باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلاَةِ بَابُ مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ
التَّشَهُّدِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
٨٣٥- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ،
قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ
فِي الصَّلاَةِ، قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ
عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ
وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ،
فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ
أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو».
الشرح:
قوله: (باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد،
وليس بواجب) يشير إلى أن الدعاء السابق في الباب الذي قبله لا يجب وإن كان قد ورد
بصيغة الأمر كما أشرت إليه، لقوله في آخر حديث التشهد "ثم ليتخير"
والمنفي وجوبه يحتمل أن يكون الدعاء الذي لا يجب دعاء مخصوص، وهذا واضح مطابق للحديث،
وإن كان التخيير مأمورا به. ويحتمل أن يكون المنفي التخيير، ويحمل الأمر الوارد به
على الندب، ويحتاج إلى دليل.
قال ابن رشيد: ليس
التخيير في آحاد الشيء بدال على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشيء واجبا ويقع التخيير
في وصفه. وقال الزين بن المنير: قوله "ثم
ليتخير" وإن كان بصيغة الأمر لكنها كثيرا ما ترد للندب، وادعى بعضهم الإجماع
على عدم الوجوب، وفيه نظر، فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح
عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في
حديث أبي هريرة المذكور في الباب قبله، وذلك أنه سأل ابنه: هل قالها بعد
التشهد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصلاة. وبه قال بعض أهل الظاهر. وأفرط ابن
حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضا، وقال ابن المنذر: لولا
حديث ابن مسعود "ثم
ليتخير من الدعاء" لقلت بوجوبها، وقد قال الشافعي أيضا بوجوب
الصلاة على النبي ﷺ بعد التشهد،
وادعى أبو الطيب الطبري من أتباعه والطحاوي وآخرون أنه لم
يسبق إلى ذلك، واستدلوا على ندبيتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع، وفيه نظر؛ لأنه
ورد عن أبي جعفر الباقر والشعبي وغيرهما ما يدل على القول بالوجوب.
وأعجب من ذلك أنه صح عن ابن مسعود راوي حديث الباب ما يقتضيه،
فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى أبي
الأحوص قال: قال عبد الله يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي
ﷺ ثم يدعو لنفسه بعد.
وقد وافق الشافعي أحمد في
إحدى الروايتين عنه وبعض أصحاب مالك، وقال إسحاق بن راهويه أيضا
بالوجوب لكن قال: إن تركها ناسيا رجوت أن يجزئه، فقيل إن له في المسألة قولين كأحمد،
وقيل بل كان يراها واجبة لا شرطا. ومنهم من قيد تفرد الشافعي بكونه
عينها بعد التشهد لا قبله ولا فيه حتى لو صلى على النبي ﷺ
في أثناء التشهد مثلا لم يجزئ عنده. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الدعوات إن شاء الله
تعالى.
قوله: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه
فيدعو»، زاد أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه
"فيدعو به" ونحوه النسائي من وجه آخر بلفظ "فليدع به"،
ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش"
ثم ليتخير من الدعاء ما أحب"، وفي
رواية منصور عن أبي وائل عند المصنف في الدعوات "ثم
ليتخير من الثناء ما شاء"، ونحوه لمسلم بلفظ "من
المسألة" واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختار المصلي من أمر
الدنيا والآخرة، قال ابن بطال: خالف في
ذلك النخعي وطاوس وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا
بما يوجد في القرآن، كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب
الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة
بعضهم: ما كان مأثورا، قال قائلهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعا أو غير مرفوع،
لكن ظاهر حديث الباب يرد عليهم، وكلا يرد على قول ابن سيرين: لا
يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح في أمر الدنيا، فإن
أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقا لا
يجوز، وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار من أحسنها ما رواه سعيد بن
منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال "
كان عبد الله، يعني: ابن مسعود يعلمنا التشهد في
الصلاة ثم يقول: "إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل اللهم إني أسألك من الخير
كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك
منه عبادك الصالحون.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}
[البقرة: ٢٠١] الآية". قال ويقول: لم يدع نبي ولا صالح بشيء إلا دخل في هذا الدعاء.
وهذا من المأثور غير مرفوع، وليس هو مما ورد في القرآن. وقد
استدل البيهقي بالحديث المتفق عليه ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه
فيدعو به، وبحديث أبي هريرة رفعه إذا فرغ أحدكم من التشهد
فليتعوذ بالله الحديث. وفي آخره"
ثم يدعو لنفسه بما بدا له" هكذا
أخرجه البيهقي، وأصل الحديث في مسلم، وهذه الزيادة صحيحة؛ لأنها من
الطريق التي أخرجها مسلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: