إذا أسلم العبد فحسن إسلامه
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر
إذا أسلم العبد فحسن إسلامه
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب
الإيمان بَابُ: حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ
قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ
الخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ، يُكَفِّرُ
اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ،
وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا».
الشرح:
قال
مالك: هكذا ذكره معلقا ولم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب وقد وصله أبو ذر
الهروي في روايته للصحيح فقال عقبه: أخبرناه النضروي هو العباس بن الفضل، قال:
حدثنا الحسن بن إدريس قال: حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم، عن مالك به
وكذا وصله النسائي من رواية الوليد بن مسلم حدثنا مالك فذكره أتم مما هنا كما
سيأتي، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع والبزار من طريق إسحاق
الفروي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب والبيهقي في الشعب من طريق إسماعيل بن
أبي أويس كلهم عن مالك وأخرجه الدارقطني من طرق أخرى عن مالك، وذكر أن معن بن عيسى
رواه عن مالك فقال: عن أبي هريرة، بدل أبي سعيد وروايته شاذة ورواه سفيان بن عيينة
عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ورويناه في الخلعيات وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو
أتقن لحديث أهل المدينة من غيره، وقال الخطيب: هو حديث ثابت، وذكر البزار أن مالكا
تفرد بوصله.
قوله: (إذا أسلم العبد) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء وذكره
بلفظ المذكر تغليبا.
قوله: (فحسن إسلامه) أي: صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله
فيه بالباطن والظاهر وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه كما دل عليه
تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي.
قوله: (يكفر الله) هو بضم الراء لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط
لكنها لا تجزم واستعمل الجواب مضارعا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى
المستقبل، وفي رواية البزار: (كفر الله) فواخى بينهما.
قوله: (كان أزلفها) كذا لأبي ذر ولغيره زلفها وهي: بتخفيف اللام كما
ضبطه صاحب المشارق وقال النووي: بالتشديد ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن
مالك بلفظ: «ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها ومحا عنه
كل خطيئة زلفها» بالتخفيف فيهما وللنسائي نحوه، لكن قال: أزلفها وزلف بالتشديد
وأزلف بمعنى واحد أي: أسلف وقدم قاله الخطابي وقال في المحكم: أزلف الشيء قربه
وزلفه مخففا ومثقلا قدمه وفي الجامع الزلفة تكون في الخير والشر وقال في المشارق:
زلف بالتخفيف، أي: جمع وكسب وهذا يشمل الأمرين وأما القربة فلا تكون إلا في الخير
فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر، لكن منقول الخطابي يساعدها وقد ثبت في جميع
الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام.
وقوله: (كتب الله) أي: أمر أن يكتب، والدارقطني من طريق زيد بن شعيب
عن مالك بلفظ يقول الله لملائكته: (اكتبوا) فقيل: إن المصنف أسقط ما رواه غيره
عمدا لأنه مشكل على القواعد، وقال المازري: الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على
العمل الصالح الصادر منه في شركه لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه
والكافر ليس كذلك، وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال، واستضعف ذلك النووي
فقال: الصواب الذي عليه المحققون بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل
أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له
وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا
ككفارة الظهار فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه انتهى.
والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من
الله وإحسانا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا والحديث إنما تضمن
كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل
ويثاب إن أسلم وإلا فلا وهذا قوي وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وبن
بطال وغيرهما من القدماء، والقرطبي وبن المنير من المتأخرين.
قال بن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره،
وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا
فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل وكما يتفضل على العاجز بثواب ما
كان يعمل وهو قادر فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة جاز أن يكتب له ثواب
ما عمله غير موفي الشروط.
وقال بن بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه،
واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن.
والحديث الصحيح وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله
الصالح بل يكون هباء منثورا فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني
وبقوله ﷺ لما سألته عائشة عن بن جدعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه فقال:
«إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم
نفعه ما عمله في الكفر.
قوله: (وكان بعد ذلك القصاص)
أي: كتابة المجازاة في الدنيا وهو مرفوع بأنه اسم كان ويجوز أن تكون كان تامة وعبر
بالماضي لتحقق الوقوع فكأنه وقع كقوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: ٤٤].
وقوله: (الحسنة) مبتدأ وبعشر الخبر والجملة استئنافية.
وقوله: (إلى سبعمائة) متعلق بمقدر أي: منتهية وحكى الماوردي أن بعض العلماء
أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، ورد عليه بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: ٢٦١] والآية محتملة للأمرين فيحتمل أن يكون المراد أنه
يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها
والمصرح بالرد عليه حديث بن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق ولفظه: «كتب الله له
عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة».
قوله: (إلا أن يتجاوز الله عنها) زاد سمويه في فوائده إلا أن يغفر
الله وهو الغفور.
وفيه دليل على الخوارج
وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود المذنبين في النار فأول الحديث يرد
على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته وآخره يرد على
الخوارج والمعتزلة.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: