باب ما يقرأ في ركعتي الفجر
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب
التَّهَجُّدِ:
بَابُ مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الفَجْرِ.
١١٧٠- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً،
ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
الشرح:
قوله: (باب ما يقرأ في ركعتي الفجر) هو
بضم "يقرأ" على البناء للمجهول.
قوله: (ثلاث عشرة ركعة) مخالف لما مضى
قريبا من طريق أبي سلمة، عن عائشة: "لم يكن يزيد على إحدى عشرة".
وقد تقدم طريق الجمع بينهما هناك.
قوله: (خفيفتين) قال الإسماعيلي: كان
حق هذه الترجمة أن تكون تخفيف ركعتي الفجر. قلت: ولما ترجم به
المصنف وجه وجيه، وهو أنه أشار إلى خلاف من زعم أنه لا يقرأ في ركعتي
الفجر أصلا، وهو قول محكي عن أبي بكر الأصم وإبراهيم بن علية، فنبه
على أنه لا بد من القراءة، ولو وصفت الصلاة بكونها خفيفة، فكأنها أرادت قراءة
الفاتحة فقط مسرعا، أو قرأها مع شيء يسير غيرها، واقتصر على ذلك؛ لأنه لم يثبت
عنده على شرطه تعيين ما يقرأ به فيهما، وسنذكر ما ورد من ذلك بعد. واختلف
في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول الوقت، وبه جزم القرطبي،
وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض،
أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام. والله أعلم.
١١٧١- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمَّتِهِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ،
ح. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ
صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ؟
الشرح:
قوله: (عن محمد بن عبد الرحمن) أي:
ابن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، ويقال: اسم جده عبد الله.
وقوله: (عن عمته عمرة)، هي بنت عبد
الرحمن بن سعد بن زرارة، وعلى هذا فهي عمة أبيه. وزعم أبو مسعود وتبعه الحميدي أنه محمد
بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري أبو الرجال،
ووهمه الخطيب في ذلك، وقال: إن شعبة لم يرو عن أبي
الرجال شيئا، ويؤيد ذلك أن عمرة أم أبي الرجال لا عمته، وقد
رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، فقال: عن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم عن عمرة، ووهموه فيه أيضا. ويحتمل إن كان حفظه أن
يكون لشعبة فيه شيخان.
قوله: (ح وحدثنا أحمد بن يونس) في
رواية أبي ذر "قال: وحدثنا" وفاعل قال هو المصنف أبو عبد الله
البخاري، وزهير هو ابن معاوية الجعفي.
قوله: (حدثنا يحيى) هو
ابن سعيد كذا في الأصل، وهو الأنصاري.
قوله: (عن محمد بن عبد الرحمن) كذا
في الأصل غير منسوب، والظاهر أنه هو الذي قبله وهو ابن أخي عمرة، وبذلك
جزم أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد عند الإسماعيلي، وتابعه
آخرون عن يحيى. وذكر الدارقطني في
العلل أن سليمان بن بلال رواه عن يحيى بن سعيد، قال:
حدثني أبو الرجال، وكذا رواه عبد العزيز بن مسلم، ومعاوية بن صالح،
عن يحيى بن محمد بن عمرة، وهو أبو الرجال، وقد تقدم أنه محمد بن عبد
الرحمن، فيحتمل أن يكون ليحيى فيه شيخان، لكن رجح الدارقطني الأول،
وحكى فيه اختلافات أخرى عن يحيى موهمة، وقد
رواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عائشة فأسقط من الإسناد اثنين.
قوله: (هل قرأ بأم الكتاب) في
رواية الحموي: "بأم القرآن" زاد مالك في الرواية المذكورة:
أم لا؟
(تنبيه): ساق البخاري المتن على
لفظ يحيى بن سعيد، وأما لفظ شعبة فأخرجه أحمد، عن محمد
بن جعفر شيخ البخاري فيه بلفظ: إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أو لم يصل إلا ركعتين،
أقول: لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب. وكذا
رواه مسلم من طريق معاذ، عن شعبة لكن لم يقل: أو لم يصل
إلا ركعتين. ورواه أحمد أيضا عن يحيى القطان، عن شعبة بلفظ:
كان إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين، فأقول: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب. وقد
تمسك به من زعم أنه لا قراءة في ركعتي الفجر أصلا، وتعقب بما ثبت في الأحاديث
الآتية.
قال القرطبي: ليس
معنى هذا أنها شكت في قراءته ﷺ الفاتحة، وإنما
معناه أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف في قراءة ركعتي الفجر صار كأنه لم يقرأ
بالنسبة إلى غيرها من الصلوات.
قلت: وفي تخصيصها أم القرآن بالذكر إشارة
إلى مواظبته لقراءتها في غيرها من صلاته. وقد روى ابن ماجه بإسناد قوي،
عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت: كان
رسول الله ﷺ يصلي ركعتين قبل الفجر وكان يقول:
نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون: ١]. و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١].
ولابن أبي شيبة من طريق محمد
بن سيرين، عن عائشة "كان يقرأ فيهما بهما". ولمسلم من
حديث أبي هريرة أنه ﷺ "قرأ فيهما
بهما". وللترمذي والنسائي من
حديث ابن عمر: رمقت
النبي ﷺ شهرا، فكان يقرأ فيهما بهما. وللترمذي من
حديث ابن مسعود مثله بغير تقييد، وكذا للبزار، عن أنس، ولابن
حبان، عن جابر ما يدل على الترغيب في قراءتهما فيهما.
واستدل بحديث الباب على أنه لا يزيد
فيهما على أم القرآن، وهو قول مالك، وفي البويطي،
عن الشافعي استحباب قراءة السورتين المذكورتين فيهما مع الفاتحة عملا
بالحديث المذكور، وبذلك قال الجمهور، وقالوا: معنى قول عائشة: "هل قرأ
فيهما بأم القرآن"، أي: مقتصرا عليها، أو ضم إليها غيرها، وذلك لإسراعه بقراءتها،
وكان من عادته أن يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها كما تقدمت الإشارة إليه.
وذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو
قول أكثر الحنفية، ونقل عن النخعي، وأورد البيهقي فيه حديثا مرفوعا
من مرسل سعيد بن جبير وفي سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء
من قراءته في صلاة الليل فيستدركها في ركعتي الفجر، ونقل ذلك عن أبي حنيفة. وأخرجه ابن
أبي شيبة بسند صحيح، عن الحسن البصري، واستدل به على الجهر
بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة،
كما تقدم في صفة الصلاة من حديث أبي قتادة في صلاة الظهر: "يسمعنا
الآية أحيانا". ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة
"يسر فيهما القراءة". وقد صححه ابن عبد البر.
واستدل بالأحاديث المذكورة على أنه لا
يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة؛ لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص. وروى مسلم من
حديث ابن عباس أنه ﷺ كان يقرأ في
ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}
[البقرة: ١٣٦] التي في البقرة، وفي الأخرى التي في آل عمران. هي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: ٦٤]، الآية. كما جاء ذلك صريحا
في إحدى روايتي مسلم. وأجيب:
بأنه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر فيها. ويؤيده أن قول عائشة: "لا أدري
أقرأ الفاتحة أم لا". فدل على أن الفاتحة كان مقررا عندهم أنه لا بد من قراءتها.
والله أعلم.
(تنبيه): هذه الأبواب الستة المتعلقة
بركعتي الفجر وقع في أكثر الأصول الفصل بينها بالباب الآتي بعد، وهو: "باب:
ما جاء في التطوع مثنى مثنى". والصواب ما وقع في بعض الأصول من تأخيره عنها،
وإيرادها يتلو بعضها بعضا، قال ابن رشيد: الظاهر أن ذلك وقع من
بعض الرواة عند ضم بعض الأبواب إلى بعض. ويدل على ذلك أنه أتبع هذا الباب بقوله:
"باب الحديث بعد ركعتي الفجر"؛ كالمبين للحديث الذي أدخل تحت قوله:
"باب من تحدث بعد الركعتين"، إذ المراد بهما ركعتا الفجر، وبهذا تتبين
فائدة إعادة الحديث. انتهى. وإنما ضم المصنف ركعتي الفجر إلى التهجد لقربهما منه،
كما ورد أن المغرب وتر النهار، وإنما المغرب في التحقيق من صلاة الليل كما أن
الفجر في الشرع من صلاة النهار. والله أعلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ
اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

ليست هناك تعليقات: