يا سعد إنّي لأعطي الرّجل، وغيره أحبّ إليّ منه
فتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري
يا
سعد إنّي لأعطي الرّجل، وغيره أحبّ إليّ منه
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب
الإيمان بَابٌ: إِذَا لَمْ يَكُنِ
الإِسْلاَمُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلاَمِ أَوِ الخَوْفِ مِنَ
القَتْلِ
لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: ١٤]. فَإِذَا
كَانَ عَلَى الحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الإِسْلاَمُ} [آل عمران: ١٩]. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: ٨٥].
قوله:
(باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة) حذف جواب قوله: إذا للعلم به، كأنه يقول:
إذا كان الإسلام كذلك لم ينتفع به في الآخرة ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام
يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله وعليه قوله
تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}،
وقوله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ
مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: ٣٦]، ويطلق ويراد
به الحقيقة اللغوية وهو مجرد الانقياد والاستسلام فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي
الشرعية ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث إن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام،
وإن لم يعلم باطنه فلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية وأما اللغوية
فحاصلة.
حَدَّثَنَا
أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا هُوَ
أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: «أَوْ
مُسْلِمًا» فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ،
فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي
لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا».
ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ،
ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي
الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ
فِي النَّارِ» وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَأبْنُ أَخِي
الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قوله: (عن سعد هو بن أبي وقاص) كما صرح به الإسماعيلي في روايته وهو
والد عامر الراوي عنه كما وقع في الزكاة عند المصنف من رواية صالح بن كيسان قال
فيها: عن عامر بن سعد عن أبيه واسم أبي وقاص مالك وسيأتي تمام نسبه في مناقب سعد
إن شاء الله تعالى.
قوله: (أعطى رهطا) الرهط: عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، قال
القزاز: وربما جاوزوا ذلك قليلا ولا واحد له من لفظه ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى
وقيل: قبيلته وللإسماعيلي من طريق بن أبي ذئب أنه جاءه رهط فسألوه فأعطاهم فترك
رجلا منهم.
قوله: (وسعد جالس) فيه تجريد.
وقوله: (أعجبهم إلى) فيه التفات، ولفظه في الزكاة أعطى رهطا وأنا
جالس فساقه بلا تجريد ولا التفات وزاد فيه فقمت إلى رسول الله ﷺ
فساررته وغفل بعضهم فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط والرجل المتروك اسمه جعيل بن
سراقة الضمري سماه الواقدي في المغازي.
قوله:
(مالك عن فلان) يعني: أي سبب لعدولك عنه إلى غيره ولفظ فلان كناية عن اسم أبهم بعد
أن ذكر.
قوله:
(فوالله) فيه القسم في الإخبار على سبيل التأكيد.
قوله:
(لأراه) وقع في روايتنا من طريق أبي ذر وغيره بضم الهمزة هنا وفي الزكاة وكذا هو
في رواية الإسماعيلي وغيره، وقال الشيخ محيي الدين رحمه الله: بل هو بفتحها أي:
أعلمه ولا يجوز ضمها فيصير بمعنى أظنه لأنه قال بعد ذلك غلبني ما أعلم منه اه ولا
دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب ومنه قوله
تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}
[الممتحنة: ١٠]
سلمنا لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية فيكون نظريا لا يقينيا
وهو الممكن هنا وبهذا جزم صاحب المفهم في شرح مسلم فقال الرواية: بضم الهمزة
واستنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن لأن النبي ﷺ
ما نهاه عن الحلف كذا قال وفيه نظر لا يخفى لأنه أقسم على وجدان الظن وهو كذلك ولم
يقسم على الأمر المظنون كما ظن.
قوله: (فقال: أو مسلما) هو بإسكان الواو لا بفتحها فقيل هي للتنويع
وقال بعضهم: هي للتشريك وأنه أمره أن يقولهما معا لأنه أحوط ويرد هذا رواية بن
الأعرابي في معجمه في هذا الحديث فقال: لا تقل مؤمن بل مسلم فوضح أنها للإضراب
وليس معناه الإنكار بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة
الباطنة أولى من إطلاق المؤمن لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر قاله الشيخ محيي
الدين ملخصا، وتعقبه الكرماني بأنه يلزم منه أن لا يكون الحديث دالا على ما عقد له
الباب، ولا يكون لرد الرسول ﷺ على سعد فائدة وهو تعقب مردود وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث
والترجمة قبل ومحصل القصة أن النبي ﷺ كان يوسع
العطاء لمن أظهر الإسلام تألفا فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة وترك جعيلا وهو من
المهاجرين مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم
لما اختبره منه دونهم ولهذا راجع فيه أكثر من مرة.
فأرشده النبي ﷺ إلى أمرين: أحدهما إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان جعيل مع
كونه أحب إليه ممن أعطى لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده فيكون من أهل
النار، ثانيهما: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر
الظاهر فوضح بهذا فائدة رد الرسول ﷺ على سعد
وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى،
والآخر على طريق الاعتذار فإن قيل كيف لم تقبل شهادة سعد لجعيل بالإيمان ولو شهد
له بالعدالة لقبل منه وهي تستلزم الإيمان فالجواب أن كلام سعد لم يخرج مخرج
الشهادة وإنما خرج مخرج المدح له والتوسل في الطلب لأجله فلهذا نوقش في لفظه حتى
ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر، الأولى رد شهادته بل
السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه بدليل أنه اعتذر إليه، وروينا في مسند محمد بن
هارون الروياني وغيره بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال له:
كيف ترى جعيلا قال قلت: كشكله من الناس يعني: المهاجرين قال: فكيف ترى فلانا قال
قلت: سيد من سادات الناس قال: فجعيل خير من ملء الأرض من فلان قال قلت: ففلان هكذا
وأنت تصنع به ما تصنع قال: إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به.
فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبي ﷺ كما ترى
فظهرت بهذا الحكمة في حرمانه وإعطاء غيره وأن ذلك لمصلحة التأليف كما قررناه.
وفي حديث الباب من الفوائد: التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وترك
القطع بالإيمان الكامل لمن لم ينص عليه وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا
صريحا وإن تعرض له بعض الشارحين نعم هو كذلك فيمن لم يثبت فيه النص.
وفيه: الرد على غلاة المرجئة في اكتفائهم في الإيمان بنطق اللسان
وفيه جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم وإن خفي وجه ذلك على
بعض الرعية.
وفيه: جواز الشفاعة عند الإمام فيما يعتقد الشافع جوازه وتنبيه
الصغير للكبير على ما يظن أنه ذهل عنه ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤد
إلى مفسدة وأن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان كما ستأتي الإشارة إليه في كتاب
الزكاة فقمت إليه فساررته وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة.
وفيه: أن من أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحة لا ينكر عليه بل يبين
له وجه الصواب.
وفيه: الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته وأن لا
عيب على الشافع إذا ردت شفاعته لذلك.
وفيه: استحباب ترك الإلحاح في السؤال كما استنبطه المؤلف منه في
الزكاة وسيأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى.
قوله: (إني لأعطي الرجل) حذف المفعول الثاني للتعميم أي: أي عطاء
كان.
قوله: (أعجب إلى) في رواية الكشميهني أحب وكذا لأكثر الرواة ووقع عند
الإسماعيلي بعد قوله: (أحب إلى منه وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله إلخ) ولأبي
داود من طريق معمر إني أعطي رجالا وأدع من هو أحب إلى منهم لا أعطيه شيئا مخافة أن
يكبوا في النار على وجوههم.
قوله: (أن يكبه) هو بفتح أوله وضم الكاف يقال: أكب الرجل إذا أطرق
وكبه غيره إذا قلبه وهذا على خلاف القياس لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة وهذا
زيدت عليه الهمزة فقصر وقد ذكر المؤلف هذا في كتاب الزكاة فقال يقال: أكب الرجل
إذا كان فعله غير واقع على أحد فإذا وقع الفعل قلت: كبه وكببته وجاء نظير هذا في
أحرف يسيرة منها: أنسل ريش الطائر ونسلته، وأنزفت البئر ونزفتها وحكى بن الأعرابي
في المتعدي كبه وأكبه معا تنبيه ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه، وقد
روى عن بن وهب ورشدين بن سعد جميعا عن يونس عن الزهري بسند آخر. قال عن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أخرجه بن أبي حاتم ونقل عن أبيه أنه خطأ من راويه وهو
الوليد بن مسلم عنهما.
قوله: (ورواه يونس) يعني: بن يزيد الأيلي وحديثه موصول في كتاب
الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رسته بضم الراء وإسكان السين المهملتين
وقبل الهاء مثناة من فوق مفتوحة ولفظه قريب من سياق الكشميهني ليس فيه إعادة
السؤال ثانيا ولا الجواب عنه.
قوله: (وصالح) يعني: بن كيسان وحديثه موصول عند المؤلف في كتاب
الزكاة وفيه من اللطائف رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم صالح والزهري
وعامر.
قوله: (ومعمر) يعني: بن راشد وحديثه عند أحمد بن حنبل والحميدي
وغيرهما عن عبد الرزاق عنه وقال فيه: إنه أعاد السؤال ثلاثا ورواه مسلم عن محمد بن
يحيى بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن الزهري ووقع في إسناده وهم منه أو من شيخه
لأن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن بن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة
معمر بينهما وكذا حدث به بن أبي عمر شيخ مسلم في مسنده عن بن عيينة وكذا أخرجه أبو
نعيم في مستخرجه من طريقه وزعم أبو مسعود في الأطراف أن الوهم من بن أبي عمر وهو
محتمل لأن يكون الوهم صدر منه لما حدث به مسلما لكن لم يتعين الوهم في جهته وحمله
الشيخ محيي الدين على أن بن عيينة حدث به مرة بإسقاط معمر ومرة بإثباته وفيه بعد
لأن الروايات قد تضافرت عن بن عيينة بإثبات معمر ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم
والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط كما قدمناه وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي تعليق
التعليق.
وفي رواية عبد الرزاق عن معمر من الزيادة قال الزهري: فنرى أن
الإسلام الكلمة والإيمان العمل وقد استشكل هذا بالنظر إلى حديث سؤال جبريل فإن
ظاهره يخالفه ويمكن أن يكون مراد الزهري أن المرء يحكم بإسلامه.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: