شرح حديث ابن عباس/ خذ العفو وأمر بالعرف
٣٦١ - وعن ابن عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- قال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنيهِمْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنَ أَخِيهِ: يَا أبْنَ أَخي لَكَ وجْهٌ عِنْدَ هذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فَاسْتَأَذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- فَلَمَّا دَخَل: قَالَ هِي يَا أبْنَ الخَطَّابِ: فَوَاللَّه مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلينَ} [الأعراف: ١٩٩] وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ. واللَّهِ مَا جاوزَهَا عُمرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. رواه البخاري
الشرح:
ما زال المؤلف -رحمه الله- يأتي بالأحاديث الدالة على الصبر وكظم الغيظ، فذكر هذا الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمير المؤمنين، وثالث رجل في هذه الأمة الإسلامية، بعد نبيها ﷺ وبعد الخليفة الأول، فعمر هو الخليفة الثاني وكان قد اشتُهِرَ بالعدل بين الرعية، وبالتواضع للحق، حتى إن المرأة ربما تذكِّرهُ بالآية في كتاب الله فيقف عندها ولا يتجاوزها، فقد قدم عليه عيينة بن حصن وكان من كبار قومه فقال له: هيه يا ابن الخطاب. هذه كلمة استنكار وتلوُّم. وقال له: إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل.
انظر إلى هذا الرجل يتكلم على هذا الخليفة المشهور بالعدل بهذا الكلام، مع أن عمر كما قال ابن عباس -رضي الله عنه (كان جلساؤه القراء) القُرَّاء من أصحاب رسول الله ﷺ هم جلساؤه، سواء كانوا شيوخا أو كهولا أو شبابا، يشاورهم ويدنيهم، وهكذا ينبغي لكل أمير أو خليفة أن يكون جلساؤه الصالحين؛ لأنه إن قُيِّضَ له جلساء غير صالحين؛ هلك وأهلك الأمة، وإن يسَّر الله له جلساء صالحين نفع الله به الأمة. فالواجب على ولي الأمر أن يختار من الجلساء أهل العلم والإيمان. وكان الصحابة -رضي الله عنهم- القُرَّاء منهم هم أهل العلم، لأنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
لما قال الرجل هذا الكلام لعمر: إنك لا تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، غَضِبَ -رضي الله عنه- غضبا حتى كاد أن يهمَّ به، أي: يضر به أو يبطش به.
ولكن ابن أخي عيينة الحر بن قيس قال له: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩]، وإن هذا من الجاهلين.
فوقف عندها عمر ولم يتجاوزها؛ لأنه كان وقَّافًا عند كتاب الله -رضي الله عنه- وأرضاه فوقف، وما ضرب الرجل وما بطش به؛ لأجل الآية التي تليت عليه.
وانظر إلى أدب الصحابة -رضي الله عنهم- عند كتاب الله؛ لا يتجاوزونه، إذا قيل لهم هذا قول الله وقفوا، مهما كان.
فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} أي: خذ ما عفا من الناس وما تيسَّر، ولا تطلب حقك كله؛ لأنه لا يحصل لك، فخذ منهم ما عفا وسهل.
وقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: اؤمر بما عرفه الشرع وعرفه الناس، ولا تأمر بمنكر، ولا بغير العرف، لأن الأمور ثلاثة أقسام:
١ - منكر يجب النهي عنه.
٢ - وعرف يؤمر به.
٣ - وما ليس بهذا ولا بهذا فإنه يسكت عنه.
ولكن على سبيل النصيحة ينبغي للإنسان الا يقول إلا قولا فيه خير، لقول النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
وأما لقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فالمعنى: أن من جهل عليك وتطاول عليك فأعرض عنه لا سّيما إذا كان إعراضك ليس ذُلا وخُنوعًا.
مثل عمر بن الخطاب إعراضه ليس ذُلاًّ ولا خنوعا، فهو قادر على أن يبطش بالرجل الذي تكلم، لكن امتثل هذا الأمر وأعرض عن الجاهلين.
والجهل له معنيان:
أحدهما: عدم العلم بالشيء.
والثاني: السفه والتطاول، ومنه قول الشاعر الجاهلي:
الا لا يجهَلَـنْ أحـدٌ علينــا فَنَجْهَـَل فوق جَهْـِل الجاهلين
أي: لا يسفَهْ علينا أحد ويتطاول علينا فنكون أشدَّ منه، لكن هذا شعر جاهلي! أما الأدب الإسلامي فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤]، سبحان الله! إنسان بينك وبينه عداوة أساء إليك، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا دفعت بالتي هي أحسن ففورًا يأتيك الثواب والجزاء: {أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وقوله: {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي: قريب صديق في غاية ما يكون من الصداقة والقرب، والذي يقول هو الله -عز وجل- مُقَلِّبُ القلوب، ما من قلب من قلوب بني آدم إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن -عز وجل- يُصَرِّفه كيف يشاء.
فهذا الذي كان عدوًّا لك ودافعته بالتي هي أحسن، فإنه ينقلب بدل العداوة صداقة: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
فالحاصل أن هذه الآية الكريمة: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلينَ} [الأعراف: ١٩٩]، لما تليت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقف ولم يبطش بالرجل، ولم يأخذه على جهله.
فينبغي لنا إذا حصلت مثل هذه الأمور، كالغضب والغيظ، أن نتذكر كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ من أجل أن نسير على هديهما، حتى لا نضلَّ، فإن من تمسك بهدي الله فإن الله يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طـه: ١٢٣]، والله الموفق.
ليست هناك تعليقات: