بعض المرضى.
حتى
إن بعض المرضى يظنون أنه إذا جاز لهم الجمع؛ جاز لهم القصر وهم في بلادهم، وهذه من
الأشياء التي يجب التنبه لها، نعم إذا كان المريض مسافرًا إلى مستشفى في غير بلده،
فله أن يقصر ويجمع، أما إذا كان في بلده فلا يقصر، لكن إن شق عليه أن يصلى كل صلاة
في وقتها؛ فله الجمع ولو كان في بلده، لكنه جمع بلا قصر؛ أن الجمع والقصر لا
يتلازمان؛ قد يشرع القصر دون الجمع، وقد يشرع الجمع دون القصر، وقد يشرعان جميعًا،
فالمسافر الذي يشق عليه أن يصلى كل صلاة في وقتها بحيث يكون قد جدّ بِه السير
يُشرع له الجمع والقصر، والمسافر المقيم يشرع له القصر دون الجمع، وإن جمع فلا
بأس، المقيم الذي يشق عليه الصلاة في كل وقت يشرع له الجمع دون القصر.
أما
الحق الثالث فهو: اتباع الجنائز وتشييعها، فإن من حق المسلم على أخيه أن يتبع
جنازته من بيته إلى المصلى- سواء في المسجد أو في مكان آخر - إلى المقبرة، وقد ثبت
عن النبي ﷺ
أنه قال: (من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها؛ فله
قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان" قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟
قال: مثل الجبلين العظيمين) [٧] وفي رواية: (أصغرهما
مثل أُحد) [٨] وهذا فضل عظيم وأجر كبير.
ولما
بلغ عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - هذا الحديث قال: لقد فرطنا في قراريط
كثيرة، ثم صار بعد ذلك لا يرى جنازة إلا تبعها رضي الله عنه؛ لأن هذه غنيمة؛ غنيمة
أن يحصل الإنسان مثل الجبلين العظيمين في عمل يسير، هذا الأجر متى يلقاه؟ يلقاه في
يوم هو أحوج ما يكون إليه؛ في يوم ليس عنده درهم، ولا دينار ولا متاع، ولا قرابة،
ولا زوجة تنفعه يوم القيامة ألا العمل الصالح، فهو إذا تبع الجنازة حتى يصلى
عليها، ثم حتى تدفن، فله قيراطان مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد.
وينبغي
لمن أتبع أن يكون خاشعًا، مفكرًا في مآله، يقول لنفسه: يا نفسي أنت مآلك كمآل هذا
الذي فوق أعناقنا، عن قريب أو بعيد وربما يكون عن قريب، ويتذكر هذا الرحيل، يتذكر
إلى حفرته ويدفنه ويتخلى عنه، وأقرب الناس عليك الذي يحملك إلى مدفنك ثم ينصرف عنك
ويدعك في هذا اللحد وحيدًا بأعمالك، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ولهذا قال
العلماء: يكره للإنسان المتبع للجنازة: أن يتحدث في شيء من أمور الدنيا. أو أن
يتبسم ويضحك.
وكذلك
أيضًا إذا وصلت إلى المقبرة، جلست تنتظر دفنها، فينبغي أن تفكر في مآلك، وأمك سوف
يُنتظر دفنكم كما انتظر دفن هذا الرجل، وإذا كان حولك أناس وحدثتهم بما حدث به
النبي ﷺ
أصحابه، حينما خرج في جنازة رجل من الأنصار، فانتهي إلى القبر ولما يلحد، فجلس
عليه الصلاة والسلام وحوله أصحابه، وفي يده مخصرة- أي عود - ينكت بها الأرض، يعتبر
عليه الصلاة والسلام ويفكر ويحدث أصحابه بما يكون عند الاحتضار وعند الدفن [٩]،
حتى يكون جامعًا بين الموعظة وبين تشييع الجنازة.
ولكن
ليست هذه الموعظة كما يفعله بعض إخواننا الآن في بعض المحلات؛ حيث يقوم الرجل
خطيبًا يعظ الناس، فإن هذا ليس معروفًا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عهد
أصحابه، لكن لما جلس النبي ﷺ
ينتظر لحد هذا الميت وجلس أصحابه حدثهم حديث المجالس بما ينفعهم وبما يناسب.
وكذلك
كان عليه الصلاة والسلام حاضرًا دفن إحدى بناته، وكان على شفير القبر وعيناه
تدمعان، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد
وقد كتب مقعدة من الجنة ومقعده من النار) قالوا يا رسول الله أفلا ندع
العمل ونتكل على ما كتب لنا؟ قال: (لا اعملوا فكل
ميسر لما خلق له، اما أهل السعادة فيسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة
فييسرون لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا
مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل:
5-10] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة الذين يسروا لليسرى
وجنبوا العسرى.
فإذا
شرعوا في الدفن فينبغي للإنسان أن يشارك في الدفن؛ بأن يحثو بيديه ثلاث حثيات ثم
ينصرف، وإن شاء شارك إلى انتهاء الدفن، فإذا فرغوا من دفنه وقف عليه، وإذا كان
مطاعًا كالعالم قال للناس استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبت فإنه الآن يسأل [١٠]،
فإن النبي ﷺ
إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا
لأخيكم وأسالوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، الآن حين فُرغ من دفنه وانتهى
الناس منه وسلموه لعالم الآخرة يأتيه عالم الآخرة؛ يأتيه ملكان يسألانه عن ربه
ودينه ونبيه، فيجيب المؤمن قائلًا: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - أسأل
الله أن يجعلني وإياكم ممن يجيب بهذا الجواب.
أما
غير المؤمن المرتاب الشاك، فيقول ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته،
يعنى: لم يصل الإيمان إلى قلبه والعياذ بالله، فينبغي لك أن تقف بعد انتهاء الدفن
وتقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم اغفر له. الله ثبته، الله اغفر له، الله
ثبته؛ لأن النبي ﷺ
كان إذا دعا، دعا ثلاثًا [١١]. فتدعو ثلاثًا ثم تنصرف ولا حاجة إلى إطالة الوقوف.
وإذا
انصرف الناس عن الميت حتى إنه ليسمع قرع نعالهم وهم ينصرفون عنه، يسمع قرع النعال،
أي ضربه بالأرض وهم ينصرفون عنه، جاءه ملكان، فأجلساه وسألاه عن ربه ودينه ونبيه،
ويجلسانه في القبر وإن كان القبر ضيقًا لكنه يجلس، كما أن النائم الآن يرى نفسه
أنه قائم، وأنه ماشٍ وأنه قاعد، وهو ملتحف في فراشة لم يتحرك منه، لأن أحوال
البرزخ أبلغ من أحوال الدنيا وأعظم، ففيه أشياء لا تنطبق على أحوال الدنيا، فها هو
الميت المؤمن يفسح له في قبره مد البصر والمقبرة كلها ليست بشيء، فهي ليست ملء
البصر، لكن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وواجبنا فيما جاء في كتاب الله أو
صح عن رسول الله ﷺ
من أمور الآخرة، أن نقول: سمعنا وصدقنا، وآمنا، وكل من عند ربنا والله على كل شيء
قدير.
الحق
الرابع: إجابة الدعوة: فمن حق المسلم على أخيه إذا دعاه أن يجيبه، والإجابة إلى
الدعوة مشروعة بلا خلاف بين العلماء فيما نعلم، إذا كان الداعي مسلمًا، ولم يكن
مجاهرًا بالمعصية، ولم تكن الدعوة مشتملة على معصية لا يستطيع إزالتها، ولكنها لا
تجب عند جمهور العلماء إلا في دعوة العرس؛ إذا دعاه الزوج أول مرة في اليوم الأول
فإن الإجابة واجبة إذا عينه بالشروط السابقة التي ذكرناها.
فإن
كان الداعي غير مسلم فلا تجب الإجابة، بل ولا تشرع الإجابة إلا إذا كان في ذلك
مصلحة، فإذا كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامه والتأليف فلا بأس بإجابة غير المسلم؛
لأن النبي ﷺ
أجاب دعوة يهودي دعاه في المدينة.
وإن
الداعي مسلمًا مجاهرًا بالمعصية كحلق اللحية مثلًا، أو شرب الدخان علنًا في
الأسواق، أو غير ذلك من المحرمات، فإن أجابته ليست بواجبة، ولكن إن كان في إجابته
مصلحة أجابه، وإن كان ليست في إجابته مصلحة نظرت؛ فإن كان في عدم إجابته مصلحة
بحيث إذا رأى نفسه أنه قد هُجر، وأن الناس لا يجيبون دعوته تاب وأناب، فلا تجب
دعوته لعل الله يهديه، وإن كان لا فائدة من ذلك فأنت بالخيار؛ إن شئت فأجب، وإن
شئت فلا تجب.
وإذا
كان في الدعوة منكر فإن كان الإنسان قادرًا على التغيير وجبت عليه الإجابة من وجهين:
الوجه
الأول: إزالة المنكر.
والوجه
الثاني: إجابة دعوة أخيه إذا كان في العرس، وكان ذلك في أول يوم.
وأما
إذا كان هناك منكر في الدعوة لا تستطيع تغييره كما لو كان في الدعوة شر دخان، أو
شيشه، أو كان هناك أعانِ محرمة، فإنه لا يجوز لك أن تجيب.
قال
أهل العلم: إلا إذا كان المنكر في محل آخر، وأنت تجيب إلى محل ليس فيه منكر، وكان
الداعي من أٌقاربك الذين لو تركت إجابتهم لعد ذلك قطيعة، فلا بأس بالإجابة في هذه
الحال، وإن كان الهجر يترتب عليه ترك هذه المعصية فاهجره، يعني مثلًا لو دعاك
قريبك وأنت تعلم أنه سيكون في الدعوة محرم، وقبل بذلك فأجب، وأما إن أصر على وجود
المحرم فلا تجب؛ لأن حضور المحرم ولو مع كراهة الإنسان له بقلبه يكون فيه الإنسان
مشاركًا للفعل لقول الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140] هذا
حكم إجابة الدعوة.
والحق
الخامس: تشميت العاطس: يعني أن من حقوق المسلم على المسلم أن يشمته إذا عطس، هكذا
في الرواية الأولى التي أخرجها البخاري ومسلم، وفي الرواية الثانية التي أخرجها
مسلم: (إذا عطس فحمد الله فشمته) فقيد ذلك بما
إذا حمد الله.
فإذا
عطس الرجل وحمد الله وسمعته فشمته، يعني قل: يرحمك الله، فإذا قلت يرحمك الله، وجب
عليه أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، هكذا جاء الحديث عن النبي ﷺ أنه يقول في الجواب: (يهديكم الله ويصلح بالكم) [١٢].
لكن
هل تشميت العاطس إذا حمد فرض عين أو فرض كفاية؟ يعني: هل يكفي واحد من الجماعة إذا
شمته عن الجماعة، أم لا بد على كل من سمعه أن يشمته؟ والجواب: أنه ذهب بعض العلماء
على أن التشميت فرض كفاية؛ فإذا كنا جماعة وعطس رجل وقال الحمد لله، فقال أحدنا
له: يرحمك الله كفى.
وقال
بعض العلماء: بل تشميته فرض عين على كل من سمعه؛ لأن النبي ﷺ قال: (كان حقًا على كل من سمعه أن يقول يرحمك الله) وظاهر
هذا أنه فرض عين، فعلى هذا كل من سمعه يقول له: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله
ويصلح بالكم، ويكفي منه ردّ واحدٌ على الجميع، إذا نواه للجميع كفى.
فإن
عطس ولم يحمد الله فلا تقل: يرحمك الله، تعزيزًا له على عدم حمده لله عزّ وجلّ،
يعني كما أنه لم يحمد الله فاحرمه هذا الدعاء، فلا تقل له: يرحمك الله، ثم هل
تذكره وتقول: قل الحمد لله أو لا تذكره؟ والجواب: من المعلوم أنه يحتمل أنه قد ترك
الحمد تهاونًا، ويحتمل أنه تركه نسيانًا، فإن كان تركه نسيانًا فذكره وقل له: أحمد
الله، وإن كان تركه تهاونًا فلا تذكره، ولكن أين إلى العلم بذلك؟ وكيف أعلم أنه
نسيان أو انه تهاون؟ ظاهر الحديث " فحمد الله " أنه إذا لم يحمد الله لا
تشمته ولا تذكره مطلقًا.
ولكن
يمكنك فيما بعد أن تعلمه وتقول له: إن الإنسان إذا عطس فإنه يحمد الله على هذا
العطاس؛ لأن العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، العطاس دليلٌ على نشاط جسم
الإنسان، ولهذا يجد الإنسان راحة بعد العطاس.
ثم
إن التشميت بقول: يرحمك الله مقيد بثلاث؛ إذا شمته ثلاث مرات يعني عطس فحمد الله،
فقلت يرحمك الله ثم عطس فحمد الله فقلت، يرحمك الله، ثم عطس فحمد الله فقلت: يرحمك
الله، ثم عطس الرابعة فقل: عافاك الله، إنك مزكوم، تدعو له بالعافية وتبين له أنه
مزكوم لئلا يقول: لماذا لا تقول يرحمك الله كنا كنت بالأول تقول يرحمك الله،
فيتبين العلة حين تقول: إنك مزكوم.
وفي
هذا تنبيه له على أن يحاول الاحتراز مما يزيد الزكام، وإلا فإن الزكام في الغالب
لا دواء له إذا أصاب الإنسان، وإنه لا يذهب عنه حتى ينتهي منه، لكن من أسباب تخفيف
هذا الزكام عدم التعرض للهواء البارد، وعدم شرب الماء البارد، وعدم التعرض للبراد
بعد الدفء، والإنسان طبيب نفسه.
ثم
إن ما يقوله بعض العامة إذا قلت له: يرحمك الله، يحث يقول: يهدينا ويهديكم الله،
فهذا ليس بصحيح؛ لأن الرجل دعا لك أنت فقال: يرحمك الله، فكيف تقول: يهدينا
ويهديكم الله، فتدعو لنفسك قبله، نعم لو قال: يرحمنا ويرحمك الله، فقل: يهدينا
ويهديكم الله، لكنه قال: يرحمك الله كما أمر، فأنت اجبه كما أمرت؛ فقل يهديكم الله
ويصلح بالكم.
وذكر
أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي عليه الصلاة والسلام - يعني يتكلفون العطاس من
أجل أن يقول لهم: يرحمكم الله [١٣]، لأنهم يعلمون أنه نبي وأن دعاه بالرحمة قد
ينفعهم، ولكنه لا ينفعهم؛ لأن الكفار لو دعوت لهم بالرحمة لا ينفعهم ذلك، بل لا
يحل لك أن تدعو لهم بالرحمة إذا ماتوا ولا بالمغفرة، لقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة:
113].
فإن
قيل: اليس إبراهيم استغفر لأبيه، وإبراهيم على الحنيفية وعلى التوحيد؟ هذا الجواب
يتضح في قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].
فهذه
الحقوق التي بينها النبي ﷺ
كلها إذا قام بها الناس بعضهم مع بعض، حصل بذلك الألفة والمودة وزال ما في القلوب
والنفوس من الضغائن والأحقاد.
الحمد لله رب العالمين
١ - أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز رقم
(1240)، ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام، رقم (2162).
٢
- اخرجه مسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم ردّ السلام، رقم (2162).
٣
- أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام. رقم (2167).
٤
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، رقم (6257)
ومسلم كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. رقم (2164).
٥
- أخرجه البخاري كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، رقم (6237)
ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث. رقم (2560).
٦
- أخرجه أبو داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، رقم (3874).
٧
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز باب من انتظر حتى تدفن رقم (1325) ومسلم كتاب
الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها رقم (945).
٨
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها رقم (945).
٩
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذابه، رقم (4753) وأحمد
في المسند، رقم (4/287، 288).
١٠
- أخرجه أبو داود كتاب الجنائز باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف،
رقم (3221).
١١
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى
المشركين رقم (1794).
١٢
- أخرجه البخاري كتاب الأدب، باب إذا عطس كيف يشمت؟ رقم (6224).
١٣
- أخرجه أبو داود الأدب، باب كيف يشمت الذمي؟ رقم (5038)، الترمذي، كتاب الأدب،
باب ما جاء كيف تشميت العاطس. رقم (2739)، وقال حسنٌ صحيحٌ.
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات
النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
شرح حديث / حق المسلم على المسلم خمس
Reviewed by احمد خليل
on
9:26:00 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: