كتاب
عِيادة المريض، وَتشييع المَيّت، والصّلاة عليه وَحضور دَفنهِ، وَالمُكث عِنْدَ
قبرهِ بَعدَ دَفنه
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث/ ما من مسلم يعود مسلما غدوة
أحاديث رياض الصالحين: باب عِيادة
المريض.
٩٠٤- وعن عليٍّ رضيَ اللهُ عنه، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوةً إِلَّا صَلَّى
عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا
صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ في
الْجَنَّةِ» رواه
الترمِذِي وقال: حديثٌ حسنٌ.
"الخَرِيفٌ": التّمرُ المخرُوفُ،
أيٌّ: المجتَنَى.
٩٠٥- وعن أَنسٍ رضيَ اللهُ عنه، قَالَ: كانَ غُلامٌ
يَهُودِيٌّ يَخْدُم النَّبيَّ ﷺ، فمَرِضَ،
فأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ
يعُودهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فقالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»،
فنَظَرَ إِلى أَبِيهِ وهُو عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَطِعْ أَبا الْقاسِمِ، فَأَسْلَم،
فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يقولُ: «الحَمْدُ للَّهِ الَّذي أَنْقَذهُ مِنَ النَّارِ» رواه البخاري.
الشرح:
ذكر المؤلف رحمه الله، في كتاب (رياض
الصالحين) في باب عِيادة المريض، وَتشييع المَيّت.
عن عليٍّ بنِ أبي طالب رضيَ اللهُ عنه،
أنّه سمِع النّبيُّ ﷺ يقولُ: «مَا مِنْ
مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ
حَتَّى يُمْسِيَ»، وكذلك «وَإنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ
سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ في الْجَنَّةِ».
هذا الحديثُ لهُ شاهِدً مِمّا سبقً أنّ
الإنسان إذا عاد أخاه المريض فهوَ في خُرفة الجنّةِ، أيٌّ: في جِنّاه ، وأمّا
اِستِغفارُ الملائِكةِ لهُ ففيه نظرٌ؛ لِأنّ فضل اللهِ واسِعٍ، لكِنّ مِن قواعِدِ
الحديثِ الضّعيفِ عِند العُلماءِ كثرةُ الثّوابِ في عملِ يسيرُ جِدًّا، لكِنّنا
نُقولً إنّه مادام قد ثبت أصلُ مشروعيّةِ عيادةِ المريضِ فإنّ ذكر الفضائِلِ إذا
لم يكُن الضِّعفُ شديدا مِمّا يُساعِدُ على فعلًّ ما رغبُ فيه، ويَنشطُ الإنسانُ
ويَرجو الإنسانُ ثوّابٌ ذلِكً إنّ كان هذا الحديثُ ثابِتًا عنِ النّبيِّ ﷺ حصلً لِلإنسانِ ما دلٌّ عليه، وإنّ لم يكُن ثابِتا
فإنّه لا يزيدُهُ إلّا رغبةً في الخيْرِ، وعلى كُلُّ حالٍ فهوَ يدُلُّ على فضيلةِ
عيادةِ المريضِ، وأنّه إذا كان في الصّباحِ فلهُ هذا الأجر وإذا كان في المساءِ
فلهُ هذا الأجر.
أمّا حديثُ أنسٍ بنُ مالِك رضيَ اللهُ
عنه، أنّ غُلامًا يهوديًّا كان يخدُمُ النّبيُّ ﷺ
فمرضُ الغُلامِ فعادهُ النّبيّ ﷺ، وجُلِس عِند
رأسِهِ وقالً لهُ: "أُسلِّمُ" فنظُرُّ إلى أبيه، يعني: كأنّه يستشيرُهُ
فقالً لهُ أبوه وهوَ يهوديٌّ: أطِع أبا القاسِم؛ لِأنّ اليَهوديّ يعلمُ أنّه حقٌّ
فقال لابِنُهُ: أطِع أبا القاسِمُ فأُسلِّمُ هذا الغُلام فخرج النّبيُّ ﷺ وهوَ يقولُ: "الحمدُ للهُ الّذي أُنقِذهُ مِن
النّارِ".
ففي هذا الحديثُ عِدّةُ فوائِدِ مِنها.
(فيه): جوازُ اِستِخدامِ اليَهوديِّ، يعني:
يجعلهم خُدِّما عِنده وهذا بِشرطٍ أن يأمن مِن مكرِهِ؛ لِأنّ اليَهود أصحابُ مكرٍ
وخديعةً وخيانةً لا يُكادون يوَفّون بِعهدٍ ولا يُؤدّون أمانةً، لكِن إذا أمِنه
فلا بِأُسٍّ مِن أن يستخدِمهُ.
(وفيه): جوازُ عيادةِ المريضِ
اليَهوديِّ؛ لِأنّ النّبيّ ﷺ عاد هذا الغُلامُ،
ولكِن يُحتملُ أنّ تكوُّن عيادةِ النّبيِّ ﷺ
لهُ كانت مِن أجل خِدمتهُ إيّاهُ وأنّ هذا مِن بابِ المُكافأةِ، وعلى هذا لا يكون
الحُكمُ لِكُلُّ يهوديٍّ أنّ تعوُّدهُ، ويَحتمِلُ أنّ الرّسول ﷺ عادةُ ليَعرِضُ عليه الإسلامُ فتكونُ عيادة
المريضِ اليَهوديِّ أوْ غيْره مِن الكفّارِ مُستحبّةً إذا كان الإنسانُ يُريدُ أن
يعرِض عليْهِم الإسلامُ فينقذهم الله بِهِ مِن النّارِ، وقد قال النّبيُّ ﷺ: «لَأنْ يهديَ اللهُ
بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ» [٣]،
يعني: إذا هُدى اللهِ بِك رجُلا مِن الكفرِ خيْرٌ لك مِن الإبِلِ الحمرِ الّتي هي
أغلى أنواعِ الإبِلِ عِند العُربِ.
(وفيه): ينبغي على مِن عاد المريضُ أن
يُرشِدهُ إلى الحقِّ ويَرغبُهُ فيه فإذا كان يعلمُ أنّه أيْ المريضُ صاحِبُ تقصيرٍ
قالً لهُ: "يا فُلانٌ اُستُغفِر اللهُ وتُب إليه" فأحُسّنّ ما تُهدي
لِلمريضِ هوَ أن تنفعهُ في دينِهِ أمّا الحكاوي والقصص فلها وقتُ آخِرِ.
(وفيه): الأبُ قد يُؤثِّرُ اِبنُهُ في
الخيْرِ وهوَ لا يفعلهُ فهذا اليَهوديّ أُشارُّ على اِبنِهِ أن يُطيع أبا القاسِمُ
ويُسلِّمُ، ولكِنّه هوَ لم يُسلِّم فالأب قد يُحِبّ لابِنُهُ الخيْرِ وهوَ محرومٌ مِنه،
والعياذُ بِاللهِ.
(وفيه): فيه دليلٌ على أنّ النّبيّ ﷺ حقُّ ودليلٌ ذلِكً أنّ اليَهوديّ قال لابِنُهُ:
أطِع أبا القاسِمُ والحقُّ ما شهِدتِ بِهِ الأعداء، ومعلومً أنّ اليَهود والنّصارى
يعرُفون النّبيّ ﷺ كما يُعرفون أبناءهُم قالِ
اللهِ تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: ١٤٦]، وإنّما
كانوا يُعرفونهُ كما يُعرفون أبناءهُم؛ لِأنّ الله قالِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنجِيلِ} [الأعراف: ١٥٧]، معروفُ مشهورُ باسِمُهُ العِلمِ عليه
السّلام: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
[الأعراف: ١٥٧]، هُم يُعرفون هذا لكِنّ الحسد -والعياذ بِاللهِ- والاِستِكبار
منعُهُم مِن الإيمانِ بِهِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا
مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:
١٠٩] نسألُ اللّه السّلامة، وعلى هذا فإذا مرضِ إنسانِ كافِرٍ فلك أن تعودهُ إذا
رجوْتِ في عيادتِهِ خيْرًا بِأنّ تعرُّضً عليه الإسلامُ لعلّه يُسلِّم فهؤُلاءِ
العُمّالُ الّذين عِندنا الآن مِن الكفّارُ وهُم كثيرونً لا ينبغي أن نترُكهُم
هكذا، وأن نجعلهم في منزِلةِ البهائِمِ يعملون لنا دون أنّ نُدُلهُم على الحقِّ،
فهُم لهُم حقٌّ علينا واجِب أن ندعوَهُم لِلإسلامِ ونبين لهُمُ الحقُّ ونرغبهم فيه
حتّى يُسلِّموا، أمّا أن يكونُ عِندنا هذا العددُ الهائِلُ مِن النّصارى
والبوذيّين وغيْرهُم ثُمّ لا نجِدُ مِن يُسلِّمُ مِنهُم إلّا واحِدا بعد واحِدٍ
بعد عِدّةِ أيّامٍ فهوَ دليلٌ على ضِعفِ الدّعوَةِ عِندنا، وأنّنا لم نُحاوِل أن
ندعوَهُم لِلإسلامِ وهذا لا شكُّ تقصيرٍ منًّا وإلّا فإنّ العامِل جاء يتكفّف
النّاسُ في الواقِعِ يُريدُ لقمةُ العيْشِ، فليْس عِنده دافع الاِستِكبارُ فلوْ
أنّنا دعوْناهُ بِاللّيِّنِ ورغِبناهُ لِحُصِلنا خيْرًا كثيرًا واِهتدى على
أيْديِنا أُناسٍ كثيرونً، ولكِنّنا في غفلةٍ عن هذِهِ الدّعوَةِ إلى الحقِّ والّذي
ينبغي لنا أن ننتهِز الفُرص في هذِهٍ الأُمور.ُ واللهُ الموَفّقِ.
[١] صحيح أحمد (١/١١٨)، أبو داود (٣٠٩٨)،
الترمذي (٩٦٩)، ابن ماجة (١/ ٤٦٣، ٤٦٤)، الحاكم (١/ ٣٤٩)، وقال: حديث صحيح على شرط
الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الألباني في الصحيحة (٣/ ٣٥٣): وهو كما قالا. وقال
الشيخ أحمد شاكر في "تحقيق المسند" (٢/١٩٧) إسناده صحيح.
[٢] صحيح البخاري: (١٣٥٦).
[٣] صحيح البخاري: (٤٢١٠)، ومسلم: (٢٤٠٦).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال