شرح اسم الله (الغفور)
أسماء الله الحسنى
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
شرح اسم الله (الْغَفُور)
أسماء
الله الحسنى: اسم الله الغفور.
مع
درس من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم هو الغفور، الغفور كما ورد في
الحديث الصحيح من أسماء الله الحُسنى، والغفور كما تعلمون أصله في اللغة من مادة
غَفَرَ، وغفر بمعنى: ستر، والغَفْرُ هو الستر.
أما
معنى اسم الغفور: فهو كثير المغفرة للذنوب، من مادة غفر، واسم الفاعل غافر، أما
غفور فصيغة مبالغة لاسم الفاعل، يعني: كثير المغفرة.
غفر
فلان شيئًا أي: ستره، والمغفرة التغطية على الذنوب والعفو عنها، وقد قال بعض
العرب: أسألك الغفيرة والناقة الغزيرة، وعزة في العشيرة فإنها عليك يسيرة.
والغفيرة هي الستر.
والغفران
من الله أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، ومغفرة الله ستر بينك وبين العذاب، وقد
يُقال: غفر له إذا تجاوز عنه في الظاهر ولم يتجاوز عنه في الباطن، فالسيئة مسجلة
ولكن لم يعاقب عليها.
والغفور
والغفار والغافر؛ من أسماء الله الحُسنى.
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ
ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: ٣].
فغافر
من أسماء الله الحُسنى، وكذلك الغفار والغفور.
فيا
أيها الإخوة الكرام: إن هذا الاسم من أقرب أسماء الله الحُسنى إليكم. لأن العبد من
شأنه أن يذنب، والله من شأنه أن يغفر، وما أمرك أن تستغفره إلا ليغفر لك، وما أمرك
أن تستغفره إلا لأن لمّا يعلم ضعفك، وغفلتك أحيانًا، فالمغفرة علاج الضعف البشري
أحيانًا، أو الغفلة، ولولا أن الله تعالى غفور، فما يحل بنا؟ وما نفعل بذنوبنا،
وكيف نواجه ربنا، لكن الله سبحانه وتعالى غفور، أي: يستر ذنبك عن الخلق ويعفو عنك
ويحول بينك وبين العقاب.
والآن
هناك معان جديدة في الغفور. فأنت لضعفك أحيانًا تغفر إذ لا تستطيع أن تنال من
فلان، فتسامحه، لكن شأن الله -جل جلاله- غير هذا الشأن، الغفور هو التام القدرة،
يعني: الله -جل جلاله- قدير إلى درجة أن الخلق كلهم جميعًا كن فيكون، زل فيزول.
ومع تمام قدرته هو غفور.
وبالمناسبة،
فهناك فضائل خلقية لا قيمة لها إلا إذا رافقتها القوة فالعفو مثلًا، من دون مقدرة
لا قيمة له، لكن أن تملك عدوك ويصبح في قبضتك ويرى نفسه صغيرًا، أو كأنه لا وجود
له، فالآن تعفو عنه.
والنبي
-عليه الصلاة والسلام- حينما دخل مكة فاتحًا، وهي التي أخرجته ونكلت بأصحابه
وناصبته العداء عشرين عامًا، وعزته مرات عديدة، ولم تدع أسلوبًا ينال من رسول الله
وأصحابه إلا سلكته، وقريش الآن كلها في قبضته. مائة ألف سيف متوهج ينتظرون حركة من
شفتيه، حياتهم رهن إشارته، فقال لأهلها: «ما تظنون أني فاعل بكم»، قالوا: أخ كريم
وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
والعفو
من دون قدرة لا قيمة له، والحلم يحتاج إلى قدرة والأمانة لا قيمة لها إلا إذا لم
تكن مدانًا في الأرض، فإن كان معك مال لإنسان مات فجأة، ولم يعلم أحدٌ بهذا المال،
فلست مدانًا أمام الناس إطلاقًا، وليس في الأرض كلها جهة تحاسبك عليه، فأتيت
الورثة ونقدتهم المبلغ، فهذه هي الأمانة، إنها خُلق ومن لوازمها أن لا تكون مدانًا
في الأرض، والعفو خلق من خصائصه أن تكون تام القدرة، والمغفرة كذلك، فالعفو
والمغفرة والحلم؛ ينبغي لك أن تكون تام القدرة حتى تكون لهذه الخصائص الخلقية قيمة
في الميزان الأخلاقي.
الغفور
كما قال العلماء: هو السيد التام القدرة، وقد يغفر فضلًا وإحسانًا منه قال تعالى:
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨].
فالمنطق
وسياق الآيات. فإنك أنت الغفور الرحيم، بل جاءت الآيات: {فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وإذا غفرت لهؤلاء فليس في الكون كله من يسأل
الله لماذا غفرت لهم، وأنت أحيانًا تلتمس العذر من إنسان قوي، فيقول لك: أنا
بإمكاني أن أعفو عنك ولكن أحاسب لمَ عفوت عنك، لكن الله -سبحانه وتعالى- إذا أراد
أن يغفر لعبد ذنبًا فمن يحاسبه، ومن يسأله، ليس من شأن الإله أن يُسأل عما يفعل،
قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] فلذلك الغفور هو السيد التام القدرة، وقد يغفر
فضلًا وإحسانًا منه من دون قيد أو شرط.
وأرجو
أن أوضح لكم هذه الحقيقة من دقيقة، دقيقة في علم التوحيد. فالله -سبحانه وتعالى-
طليق الإرادة لا يقيده شيء، والإنسان مهما علا في الأرض فهناك قواعد تقيد سلوكه،
وشأن الإله أنه لا يُسأل عما يفعل، إذا عفا وإذا غفر وإذا أعطى وإذا منع، لكنه
طمأننا، وقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ
رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: ٥٦].
وقال:
«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرمًا
بينكم فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهديكم، كلكم عار
إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم».
فالله
-عز وجل- طليق الإرادة، لا يقيد تصرفاته شيء، ولذلك يعفو من دون قيد أو شرط، ويعطي
ويمنع، ولكن الله -سبحانه وتعالى- الزم نفسه إلزامًا ذاتيًا بالاستقامة، وقال: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، حرم على
نفسه الظلم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:
٤٦]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ
وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: ٧١]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا} [النساء: ١٢٤]، وقال تعالى: {يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}
[فاطر: ١٣] لا قطمير ولا فتيل ولا نقير.
فالله
-عز وجل- إذا الزم نفسه بالعدل فالإلزام ذاتي، وإذا الزمها بالعفو فالعفو ذاتي،
أما أن يكون هناك قاعدة تقيد الله -عز وجل- فهو وحده الذي لا تُقيده قاعدة.
وقيل:
إن الغفار هو الذي إن تكررت منك الإساءة وأقبلت عليه فهو غفارك وسترك، والإنسان
أحيانًا يغلط، فإذا بلغ هذا الغلط إنسانًا فيفضحه بين الناس، لكن الله عز وجل
غفور، ويظهر للناس أحسن ما عندك ويخفي عنهم القبيح، وهذا من كمال الله -عز وجل-
فقد جمَّل الإنسان بهذا الجلد، فلو نظرت إلى جسم الإنسان عضلات فقط، فشيء مخيف،
ففي وجهه مائة عضلة، وقد جمَّله بهذا الجلد، وبهذه الثياب، وبستر العيوب، والإنسان
قد يخطئ وينحرف، ويزل، لكن ربنا -عز وجل- يغفر ويستر ويبدي للناس أحسن ما عندك.
وقد
ورد اسم الغفور في القرآن الكريم في أماكن كثيرة، زادت عن تسعين آية تقريبًا، قال
تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: ٢٢٥]، ومعنى غفور كثير المغفرة، إذ يقع الإنسان
بذنب فيغفر له، ومرة ثانية وثالثة، وقد تقتضي الحكمة أن يفضحه، أو أن يعاقبه، لكن
الغفور كثير المغفرة.
ورد
أن سيدنا عمر ضبط سارقًا فقال: والله يا أمير المؤمنين هذه أول مرة، فسيدنا عمر
يعرف عن الله الشيء الكثير، قال: "كذبت إن الله لا يفضح من أول مرة، فظهرت
أنها الثامنة". ومن أخلاق الله -عز وجل- أنه حليم، فالإنسان إذا غلط، فحينما
يألف الغلط وينقلب إلى قاعدة، ويستشري، فعندئذ يؤدبه، أو يفضحه.
أقرأ
اليوم بالجريدة، أن باخرة فرنسية رست في ميناء إفريقي فتسلل إليها تسعة زنوج من
البلدة التي رست فيها خفية، واختبأوا بين الآلات والباخرة في عرض البحر، فكشف ربان
الباخرة، أن فيها تسعة رجال من هذه البلدة التي كان راسيًا في مينائها، فانظروا
إلى قسوة الإنسان، فربان الباخرة أصدر أمرًا بقتلهم، فاستدرج واحد تلو الآخر
وأُطلق عليه النار وتولى بحاران إلقاءهم في البحر، فهذه الجريمة إذا وقعت على تسعة
أشخاص وتم إعدامهم وإلقاؤهم في البحر فليس لها أثر إطلاقًا، لكن: التاسع استطاع أن
يختبئ في مكان لم يعثروا عليه وبعد أن رست في ميناء آخر، استطاع أن يهرب إلى ذلك
البلد واتصل بالشرطة وأخبرهم، بالأمر فجرت محاكمة في فرنسا وحكموا على الربان بالمؤبد
وعلى البحارة بعشرين سنة، لكن هذا الذي نجا أنجاه الله -عز وجل- ليكشف الأمر
ويعاقب هؤلاء المجرمين.
فالله
-عز وجل- حينما يفضح يكون هناك إصرار على الذنب وعلاقة هذه القصة بهذا الدرس، إن
الله -عز وجل- لا يفضح من أول مرة، فالإنسان عندما يألف الذنب ويثبت عليه، ويصر
ويجعله سلوكًا ثابتًا، فعندئذ يفضحه ربنا سبحانه وتعالى، ويؤدبه ويعاقبه، وأخلاق
ربنا -عز وجل- إذا غلط إنسان ولجأ إليه مستغفرًا، فالله -عز وجل- يغفر ذنبه، وقد
قال تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، يغفر
ثم يغفر ثم يغفر، أما إذا كان هناك إصرار، واستمرار على المعصية، وعدم مبالاة
فالله يفضح.
وفي
آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: ٣١]، هناك غفور حليم وهنا غفور رحيم، أي:
رحمته بكم دعته إلى مغفرة ذنوبكم، فلنلاحظ الأم وابنها، فمهما أخطأ في حقها فقلبها
يتسع لأخطاء الولد كلها.
فالله
-عز وجل- غفور حليم، حلمه يستدعي أن يغفر لكم المرة تلو المرة، أما هنا فرحمته
تقتضي أن يغفر لكم.
وفي
سورة المائدة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[المائدة: ٣٤]، وهذه الآية إذا قرأها حقوقي فسوف يقشعر جلده، إذ بكل دساتير العالم
مادة وهي أن القوانين لا يمكن أن تعمل بمفعول رجعي؛ فشيء لم يكن محرمًا ولم يكن
ممنوعًا، ثم صدر أمر بمنعه، أيمكن أن نعاقب أناسًا مارسوه قبل المنع، فهذا منتهى
الظلم، أن تصدر قانونًا وتعمله بمفعول رجعي، {إِلا
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإذا تابوا بعد أن قدرتم عليهم فتوبتهم كاذبة،
لكنهم كانوا أحرارًا وتابوا، ثم وقعوا في قبضتكم فليس لكم عليهم من سلطان، وهذه
الآية هي الوحيدة التي تشير إلى أنه لا يجوز أن تُطبق الأحكام بمفعول رجعي: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وفي
المائدة أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا
عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: ١٠١]، هل لاحظتم
الأسماء، فاسم الغفور يتناوب بين اسم الرحيم وبين اسم الحليم، فربنا -سبحانه وتعالى-
حلمه يستدعي أن يغفر لكم المرة تلو المرة ورحمته تقتضي أن يغفر لكم.
{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ
فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: ٥٤]، وهناك موضوع
أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يمكنني من توضيحه في هذا الدرس بالذات، الذي يجذب
النظر قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}
{الحجر: ٤٩-٥٠].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ
كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: ٥٣-٥٦].
فما
الحكمة إذ، كلما ذكر الله عظيم رحمته، ومغفرته وحلمه ذكر شديد عقابه، فماذا يعني؟
يعني ذلك: أن الله غفور إذا عدت إليه، وغفور إذا استغفرته، وغفور إذا تبت من ذنبك،
وأصلحت وأخلصت، فهذه الأسماء الحُسنى، والصفات الفضلى في الله -عز وجل- لا يمكن أن
تكون مبتذلة، وهذه الصفات غفور إذا أقبلت عليه وتبت ورجعت إليه، وأقلعت عن الذنب
وندمت فهو غفور.
لذلك
ورد أربع أو خمس آيات ثم إن ربك للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات إن ربك من
بعدها لغفور رحيم، إذا من السذاجة وضيق الأفق والجهل أن تُعلق آمالًا على مغفرة
الله وأنت مقيم على معصية، فمن الغباء والحمق والجهل أن تقول: الله غفور رحيم،
وأنت لا تفكر بالتوبة وإن لم تفكر بها فاقرأ الآية: {نَبِّئْ
عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ
الْأَلِيمُ} {الحجر: ٤٩-٥٠] ، {وَالَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: ١٥٣]، الآية واضحة:
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ
بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي
الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا
يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [الأنفال: ٧٠].
وأريد
أن أقف قليلًا عند هذا المعنى، أي: كل إنسان إذا علم الله منه الندم والالم على ما
ارتكب، فالله -عز وجل غفور رحيم- والاستغفار من أسباب سعة الرزق: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: ١٠-١٨]، فالاستغفار
من أسباب سعة الرزق، إنجاب الأولاد، نزول الأمطار.
ويروى
أن الحسن البصري دخل عليه رجل قال له يا إمام: إن زوجتي لا تنجب فقال له: استغفر
الله، ثم جاء رجل آخر، فقال يا إمام: السماء لا تمطر فقال: استغفر الله، ثم جاء
ثالث فقال يا إمام: إن الله قتر على بالرزق، فقال له: استغفر الله. وأحدهم جالس
بقربه، فقال: عجب لأمرك يا إمام أو كلما دخل عليك رجل تقول له: استغفر الله، قال:
اسمع قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَارًا} أي: إن عظمتم ربكم حق التعظيم أمدكم بالأموال والبنين،
والإنسان أحيانًا يتألم لما يحل بالمسلمين في شتى بقاع الأرض من قلة المطر، لكن لا
ينبغي له أن يتألم المًا شديدًا، بل عليه أن يرجع، إلى أن هؤلاء لو أنهم استقاموا
على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا: {وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} [الأعراف: ٩٦}، وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧]، وقال تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ} [الحج: ٣٨]، وقال تعالى: {الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا}[النساء: ١٤١]، وقال تعالى: {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥].
وما
الذي يمنع إذا قرأنا القرآن أن نستنبط آيات الوعد الإلهي للمؤمنين والله -عز وجل-
هل يُعقل إلا يفي بوعده، وإذا وعد الله المؤمن بالحياة الطيبة، فهل يُعقل أن تكون
حياة المؤمن غير طيبة، وإذا وعد الكافر بالمعيشة الضنك فهل يُعقل أن يسعد الكافر
بالمال والنساء والآية تقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
[طه: ١٢٤] مستحيل. ولذلك لما أوحى ربنا -عز وجل- إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت
عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين،
أمرها بأمرين، ونهاها عن شيئين، وبشرها ببشارتين وقالت: لأخته قصيه فبصرت به عن
جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليهم المراضع، فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه
لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
دققوا
في الآية: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: ١٣]، {أَنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فالله ماذا وعدنا، هذا موضوع لطيف جدًا، ابحث في
كتاب الله عن وعوده، ضعها في قائمة، ثم ابحث عن موجبات هذه الوعود، فالنبي كان
يقول: «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك» ابحث عن
موجبات رحمة الله، إن إله خالق الكون، وأحيانًا يخطف أشخاص طائرة، فتعدهم الدولة
صاحبتها فلا تنقض وعدها وهي دولة مادية علمانية أحيانًا، فلا يمكن لخالق الكون،
خالق السماوات والأرض إلا أن يفي بوعده.
وقد
اكتشف العلماء قبل شهر تقريبًا مجرة بعدها عن الأرض ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية،
فما هذا الرقم، يعجز خالق هذا الكون أن ينجز وعده، لا.
وإذا
قرأ الإنسان القرآن الكريم واستنبط آيات الوعد الإلهي، الذي وعدنا بالنصر،
وبالحفظ، وبالتأييد، وبالتوفيق، إلا يجعل لكافر علينا سلطانًا ومن وعدنا
بالاستخلاف والتمكين، والتطمين، فأين هذه الوعود إنها لحق كلها.
وأخشى
ما أخشاه أن تنطبق علينا الآية الكريمة: {فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا] [مريم: ٥٩]، وقد لقينا ذلك الغي، فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا، وإذا أردنا أن نعرف كيف يتبع
الناس الشهوات فلنصعد إلى سطوح بيوتنا ولتنظر ماذا على السطوح التي حولنا.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} هان أمر الله عليهم
فهانوا على الله، أما وإن الله غفور رحيم، ولكن بشرط أن تعود إليه، وأن تتوب إليه،
وأن تؤوب، وأن تندم على ذنبك، وأن تقلع عنه، وهذه الآية أيها الإخوة لها في نفسي
أثر كبير: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ
تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ} [الأعراف: ١٥٣].
فهذه
كلمة غفور رحيم إذ يقول المنحرف: لا تدقق الله غفور رحيم فضع مخالفاتك في رقبتي
الله، وهذا كلام الجهل، فهو غفور رحيم إذا تبت ورجعت إليه.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ
إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: ١٠٧]، دققوا في هذه
الآية: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}،
المس: أحيانًا تريد أن تمتحن حرارة المكواة ماذا تفعل، تضع اللعاب على إصبعك، وتضع
إصبعك بأضيق مساحة وبأقصر زمن باللعاب، هذا هو المس، فالعذاب يمس الإنسان مسًا.
قال:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ
لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْر}، الخير مراد من الله، أما الضر
غير مراد، فالضر علاج أما الخير فمراد. {فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ}.
ولما
ذكر ربنا -عز وجل- اسمه الغفور في كتابه تسعين مرة من أجل أن تطمئن القلوب، قلوب
العصاة وتسكن نفوس المجرمين أي بصراحة: من لنا غير الله عز وجل، مهما فعلت من ذنوب
فليس إلا الله، وفي النهاية نحن إليه، والدعاء الشريف: (اللهم أنا بك وإليك) أنا
بك قائم بك وإليك.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَاَهُمْ}
[الغاشية: ٢٥-٢٦].
«عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما
نفعوك ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت».
أعرف
رجلًا من عشرين سنة طريح الفراش، وأقرب الناس إليه يتمنى أن يخفف الله عنه، وأعرف
أناسًا كثيرين، لا يشعرون بألم ولا يشكون شيئًا، وبثانية واحدة كانوا من أهل
القبور، فالمغادرة سريعة، أنا ولا أجد أعقل من إنسان يستعد لهذه الساعة، بعلاقاته
وحساباته وماله وما عليه، ومن الحقوق والواجبات، والتوبة النصوح والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وبطلب العلم وبتعليمه، والأمور كلها متاحة.
«لو أتيتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي»
والله أيها الإخوة سمعت عن فتيات عملن في الفن في قطر عربي مشهور، ورقصن وغنون
وفعلن كل أنواع الموبقات، ثم بعضهن تاب إلى الله توبة نصوحًا، وأسدلن الحجاب على
وجوههن، وقد قرأت عنهن كتيبًا يعبرن فيه عن مشاعر الإيمان بأسلوب يعجز عن وصفه
الإنسان، هذه الراقصة التي أمضت كل حياتها في المعاصي وفي الموبقات وفي عرض صوتها
الجميل ثم هي الآن تائبة منيبة محجبة فالله -عز وجل- لو لم يكن كذلك فمن لنا غيره،
وليس الأمر أن أفعل الموبقات، لكن لا تيأس أبدًا فاليأس يعني الكفر: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ
وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].
والقنوط
يعني: الكفر، والله -عز وجل- فتح باب رحمته لكل مخلوقاته قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٥٦].
والآية
الآتية لا تنسوها، فهي أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ
يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: ٥٣]، فمهما كثرت الذنوب تعلّق باسم الغفور،
ولا أريد أن يكون الذنب حجابًا بين المذنب وبين الله، ولا أقبل ذلك، لأن اليأس
يعني: الكفر. والله عز وجل، قال: {غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: ٣]، إن لم تتب، فذو الطول.
الآية
الثانية: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: ٨٢]، وهنا تفرقة لطيفة لغوية بين
اسم الغفور وبين اسم الغفار، الغفور ينبئ عن نوع مبالغة ناشئة بالإضافة إلى مغفرة
متكررة فهذا مرتكب ثلاثمائة ذنب فالله غفور، يغفرها له كلها، وآخر له ذنب كبير،
فالله عز وجل غفار، فغفار للنوع وغفور للكم.
وقد
ذكرت لكم قصة قرأتها في قصص العرب، عن إنسان يطوف حول الكعبة، ويقول: ربي اغفر لي
ذنبي ولا أظنك تفعل، ووراءه رجل مؤمن فقال له: يا هذا ما أشد يأسك من رحمة الله،
قال له: ذنبي عظيم، قال: ما ذنبك، قال: كنت في حملة مع أمير في قمع فتنة، فلما
قمعت الفتنة أُبيحت لنا المدينة، فدخلت أحد بيوتها، فرأيت فيها رجلًا وامرأة
وولدين، فقتلت الرجل وقلت للمرأة: أعطني كل ما تملكين فأعطتني دنانير ذهبية، فقتلت
ولدها الأول، فلما رأتني جادًا في قتل الولد الثاني أعطتني درعًا مذهبة، فلما
أمسكتها أعجبتني، فإذا عليها بيتان من الشعر قرأتهما فصعقت، كتب على هذا الدرع:
إذا
جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل
ثم ويل ثم ويـل لقاضي الأرض من قاضي السمـاء
والله
كبير، فلذلك كلمة غفور مهما كثرت، وكلمة غفار مهما عظمت، فهي صيغة مبالغة،
والمبالغة نوعان، مبالغة كم، ومبالغة نوع.
غافر
الذنب، أي: إذا كان عليها ذنب واحد وغفره لك فهو غافر، وإن كانت ثلاثمائة ذنب
وغفرها لك فهو غفور، وإن كان ذنبًا لا يُحتمل فهو غفار، هذا الفرق بين غافر وغفور
وغفار.
وكما
تعلمون دائمًا تخلقوا بأخلاق الله، فحظ المتخلّق باسم الغفور أن يداوم الاستغفار،
والورد الثابت عن النبي ﷺ
قال: «إني أستغفر الله في اليوم مائة مرة».
والأولى
للإنسان أن يستغفر صباحًا ومساءً، صباحًا لما جرى في الليل، ومساءً لما جرى في
النهار، لكن أخشى أن تفهموا أن الله غفور رحيم إذًا فالقضية سهلة، لا. فهذه مغفرة
وقائية، فاستغفر من أجل إلا تقع في الذنب وليس الأمر افعل ما تشاء واستغفر فهذا
غير مقبول إطلاقًا، والإنسان حينما يفعل معصية ويعلم أنها معصية ينشأ حجاب بينه
وبين الله، فالأمر صعب أن يستغفر.
وأن
يغفر الأخ للعباد فيما يرتكبونه، فهناك شخص حقود وشخص غفور، فإذا غلط الإنسان مع
غفور يحس أن القضية سهلة، إذ يقول لك كأن لم تكن، أما مع حقود فيقول لك أنا قلبي
أسود لا أنسى. خطيئة جعلنا الله من الذين إذا أُسيئ إليهم غفروا.
و
لا أعتقد إنسانًا أساء كما أساء مسطح إلى سيدنا الصديق حينما اتهم ابنته السيدة
عائشة زوجة رسول الله بالزنا، وكان الصديق يعطيه معونة فقطعها، فقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: ٢٢] يعني: اغفر ليغفر الله لك،
أتعتقد أن هناك إساءة أبلغ من هذه الإساءة، أن يتحدث عن ابنتك الطاهرة أنها زانية،
ومع ذلك أمره الله أن يعفو وأن يصفح وأن يعود إلى ما كان عليه من المعونة، بكى
سيدنا الصديق وقال: بلى أحب أن يغفر الله لي.
المؤمن
المتخلّق بهذا الاسم لا يرى عورة إلا سترها، ولا زلّة إلا غفرها، وإن اعتذر إليه
أخ قبل منه وعامله بالإحسان، ويقابل جميع إساءته بالغفران، لأن صاحب الخلق حينئذ
يصير بين الناس كالشجرة الظليلة، تُرجم بالحجارة وتلقي عليهم الثمار، وهكذا
المؤمن.
ودعاء
النبي ﷺ:
حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ -رَضِي اللَّه عَنْهما- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ سَيِّدُ
الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ
رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى
عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ
النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ
قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» صحيح البخاري.
ورد
بالأثر وبالأحاديث الصحيحة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الصَّلاةُ
الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا
قَالَ: وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ يَعْنِي:
رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» مسند الإمام أحمد.
والإنسان
يوم الجمعة كأنه فتح مع الله صفحة جديدة بعد الصلاة فإذا غلط. فكل صلاة تمحو ما
قبلها، ونحن من شأننا أن نستغفر وما لنا غير الاستغفار، واليأس من رحمة الله كفر،
وكل إنسان يقول: ذنبي كبير فهو لا يعرف الله عز وجل، فعلينا أن نستغفر، والله ما
أمرنا بالاستغفار إلا ليغفر لنا.
قال
سيدنا الصديق للنبي: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال قل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، فاغفر لي فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
وقال
الأصمعي: وقف أعرابي أمام الروضة الشريفة، فقال: اللهم هذا حبيبك، وأنا عبدك،
والشيطان عدوك، فإن غفرت لي. سُر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب
حبيبك، ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوك، وتهلك عبدك.
وقال:
يا رب إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين
فأعتقني على قبره.
وإذا
كان للإنسان له مع الله مناجاة، فالصادق مع الله يغفر له، وإذا كان عند عزيمة
أكيدة أن لا يرجع إلى الذنب، فليس إلا الله -عز وجل- في الوجود، وهذا الاسم يمحي
الماضي كله، بلمحة البصر ولا يدع شيئًا.
والله
-عز وجل- إذا غفر يستر، فمع المغفرة ستر، ويظهر للناس أجمل ما عندك ويخفي عنهم
السيئات، والماضي لا ينقله الله للآخرين.
وهناك
امرأة زنت وأقيم عليها الحد وتابت، وبعد حين جاءها خاطب، وأخوها أحب أن يكون
ناصحًا، فاستشار سيدنا عمر، وقال: إن أختي خطبها فلان أفأذكر له ما كان منها، قال:
والله لو ذكرت له ما كان منها لقتلتك، وهناك رواية لعلوتك بهذه الدرة.
وإذا
شيء وقع وانتهى فالسكوت أولى. فشخص غلط غلطة، فشاعت عنه وتمضي السنون إلى عشرين،
وقد صار إنسانًا فاضلًا، وكلما ذُكر ذكروا غلطة وهذا لؤم بالإنسان، اعفُ عن
الماضي.
والنبي
الكريم قال: «أمرني ربي بتسع أن يكون صمتي فكرًا
ونطقي ذكرًا ونظري عبرةً، وأن أصل من قطعني وأعفو عن من ظلمني وأعطي من حرمني».
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: