باب ما جاء في الوضوء
فتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري
باب ما جاء في الوضوء
فتح
الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ الوُضُوءِ بَابٌ: مَا جَاءَ فِي الوُضُوءِ.
وَقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ: "وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ
أَنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ
وَثَلاَثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ العِلْمِ الإِسْرَافَ
فِيهِ، وَأَنْ يُجاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ".
الشرح:
باب
ما جاء في قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}
[المائدة: ٦] الآية. وفي رواية الأصيلي: "ما جاء في قول الله تعالى" دون
ما قبله، ولكريمة: "باب في الوضوء وقول الله" إلى آخره.
والمراد
بـ(الوضوء) ذكر أحكامه وشرائطه وصفته ومقدماته و(الوضوء) بالضم هو الفعل وبالفتح
الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما وحكي في كل منهما الأمران وهو مشتق من
الوضاءة وسمي به؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئًا.
وأشار
بقوله: (ما جاء) إلى اختلاف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم
إلى الصلاة محدثين، وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف إلا أنه في
حق المحدث على الإيجاب وفي حق غيره على الندب، وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ
فصار مندوبًا ويدل لهذا ما رواه أحمد، وأبو داود من طريق عبد الله بن عبد الله بن
عمر بن الخطاب، أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر، عن عبد
الله بن حنظلة الأنصاري، أن رسول الله ﷺ:
أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من
حدث.
ولمسلم
من حديث بريدة: كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم
الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئًا
لم تكن تفعله، قال: «عمدًا فعلته». أي: لبيان الجواز وسيأتي حديث أنس في ذلك في
«باب الوضوء من غير حدث».
واختلف
العلماء أيضًا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبًا موسعًا، وقيل: به وبالقيام
إلى الصلاة معًا ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له
ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ
قال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة».
واستنبط
بعض العلماء من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ} [المائدة: ٦] إيجاب النية في الوضوء؛ لأن التقدير إذا أردتم
القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي: لأجله،
وتمسك بهذه الآية من قال إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن
عبد البر اتفاق أهل السير أن غسل الجنابة فرض على النبي ﷺ
وهو بمكة كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا ما لا يجهله عالم.
وقال
الحاكم في المستدرك: أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم
يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي ﷺ
وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتوني بوضوء»
فتوضأ. الحديث.
قلت:
وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ
وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبًا، وجزم ابن حزم بأنه لم
يشرع إلا بالمدينة ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في (المغازي) التي يرويها عن
أبي الأسود يتيم عروة عنه: (أن جبريل علم النبي ﷺ
الوضوء عند نزوله عليه بالوحي) وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضًا، لكن
قال عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين
بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند وأخرجه
الطبراني في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولًا ولو ثبت لكان على شرط الصحيح،
لكن المعروف رواية ابن لهيعة.
قوله:
(وبين النبي ﷺ أن فرض الوضوء مرة مرة) كذا في
روايتنا بالرفع على الخبرية ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق، أي: فرض الوضوء غسل
الأعضاء غسلًا مرةً مرةً أو على الحال السادة مسد الخبر، أي: يفعل مرةً أو على لغة
من ينصب الجزأين بـ(أن) وأعاد لفظ (مرة) لإرادة التفصيل، أي: الوجه مرة واليد مرة
إلى آخره.
والبيان
المذكور يحتمل أن يشير به إلى ما رواه بعد من حديث ابن عباس: (أن النبي ﷺ
توضأ مرةً مرةً) وهو بيان بالفعل لمجمل الآية؛ إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة
ولا يتعين لعدد فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب،
وستأتي الأحاديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، وأما حديث أبي بن كعب: أن
النبي ﷺ دعا بماء فتوضأ مرةً مرةً، وقال: «هذا
وضوء لا تقبل الصلاة إلا به» ففيه بيان بالقول والفعل معًا، لكنه حديث ضعيف أخرجه
ابن ماجه وله طرق أخرى كلها ضعيفة.
قوله:
(وتوضأ أيضًا مرتين مرتين) كذا في رواية أبي ذر ولغيره "مرتين" بغير
تكرار، وسيأتي هذا التعليق موصولًا في باب مفرد مع الكلام عليه.
قوله:
(وثلاثًا) أي: وتوضأ أيضًا ثلاثًا، زاد الأصيلي: "ثلاثًا" على نسق ما
قبله، وسيأتي موصولًا أيضًا في باب مفرد.
قوله:
(ولم يزد على ثلاث) أي: لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه ﷺ
أنه زاد على ثلاث، بل ورد عنه ﷺ ذم من زاد عليها، وذلك فيما رواه
أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ
توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: «من زاد علي هذا أو نقص فقد أساء وظلم» إسناده جيد،
لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب؛ لأن ظاهره ذم النقص من الثلاث،
وأجيب: بأنه أمر نسبي والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة، وقيل: فيه حذف
تقديره من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب
مرفوعًا: «الوضوء مرةً ومرتين وثلاثًا فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ»
وهو مرسل رجاله ثقات، وأجيب عن الحديث أيضًا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص
فيه بل أكثرهم مقتصر على قوله: «فمن زاد» فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره
والله أعلم، ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن بعض العلماء أنه
لا يجوز النقص من الثلاث وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور وهو محجوج بالإجماع،
وأما قول مالك في (المدونة) لا أحب الواحدة إلا من العالم فليس فيه إيجاب زيادة
عليها والله أعلم.
قوله:
(وكره أهل العلم الإسراف فيه) يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق هلال
بن يساف -أحد التابعين- قال: "كان يقال من الوضوء إسراف ولو كنت على شاطئ نهر"
وأخرج نحوه عن أبي الدرداء، وابن مسعود وروي في معناه حديث مرفوع أخرجه أحمد وابن
ماجه بإسناد لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
قوله:
(وأن يجاوزوا) إلى آخره، يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن مسعود قال: "ليس
بعد الثلاث شيء" وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: "لا تجوز الزيادة على الثلاث"
وقال ابن المبارك: "لا آمن أن يأثم" وقال الشافعي: "لا أحب أن يزيد
المتوضئ على ثلاث فإن زاد لم أكرهه" أي: لم أحرمه؛ لأن قوله: "لا أحب"
يقتضي الكراهة، وهذا الأصح عند الشافعية أنه مكروه كراهة تنزيه، وحكى الدارمي منهم
عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة وهو قياس فاسد،
ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء
على الإطلاق، واختلف عند الشافعية في القيد الذي يمتنع منه حكم الزيادة على الثلاث،
فالأصح إن صلى به فرضًا أو نفلًا، وقيل مثله حتى سجدة التلاوة والشكر ومس المصحف،
وقيل الفرض فقط، وقيل ما يقصد له الوضوء وهو أعم، وقيل إذا وقع الفصل بزمن يحتمل
في مثله نقض الوضوء عادةً.
وعند
بعض الحنفية: أنه راجع إلى الاعتقاد فإن اعتقد أن الزيادة على الثلاث سنة أخطأ
ودخل في الوعيد وإلا فلا يشترط للتحديد شيء بل لو زاد الرابعة وغيرها لا لوم ولا
سيما إذا قصد به القربة للحديث الوارد «الوضوء على الوضوء نور».
قلت:
وهو حديث ضعيف ولعل المصنف أشار إلى هذه الرواية وسيأتي بسط ذلك في أول تفسير
المائدة إن شاء الله تعالى، ويستثنى من ذلك ما لو علم أنه بقي من العضو شيء لم
يصبه الماء في المرات أو بعضها فإنه يغسل موضعه فقط، وأما مع الشك الطارئ بعد
الفراغ فلا لئلا يؤول به الحال إلى الوسواس المذموم.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

ليست هناك تعليقات: