فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ الجَنَائِزِ: بَابُ الكَفَنِ فِي القَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ، وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ.
١٢٦٩- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي
نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ، جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي
قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ
النَّبِيُّ ﷺ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: «آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ»، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ:
أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى المُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا
بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، قَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠] فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، وَلاَ
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: ٨٤].
١٢٧٠- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ
مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.
الشرح:
قوله: (باب الكفن في القميص الذي
يكف أو لا يكف) قال ابن
التين: ضبط
بعضهم يكف بضم أوله، وفتح الكاف. وبعضهم بالعكس، والفاء مشددة فيهما. وضبطه بعضهم
بفتح أوله وسكون الكاف وتخفيف الفاء وكسرها، والأول أشبه بالمعنى. وتعقبه ابن
رشيد بأن الثاني هو الصواب، قال: وكذا وقع في نسخة حاتم الطرابلسي، وكذا
رأيته في أصل أبي القاسم بن الورد، قال: والذي يظهر لي
أن البخاري لحظ قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، أي: أن النبي ﷺ ألبس عبد الله بن أبي قميصه سواء كان
يكف عنه العذاب أو لا يكف، استصلاحا للقلوب المؤلفة، فكأنه يقول: يؤخذ من هذا
التبرك بآثار الصالحين سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أو لا. قال: ولا يصح
أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف؛ لأن ذلك وصف لا أثر له.
قال: وأما الضبط الثالث فهو لحن إذ لا موجب لحذف الياء الثانية فيه. انتهى. وقد
جزم المهلب بأنه الصواب، وأن الياء سقطت من الكاتب غلطا، قال ابن بطال: والمراد
طويلا كان القميص سابغا أو قصيرا، فإنه يجوز أن يكفن فيه، كذا قال، ووجهه بعضهم
بأن عبد الله كان مفرط الطول كما سيأتي في ذكر السبب في إعطاء النبي ﷺ له قميصه، وكان النبي ﷺ
معتدل الخلق، وقد أعطاه مع ذلك قميصه ليكفن فيه، ولم يلتفت إلى كونه ساترا لجميع
بدنه أو لا. وتعقب بأن حديث جابر دال على أنه كفن في غيره، فلا تنتهض
الحجة بذلك.
وأما قول ابن رشيد: إن
المكفوف الأطراف لا أثر له فغير مسلم، بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاري،
كما فهمه ابن التين، والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعا، سواء كان
مكفوف الأطراف أو غير مكفوف. أو المراد بالكف تزريره، دفعا لقول من يدعي أن القميص
لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة، أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وأشار
بذلك إلى الرد على من خالف في ذلك، وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب،
ولا يكره التكفين في القميص. وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون،
قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا،
وسيأتي الكلام على حديث عبد الله بن عمر في قصة عبد الله بن
أبي في تفسير: (براءة)، إن شاء الله تعالى، ويذكر فيه جواب الإشكال الواقع في
قول عمر: أليس
الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ مع أن نزول قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} كان
بعد ذلك كما سيأتي في سياق حديث الباب، حيث قال: فنزلت: ولا تصل. ومحصل الجواب:
أن عمر فهم من قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ} منع الصلاة عليهم، فأخبره النبي ﷺ أن لا منع، وأن الرجاء لم ينقطع بعد. ثم إن ظاهر
قوله في حديث جابر: أتى
النبي ﷺ عبد الله بن أبي بعدما دفن،
فأخرجه، فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه. مخالف لقوله في
حديث ابن عمر: لما
مات عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه.
فأعطاه قميصه، وقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، الحديث.
وقد جمع بينهما بأن معنى قوله في
حديث ابن عمر: "فأعطاه"، أي: أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم
العطية مجازا لتحقق وقوعها. وكذا قوله في حديث جابر: "بعدما
دفن عبد الله بن أبي"، أي: دلي في حفرته، وكأن أهل عبد الله
بن أبي خشوا على النبي ﷺ المشقة في حضوره،
فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي ﷺ، فلما
وصل وجدهم قد دلوه في حفرته، فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص
والصلاة عليه، والله أعلم. وقيل: أعطاه ﷺ أحد
قميصيه أولا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده. وفي "الإكليل" للحاكم ما
يؤيد ذلك. وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه
من القبر؛ لأن لفظه: فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه. والواو لا ترتب، فلعله
أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب. وسيأتي في الجهاد
ذكر السبب في إعطاء النبي ﷺ قميصه لعبد
الله بن أبي، وبقية القصة في التفسير، وأن اسم ابنه المذكور عبد الله، كاسم أبيه،
إن شاء الله تعالى. واستنبط منه الإسماعيلي جواز طلب آثار أهل الخير
منهم للتبرك بها، وإن كان السائل غنيا.
الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا
بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال