باب فضل الجمعة
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
الجُمُعَةِ، بَابُ فَضْلِ الجُمُعَةِ.
٨٨١- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ
الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي
السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي
السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ
فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي
السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ
حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».
الشرح:
قوله: (باب فضل الجمعة) أورد فيه
حديث مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي
هريرة من اغتسل يوم الجمعة ثم راح الحديث. وإسناده مدنيون، ومناسبته
للترجمة من جهة ما اقتضاه الحديث من مساواة المبادر إلى الجمعة للمتقرب بالمال
فكأنه جمع بين عبادتين بدنية ومالية، وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من
الصلوات.
قوله: «من اغتسل» يدخل فيه كل من يصح
التقرب منه من ذكر أو أنثى حر أو عبد.
قوله: «غسل الجنابة» بالنصب على أنه نعت
لمصدر محذوف، أي: غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى: {وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: ٨٨]، وفي رواية ابن
جريج عن سمي عند عبد الرزاق "فاغتسل أحدكم كما
يغتسل من الجنابة" وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر،
وقيل: فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، والحكمة فيه أن
تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضا
على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث من غسل واغتسل المخرج
في السنن على رواية من روى غسل بالتشديد، قال النووي: ذهب
بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل، والصواب الأول. انتهى.
وقد حكاه ابن قدامة عن
الإمام أحمد، وثبت أيضا عن جماعة من التابعين، وقال القرطبي: إنه
أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح ولعله عنى أنه باطل في
المذهب.
قوله: «ثم راح» زاد أصحاب الموطأ
عن مالك" في
الساعة الأولى".
قوله: «فكأنما قرب بدنة»، أي: تصدق بها
متقربا إلى الله، وقيل: المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من
الثواب ممن شرع له القربان؛ لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت
للأمم السالفة. وفي رواية ابن جريج المذكورة"
فله من الأجر مثل الجزور" وظاهره
أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور. وقيل: ليس المراد بالحديث إلا بيان
تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في
القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق" كفضل صاحب الجزور على
صاحب البقرة" ووقع
في رواية الزهري الآتية في "باب الاستماع إلى الخطبة" بلفظ" كمثل الذي يهدي
بدنة" فكأن
المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي: في
لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي،
والمراد بالبدنة البعير ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في
باقي ما ذكر. وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص
البدنة بالأنثى، وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا
من الإبل، وصح
ذلك عن عطاء، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه.
وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه
خطأ نشأ عن سقط. وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك؛
لأنهم كانوا يسمنونها. انتهى.
والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف،
واستدل به على أن البدنة تختص بالإبل؛ لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم
الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة
من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعا من الغنم. وتظهر ثمرة هذا فيما
إذا قال: لله عليّ بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة أو
سبع من الغنم. وقيل: تتعين الإبل مطلقا، وقيل: يتخير مطلقا.
قوله: «دجاجة» بالفتح، ويجوز الكسر،
وحكى الليث الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من
الحيوان وبالكسر من الناس. واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في
رواية الزهري" كالذي
يهدي"؛ لأن الهدي لا يكون منهما، وأجاب القاضي عياض تبعا لابن
بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الاتباع كقوله
"متقلدا سيفا ورمحا". وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن شرط
الاتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال متقلدا سيفا ومتقلدا رمحا.
والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من
تسمية الشيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله "قرب
بيضة" وفي الرواية الأخرى "كالذي يهدي" يدل على أن المراد بالتقريب
الهدي، وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديا هل يكفيه ذلك أو لا؟
انتهى.
والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند
الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟
فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس،
ويقوي الصحيح أيضا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما دل عليه لفظ التقرب، والله
أعلم.
قوله: «فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة
يستمعون الذكر» استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام، قال:
ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع
الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت، أو
يحمل على من ليس له مكان معد. وزاد في رواية الزهري الآتية" طووا صحفهم" ولمسلم من
طريقه "فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر" وكأن
ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهائه بجلوسه على المنبر، وهو أول
سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. وأول حديث
الزهري إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول
فالأول ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي،
وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن
خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول فكأن
المراد بقوله في رواية الزهري" على
باب المسجد" جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجة فيه لمن
أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف
المذكورة، أخرجه أبو نعيم في الحلية مرفوعا بلفظ "إذا كان يوم
الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور" الحديث، وهو دال على
أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة
بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء
والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا، ووقع في رواية ابن
عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه" فمن جاء بعد ذلك
فإنما يجيء لحق الصلاة" وفي
رواية ابن جريج عن سمي من الزيادة في آخره "ثم إذا
استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام". وفي
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة" فيقول بعض الملائكة
لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول: اللهم إن كان ضالا فاهده، وإن كان فقيرا فأغنه، وإن
كان مريضا فعافه". وفي
هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل
التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق
في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب
الناس في الفضل بحسب أعمالهم، وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع، وأن
التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو بالاتفاق في الهدي، واختلف في الضحايا،
والجمهور على أنها كذلك. وقال الزين بن المنير: فرق مالك بين
التقربين باختلاف المقصودين؛ لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقصة الذبيح، وهو قد
فدي بالغنم.
والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين
فناسب البدن. واستدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه
بعد أبواب، ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس. ثم عقب بخروج الإمام، وخروجه
عند أول وقت الجمعة، فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال.
والجواب: أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل
الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية
فهي أولى بالنسبة للمجيء ثانية بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال
فيرتفع الإشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول
التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على
التهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان اختلف فيهما الترجيح، فقيل:
أول التبكير طلوع الشمس، وقيل: طلوع الفجر، ورجحه جمع، وفيه نظر إذ يلزم منه أن
يكون التأهب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشافعي: يجزئ الغسل إذا كان بعد
الفجر فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك. ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم
يذكره الراوي، وقد وقع في رواية ابن
عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه
زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعه صفوان بن
عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني، وله شاهد من
حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ
"فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى علية الطير إلى العصفور"
الحديث. ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، ووقع
عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد
الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد
الرزاق، وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون
عند انتهاء السادسة، وهذا كله مبني على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه
من العرف فيها، وفيه نظر إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي
والصائف؛ لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة، وهذا
الإشكال للقفال، وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد
بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد
كل منها وينقص والليل كذلك، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك
التعديلية، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من
حديث جابر مرفوعا" يوم
الجمعة اثنتا عشرة ساعة" وهذا
وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات، وقيل: المراد بالساعات
بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس،
وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال: الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع
الشمس، والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها، والرابعة إلى أن ترمض
الأقدام، والخامسة إلى الزوال.
واعترضه ابن دقيق العيد بأن
الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى؛ لأن المراتب
متفاوتة جدا، وأولى الأجوبة الأول إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة،
وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكية إلا قليلا منهم وبعض الشافعية عن الإشكال بأن
المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر،
واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود، تقول جئت ساعة كذا،
وبأن قوله في الحديث "ثم راح" يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛
لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة
الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره. انتهى.
وقد أنكر الأزهري على من زعم
أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول "راح" في جميع
الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في
"الغريبين" نحوه. قلت: وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق
أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال إن استعمال الرواح
بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من
طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي، وقد رواه ابن
جريج عن سمي بلفظ "غدا" ورواه أبو
سلمة عن أبي هريرة بلفظ"
المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة" الحديث،
وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة ضرب رسول الله ﷺ مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الحديث،
أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث عليّ مرفوعا إذا
كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب
المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث
على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن
الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجئ
وقت الرواح، كما سمي القاصد إلى مكة حاجا.
وقد اشتد إنكار أحمد وابن
حبيب من المالكية ما نقل عن مالك من كراهية التبكير إلى الجمعة
وقال أحمد: هذا
خلاف حديث رسول الله ﷺ. واحتج بعض المالكية
أيضا بقوله في رواية الزهري" مثل
المهجر"؛ لأنه مشتق من التهجير وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب: بأن المراد
بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت،
وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقا من الهجير بالكسر
وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف؛ لأن مصدره
الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من
الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل
الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما
بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في الانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجير
في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: تهجرون تهجير
الفجر.
واحتجوا أيضا بأن الساعة لو لم تطل لزم
تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق، بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة.
والجواب ما قاله النووي في شرح المهذب تبعا لغيره. أن التساوي وقع في
مسمى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل
من المتقرب به مرتين حيث قال" كرجل
قدم بدنة، وكرجل قدم بدنة" الحديث،
ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج" وأول
الساعة وآخرها سواء"؛ لأن
هذه التسوية بالنسبة إلى البدنة كما تقرر.
واحتج من كره التبكير أيضا بأنه يستلزم
تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، وتعقب بأنه لا حرج عليه
في هذه الحالة؛ لأنه قاصد للوصول لحقه. وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى،
والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
٨٨٢- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْنَمَا
هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ
الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ:
أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ».
الشرح:
قوله: (باب) كذا في الأصل بغير ترجمة،
وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ووجه تعلقه به أن فيه إشارة إلى الرد على من ادعى
إجماع أهل المدينة على ترك التبكير إلى الجمعة؛ لأن عمر أنكر
عدم التبكير بمحضر من الصحابة وكبار التابعين من أهل المدينة. ووجه
دخوله في فضل الجمعة ما يلزم من إنكار عمر على الداخل احتباسه مع عظم شأنه،
فإنه لولا عظم الفضل في ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة
ثبت الفضل لها.
قوله: (إذ دخل رجل) سماه عبيد الله
بن موسى في روايته عن شيبان" عثمان
بن عفان" أخرجه الإسماعيلي ومحمد بن
سابق عن شيبان عند قاسم بن أصبغ، وكذا
سماه الأوزاعي عند مسلم وحرب بن
شداد عند الطحاوي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير،
وصرح مسلم في روايته بالتحديث في جميع الإسناد. وقد تقدمت بقية مباحثه
في "باب فضل الغسل يوم الجمعة".
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: