شرح حديث / أين تحب أن أصلي من بيتك
باب الرجاء
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث / أين تحب أن أصلي من بيتك
أحاديث رياض الصالحين
باب الرجاء الحديث رقم 422
عن
عتبان بن مالك، رضي اللّه عنه، وهو ممّن شهد بدرا، قال: كنت أصلّي لقومي بني سالم،
وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار، فيشقّ علىّ اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت
رسول اللّه ﷺ، فقلت له: إنّي أنكرت بصري، وإنّ
الوادي الّذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشقّ علىّ اجتيازه، فوددت
أنّك تأتي، فتصليّ في بيتي مكانا أتّخذه مصلّى، فقال رسول اللّه ﷺ:) سأفعل (فغدا
علىّ رسول اللّه، وأبو بكر، رضي اللّه عنه، بعد ما اشتدّ النّهار، واستأذن رسول
اللّه ﷺ،
فأذنت له، فلم يجلس حتى قال:)
أين تحبّ أن أصلّي من بيتك؟(
فأشرت له إلى المكان الّذي أحبّ أن يصلّي فيه، فقام رسول اللّه ﷺ، فكبّر وصففنا وراءه، فصلّى ركعتين،
ثمّ سلّم وسلّمنا حين سلّم، فحبسته على خزيرة تصنع له، فسمع أهل الدّار أنّ رسول
اللّه ﷺ
في بيتي، فثاب رجال منهم حتّى كثر الرّجال في البيت، فقال رجل: ما فعل مالك لا أراه،
فقال رجل: ذلك منافق لا يحبّ اللّه ورسوله، فقال رسول اللّه ﷺ:
)لا تقل ذلك ألا تراه قال: لا إله إلاّ اللّه يبتغي بذلك وجه اللّه
تعالى؟(.
فقال: اللّه ورسوله أعلم، أمّا نحن فواللّه ما نرى ودّه، ولا حديثه إلاّ إلى
المنافقين، فقال رسول اللّه ﷺ): فإنّ اللّه قد حرّم على النّار من قال: لا إله إلاّ اللّه يبتغي
بذلك وجه اللّه (متفق
عليه. (1(
و)
عتبان
(بكسر العين المهملة، وإسكان التاء المثنّاة فوق وبعدها باء
موحّدة. و)
الخزيرة
(بالخاء المعجمة، والزّاي: هي دقيق يطبخ بشحم وقوله: (ثاب
رجال) بالثّاء المثلّثة، أي: جاءوا واجتمعوا.
الـشـرح
قال المؤلف -رحمه الله تعالى -فيما
نقله عن عتبان بن مالك رضي الله عنه، وكان يؤم قومه بني سالم، وكان بينه؛ أي بين
بيته وبين قومه وادٍ يعني شعيب يجري فيه السيل. فإذا جاء السيل؛ شق عليه عبوره.
وأضف إلى ذلك أن بصره ضعف، فصار يشق
عليه مرتين؛ من جهة المشي، ومن جهة البصر والنظر. فجاء فأخبر النبي ﷺ بذلك، وطلب منه أن
يأتي إلى بيته ليصلي في مكان من البيت، يتخذه عتبان مصلى يصلي فيه، وإن لم يكن
مسجدًا.
فقال النبي ﷺ (سأفعل) ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه حين اشتد
النهار، وكان أبو بكر رفيقه حضرًا وسفرًا، لا يفارقه، كثيرًا ما يكون معه، وكثيرًا
ما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر
وعمر، رجعت أنا وأبو بكر وعمر.
فهما صاحباه ووزيراه رضي الله عنهما، صاحباه في الدنيا، وصاحباه في البرزخ،
وقريناه يوم القيامة هؤلاء الثلاثة يقومون لله رب العالمين من مكان واحد، من البيت
الذي دفن فيه الرسول عليه والصلاة والسلام، والذي أصبح الآن في قرارة المسجد
النبوي.
انظر إلى الحكمة: اختار الله عز وجل
أن يكون البيت الذي دفن فيه الرسول داخل المسجد؛ ليقوم هؤلاء الثلاثة يوم القيامة
من وسط المسجد، مسجد النبي عليه والصلاة والسلام.
وعلى هذا لا تكره شيئًا اختاره
الله، قد يختار الله شيئًا فيه مصلحة عظيمة لا تدري عنها أنت، كره الناس أن يكون
بيت الرسول الذي دفن فيه في وسط المسجد، وقالوا: هذا شبهة لعباد القبور الذين
يبنون المساجد على القبور.
ولكن ليس في ذلك شبهة؛ لأن المسجد لم يبن على القبر، وإنما امتد المسجد وبقي القبر
في البيت مستقلًا عن المسجد، ليس فيه حجة لاي إنسان إلا رجلًا مبطلًا، يقول كما
قال إبليس {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، لكن انظر الحكمة؛ أن يكون
خروجهم يوم القيامة من مكان واحد، من جوف المسجد النبوي، سبحان الله العظيم، حكمة
تغيب عن كثير من الناس.
والحاصل أن النبي ﷺ خرج حين اشتد النهار،
يعني حين ارتفعت الشمس إلى دار بني مالك، فاستأذن، فأذن له، فدخل ولم يجلس؛ بل
قال: أين تريد أن أصلي؛ لأنه جاء لغرض، فأحب أن يبدأ بالغرض الذي جاء من أجله قبل
أي شيء، وهذا من الحكمة؛ أنك إذا أردت شيئًا لا تعرج إلى غيره حتى تنتهي منه من أجل
أن تضبط الوقت ويبارك لك فيه.
كثير من الناس تضيع عليه الأوقات
بسبب أنه يتلقف الأشياء. وأضرب لهذا مثلًا: هب أنك تريد أن تراجع مسألة من مسائل
العلم في كتاب من الكتب، تقرأ الفهرس؛ لأجل أن تعرف أين مكان هذه المسألة، ثم تمر
بك مسألة فتقول أريد أن أطلع على هذه المسألة، ثم تطلع على الأخرى، ويفوتك المقصود
الذي من أجله راجعت هذا الكتاب. لكن ابدأ أولًا بما أردت قبل أي شيء، ثم بعد ذلك
ما زاد فهو فضل.
فصلى النبي ﷺ
بالمكان، وصلوا معه جماعة؛ لأن هذه جماعة عارضة لا دائمة.
ثم لما فرغ من صلاته، إذا هو قد أعد
له طعامًا زهيدًا، فسمع أهل الدار. الدار هو ما نسميه عندنا بالحي والحارة، سمع
أهل الدار أن الرسول ﷺ
عند عتبان بن مالك، فثاب إليه أناس، يعني اجتمعوا يريدون أن يهتدوا بالنبي عليه
الصلاة والسلام، ويسمعوا من قوله، ويأخذوا من سنته، فاجتمعوا فقالوا: أين فلان،
قالوا: ذاك منافق. ذاك منافق.
فأنكر النبي ﷺ على من قال ذلك وقال: (لا تقل ذلك، ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه
الله).
فقال الرجل: الله ورسوله أعلم؛ لأن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؛
فهو مؤمن ليس منافقاً، والمنافق يقولها رياء وسمعة، لا تدخل قلبه والعياذ بالله،
أما من قالها يبتغي بها وجه الله؛ فإنه مؤمن بها، مصدق، تدخل قلبه.
ثم إن النبي ﷺ
قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله،
يبتغي بذلك وجه الله) فكل من قالها يبتغي بها وجه الله، فإن الله يحرمه على
النار، لماذا؟ لأنه إذا قالها يبتغي بها وجه الله؛ فإنه سيقوم بمقتضاها، ويعمل بما
تقتضيه هذه الكلمة العظيمة، من أداء الواجب، وترك المحرم، والإنسان إذا أدى الواجب
وترك المحرم؛ أحل الحلال، وحرم الحرام، وقام بالفرائض، واجتنب النواهي، فإن هذا من
أهل الجنة، يدخل الجنة ويحرم الله عليه النار.
وليس في الحديث دليل على أن تارك
الصلاة لا يكفر؛ لأننا نعلم علم اليقين، مثل الشمس، أن من قال لا إله إلا الله
يبتغي بذلك وجه الله لا يمكن أن يترك الصلاة. هذا محال؛ فالذي يقول: أنا لأقول لا
إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله، وهو لا يصلي، فهو من أكذب الكاذبين. لو كان
يبتغي وجه الله؛ ما ترك الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وفي هذا الحديث فوائد:
منها: أن من كانت حاله مثل حال عتبان بن مالك، فإنه معذور بترك الجماعة وله أن
يصلي في بيته، مثل أن يكون بينه وبين المسجد وادٍ لا يستطيع العبور معه، فإنه
معذور.
ومنها: جواز قول الإنسان سأفعل في
المستقبل، إذا قال ستأتينا غدًا، قال: سآتيك وإن لم يقل إن شاء الله. فإن قال
قائل: ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[الكهف:
23-24]، لشيء: عام سواء من فعل الله أو من فعلك؟
قلنا: إن الذي يقول سآتيك غدًا له
نيتان:
النية الأولى: أن يقول هذا جازمًا
بالفعل، فهذا لا يقوله إلا أن يقول إن شاء الله؛ لأنه لا يدري أيأتي عليه الغد أو
لا، ولا يدري هل إذا أتى عليه الغد يكون قادرًا على الإتيان إليه أو لا، ولا يدري
إذا كان قادرًا، يحول بينه وبينه مانع أو لا.
النية الثانية: إذا قال: سأفعل،
يريد أن يخبر عما في قلبه من الجزم دون أن يقصد الفعل؛ فهذا لا بأس به؛ لأنه يتكلم
عن شيء حاضر، مثل: لو قيل لك: هل ستسافر مكة؟ قلت: نعم سأسافر، تريد أن تخبر عما
في قلبك من الجزم، هذا شيء حاضر حاصل، أما إن أردت الفعل، أنك ستفعل يعني سيقع منك
هذا لا تقل سأفعل إلا مقرونًا بمشيئة الله.
ومنها: أن الإنسان يعذر بترك
الجماعة فيما إذا كان بينه وبين المسجد ما يشق عليه من وحل أو ماء أو غيره، وقد
كان من هدي النبي ﷺ
أنه كان ينادي مناديه في الليلة المطيرة؛ أن صلوا في رحالكم يعني في أماكنكم، وذلك
من أجل أن لا يشق على الناس، فأما إذا كان ماء بلا مشقة وبلا دحر ووحل؛ فإنه لا
يعذر الإنسان بترك الجماعة.
ومن فوائد حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: أن المصلى الذي يكون في البيت لا يكون
له حكم المسجد، فلو أن الإنسان اتخذ مصلى في بيته لا يصلي إلا فيه فليس بمسجد،
سواء حجره أو لم يحجره.
وعلى هذا فلا تثبيت له أحكام
المسجد؛ فيجوز للإنسان أن يبقى فيه وهو جنب، وإذا جلس فيه لا يلزمه تحية المسجد،
فكل أحكام المساجد لا تثبت له، وإذا أراد أن يعتكف فيه؛ لم يصح اعتكافه. حتى لو
كانت امرأة ولها مسجد في بيتها، فإنها لا تعتكف فيه.
ومن فوائد حديثه رضي الله عنه: أنه
يجوز أن تقام الجماعة في النوافل؛ لكن ليس دائمًا بل أحيانًا، فإن النبي ﷺ لما أراه عتبان المكان
الذي يصلي فيه، وتقدم وصلى بهم ركعتين وصلوا خلفه، فإذا صلى الإنسان الراتبة مثلًا
أو سنة الضحى، إذا صلاها جماعة؛ فلا بأس بذلك أحيانًا.
وثبت عنه ﷺ أنه صلى معه ابن عباس
رضي الله عنهما صلاة الليل، وصلى معه ابن مسعود، وصلى معه حذيفة، لكن ليس دائمًا.
فصلاة الجماعة نفلا أحيانًا لا بأس بها.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس
أن يتخذ الإنسان مصلى يعتاد الصلاة فيه في بيته، ولا يقال إن هذا مثل اتخاذ مكان
معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، فإن هذا منهي عنه، يعني ينهى الإنسان أن يتخذ في
المسجد مكانًا لا يصلي إلا فيه، مثل أنه لا يصلي النافلة، لا تحية المسجد ولا
غيرها إلا فيه، فإن النبي ﷺ
نهى عن استيطان كاستيطان البعير، يعني عن اتخاذ موطن كأعطان الإبل، تأوي إليه
وتبيت فيه.
ومنها: أنه يجب على الإنسان أن يحبس
لسانه عن الكلام في الناس، بنفاق، أو كفر أو فسق، إلا ما دعت الحاجة إليه، فإنه لا
بد أن يبينه؛ لأن النبي ﷺ
لما قال رجل عن مالك: إنه منافق، قال: (لا تقل هكذا؛
أما علمت أنه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟).
لكن هذا متى يحصل أن يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام لرجل بالإخلاص؛ هو ليس بحاصل
بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما ليس لنا إلا الظاهر، فمن ظهر لنا من
حاله الصلاح؛ وجب علينا أن نحكم له بالصلاح، وألا نغتابه ولا نسبه.
ومن فوائد هذا الحديث: محبة الصاحبة
لرسول الله ﷺ
والجلوس إليه؛ لأنهم لما علموا أنه عند عتبان بن مالك ثابوا إليه، واجتمعوا عنده،
ليتعلموا منه، وينالهم من بركة علمه عليه الصلاة والسلام.
ومنها: ما سبق أن أشرنا إليه أن
الإنسان يبدأ بالشغل الذي يريده قبل كل شيء؛ لأن النبي ﷺ صلى في المكان قبل أن
يجلس، وقبل لأن ينظر إلى ما صنع له من الطعام.
ومن فوائده أيضًا: أن الرسول عليه
الصلاة والسلام كان على جانب كبير من التواضع؛ لأنه لما انتهى من الصلاة، يقول
عتبان: حبسته على (خريرة) نوع من الطعام ليس بذاك الجيد. حبسه: يعني قال له انتظر
حتى ينتهي الطعام، ويقدمه إلى رسول الله ﷺ، وهذا لا شك أن فيه
تواضعًا من رسول الله ﷺ.
ومنها: وهي من أكبر فوائد هذا
الحديث. أن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فإن الله يحرم عليه النار
(فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله
يبتغي بذلك وجه الله) يعني يطلب وجه الله.
ومعلوم أن الذي يقول هذا طالبًا وجه
الله، فسيفعل كل شيء يقربه إلى الله، من فروض ونوافل، فلا يكون في هذا دليل
للكسالى والمهملين؛ يقولون: نحن نقول لا إله إلا الله نبتغي بذلك وجه الله. نقول:
لو كنتم صادقين ما أهملتم العبادات الواجبة عليكم.
الحمد لله رب العالمين
(1) رواه
البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، (425)،
ومسلم، كتاب المساجد، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، رقم (33) [263]
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل
الله منا ومنكم صالح الأعمال
شرح حديث / أين تحب أن أصلي من بيتك
Reviewed by احمد خليل
on
9:28:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: