شرح حديث/ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم - الأربعين النووية - فذكر
الأربعين النووية
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
الحديث الثالث والثلاثون: البيّنة على المُدَّعي.
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدعوَاهُمْ؛ لادَّعَى
رِجَالٌ أَمْوَال قَومٍ وَدِمَاءهُمْ، وَلَكِنِ البَينَةُ عَلَى المُدَّعِي،
وَاليَمينُ عَلَى مَن أَنكَر» حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في
الصحيحين [١].
الشرح:
قوله:
«لَو يُعطَى» اَلمعْطِي هُو من لَه حقُّ الإعْطاء كالْقاضي مثلا والْمصْلح بَيْن
النَّاس.
وقوله:
«بِدَعوَاهُم»، أي: بِادِّعائهم الشَّيْء، سَوَاء كان إِثْباتًا أو نفْيًا.
مِثَال
الإثْبات: أن يَقُول: أنَا أَطلُب فُلَانا أَلَّف رِيَال.
ومثال
النَّفْي: أن يُنْكِر مَا يَجِب عليْه لِفلان، مِثْل أن يَكُون فِي ذِمَّته أَلْف رِيَال
لِفلان، ثُمَّ يَدعِي أَنَّه قضاهَا، أو يُنْكِر أن يَكُون لَه عليْه شَيْء.
قوله:
«لادَّعَى» هذَا جَوَاب «لَو».
قوله:
«لادَّعَى رِجَالٌ» اَلمُراد بِهم الَّذين لَا يخافون اَللَّه تَعالَى وَأمَّا مِن
خاف اَللَّه تَعالَى فلن يَدعِي مَا لَيْس لَه مِن مالٍ أو دم، «أَموَال قَوم»، أي:
بِأن يَقُول هذَا لِي، هذَا وَجْه.
وَوجَّه
آخر أن يَقُول: فِي ذِمَّة هذَا الرَّجل لِي كذَا وَكذَا، فَيدعِي دِينَا أو
عُينَا.
قوله:
«وَدِمَاءهُم» بِأن يَقُول: هذَا قَتَل أَبِي، هذَا قَتَل أَخِي ومَا أَشبَه
ذَلِك، أو يَقُول: هذَا جَرحَنِي، فَإِن هذَا نَوْع مِن الدِّمَاء.
«لَوْ
يُعْطَى النَّاسُ بِدعوَاهُمْ؛ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَال قَومٍ وَدِمَاءهُمْ»؛ لِأنَّ
كُلَّ إِنسَان لَا يَخَاف اَللَّه -عزَّ وجلَّ- لَا يُهمُّه أن يَدعِي الأمْوال
والدِّماء.
قوله:
«وَلَكِنِ البَينَةُ» البيِّنة: مَا يُبيِّن بِه اَلحَق، وتكوُّن فِي إِثبَات
الدَّعْوى «عَلَى المُدَعي»، «وَاليَمين»، أي: دفع الدعوى «عَلَى مَنْ أَنكَر».
فهنا
مدعٍ ومدعىً عليه، والْمدَّعي: عليْه البيِّنة، والْمدَّعى عليْه: عليْه اَليمِين
لِيدْفع الدَّعْوى.
قوله:
«وَاليَمين عَلَى مَنْ أَنكَر»، أي: مِن أَنكَر دَعوَى اَلمُدعي.
هذَا
اَلحدِيث أَصْل عظيم فِي القضَاء، وَهُو قَاعِدة عَظِيمَة فِي القضَاء يَنتَفِع
بِهَا القاضي، وينْتَفع بِهَا اَلمصْلِح بَيْن اِثْنيْنِ ومَا إِلى ذَلِك.
من
فوائد هذا الحديث:
١-
أنَّ الدَّعْوى تَكُون فِي الدِّمَاء والْأمْوال، لِقوْله «أَموَال قَوم
وَدِمَاءهُم» وَهُو كَذلِك، وَتَكوَّن فِي الأمْوال الأعْيان، وَفِي الأمْوال
المنافع، كان يَدعِي أنَّ هذَا أَجرُه بَيتُه لِمدَّة سنة فَهذِه مَنافِع،
وَتَكوَّن أيْضًا فِي اَلحُقوق كان يَدعِي الرَّجل أنَّ زوْجته لَا تَقُوم بِحَقه
أو بِالْعَكْس، فالدَّعْوى بَابُها وَاسِع، لَكِن هذَا الضَّابط، وَذكَر اَلْمال
والدَّم على سبيل المثَال، وَإلَّا قد يَدعِي حُقوقًا أُخرَى.
٢-
أنَّ الشَّريعة جَاءَت لِحماية أَموَال النَّاس ودمائهم عن التَّلاعب.
٣-
أنَّ البيِّنة على اَلمُدعي، والْبيِّنة أَنوَاع مِنهَا الشَّهادة، قال اَللَّه
تَعالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢]، وَمِن البيِّنة: ظَاهِر
اَلْحال فَإِنهَا بَينَة، مِثَال ذَلِك: رَجُل لَيْس عليْه عِمامة يُلْحِق رَجُلا
عليْه عِمامة وَبيَدِه عِمامة وَيقُول: يَا فُلَان أَعطِني عِمامَتي فالرَّجل
اَلذِي لَيْس عليْه عِمامة معه ظَاهِر اَلْحال؛ لِأنَّ الملْحوق عليْه عِمامة
وَبيَدِه عِمامة ولم تُجْر العادة بِأنَّ الإنْسان يَحمِل عِمامة وَعلَى رَأسِه
عِمامة.
فالْآن
شَاهِد اَلْحال لِلْمدَّعي، فَهُو أَقوَى، فَنقُول فِي هَذِه اَلْحال: اَلذِي
اِدَّعى أنَّ العمامة اَلتِي فِي يد الهارب لَه هُو اَلذِي معه ظَاهِر اَلْحال،
لَكِن لَا مَانِع مِن أنَّ نحْلفه بِأنَّهَا عِمامَته.
كَذلِك
أيْضًا لَو اِختلَف الزَّوْجان فِي أَوانِي البيْتِ، فقالتْ الزَّوْجة: الأواني
لِي، وَقَال الزَّوْج: الأواني لَيَّ فننْظر حسب الأواني: إِذَا كَانَت مِن
الأواني اَلتِي يسْتعْملهَا الرِّجَال فَهِي لِلزَّوْج، وَإذَا كَانَت مِن الأواني
اَلتِي يسْتعْملهَا النِّسَاء فَهِي لِلزَّوْجة، وَإذَا كَانَت صَالِحة لَهمَا
فلَا بُدَّ مِن البيِّنة على اَلمُدعي.
فَإذَا
القرائن بَينَة، وعليْه فالْبيِّنات لَا تَختَص بِالشُّهود.
وَمِن
العمل بِالْقرائن قِصَّة سُليْمَان عليْه السَّلَام، فَإِن سُليْمَان عليْه
السَّلَام مَرَّت بِه اِمْرأتان مَعهُما وُلِد، وكانتْ المرْأتان قد خرجتَا إِلى
اَلبَر فَأكَل الذِّئْب وُلِد اَلكُبرى، واحْتكمْتَا إِلى دَاوُد عليْه السَّلَام،
فَقضَى دَاوُد عليْه السَّلَام بِأنَّ الولد لِلْكبيرة اِجْتهادًا مِنْه؛ لِأنَّ
الكبيرة قد تَكُون اِنتهَت وِلادتهَا والصَّغيرة فِي مُسْتقْبَل اَلعُمر.
فَخَرجتَا
مِن عِنْد دَاوُد عليْه السَّلَام، وكأنَّهمَا وَاَللَّه أَعلَم فِي نِزَاع،
فسألهمَا سُليْمَان عليْه السَّلَام، فأخَّبْرتاه بِالْخَبر، فَدعَا بِالسِّكِّين
وَقَال: سَأشُق الولد نِصْفيْنِ، أَمَّا الكبيرة فَوَافقَت، وَأمَّا الصَّغيرة
فقالتْ: الولد ولدهَا يَا نَبِي اَللَّه، فَقضَى بِه لِلصَّغيرة [٢]؛ لِأنَّ هُنَا
بَينَة وَهِي القرينة الظَّاهرة اَلتِي تَدُل على أنَّ الولد لِلصَّغيرة؛
لِأنَّهَا أدْركتْهَا الشَّفَقة وقالتْ: كَونُه مع كَبِيرَة ويبْقى فِي الحيَاة
أحبَّ إِلى مِن فَقدِه الحيَاة، والْكبيرة لَا يَهُمهَا هذَا؛ لِأنَّ ولدهَا قد
أَكلَه الذِّئْب.
كَذلِك
قِصَّة يُوسُف عليْه السَّلَام، مع اِمرأَة اَلعزِيز لِمَا قال الحاكم: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ
مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ
إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: ٢٦-٢٨].
وَمِن
ذَلِك أيْضًا: اِمرأَة اِدَّعت على زوْجهَا أنَّ لَه سنة كَامِلة لَم يُنْفِق،
والرَّجل يُشَاهِد هُو يَأتِي لِلْبيْتِ بِالْخبْز والطَّعام وَكُل مَا يحْتاجه
البيْتُ، وليْس فِي البيْتِ إِلَّا هُو وامْرأته، وَقَال هُو: أَنَّه يُنْفِق
فالظَّاهر مع الزَّوْج، فلَا نَقبَل قَولُها وَإِن كان الأصْل عدم الإنْفاق، لَكِن
هُنَا ظَاهِر قَوِي وَهُو مُشَاهدَة الرَّجل يَدخُل على بَيتِه بِالْأَكْل
والشُّرْب وغيْرهمَا مِن مُتطلَّبات البيْتِ.
فِي
القسامة: القسامة أن يَدعِي قَوْم قَتْل لَهُم قتيل بِأنَّ القبيلة الفلانيَّة
قتلتْه، وبيْن القبيلتيْنِ عَداوَة، فادَّعتْ القبيلة اَلتِي لَهَا اَلقتِيل أنَّ
هَذِه القبيلة قَتلَت صاحبَهم وعيَّنتْ القاتل أَنَّه فُلَان، فَهنَا مُدعِي
وَمُدعَى عليْه، اَلمُدعي أَولِياء المقْتول، والْمدَّعى عليْه القبيلة الثَّانية.
فَإذَا
قُلنَا: البيِّنة على اَلمُدعي والْيمين على من أَنكَر، وَقُلنَا: البيِّنة لَيسَت
الشَّاهد، بل مَا أَبَان اَلحَق اِختلَف اَلحُكم.
ولو
قُلنَا إِنَّ البيِّنة الشَّاهد لَقُلنَا لِلْمدَّعين هَاتُوا بَينَة على أنَّ
فُلَانا قَتلَه وَإلَّا فلَا شَيْء لَكُم، وَلكِن السَّنةُ جَاءَت على خِلَاف
هذَا، جَاءَت بِأنَّ المدَّعين يحْلفون خمْسين يمينًا على هذَا الرَّجل أَنَّه
قُتِل صاحبهم [٣]، فَإذَا حَلفُوا فَهُو كالشُّهود تمامًا، فيأْخذونه بِرمَّته
ويقْتلونه وَهذِه وَقعَت فِي عَهْد اَلنبِي ﷺ
وَقضَى بِهَا هَكذَا، على أَنَّه إِذَا حِلْف خَمسُون رَجُلا مِن أَولِياء
المقْتول فإنَّهم يسْتحقُّون قَتْل اَلمُدعى عليْه، وَهذَا هُو اَلحَق، وَإِن كان
بَعْض السَّلف والْخَلف أَنكَر هذَا وَقَال: كَيْف يَحكُم لَهُم بِأيْمانهم وَهُم
مُدَّعون.
فيقال:
السَّنةُ هُنَا مُطَابقَة تمامًا لِلْواقع؛ لِأنَّ مع المدَّعين قَرِينَة تَدُل
على أَنهُم قَتلُوا صاحبهم وَهِي العداوة، فَهذَا اَلقتِيل رَأْي عِنْد القبيلة
اَلأُخرى اَلمُدعى عليْهَا، ولَا نَقُول: هَاتُوا شُهودًا؛ لِأنَّ قَرِينَة
اَلْحال أَقوَى مِن الشُّهود.
فَإذَا
قال قَائِل: لِماذَا كَررَت الأيْمان خمْسين يمينًا؟
فالْجواب:
لِعَظم شَأْن الدِّمَاء، فليْس مِن السَّهْل أن نَقُول اِحْلِف مَرَّة واقْتل
اَلمُدعى عليْه.
فَإِن
قال قَائِل: كَيْف يَحلِف أَولِياء المقْتول على شَخْص مُعيَّن وَهُم لَا يَدرُون
عَنْه؟
فالْجواب:
أَننَا لَا نُسلِّم أَنهُم لَا يَدرُون عَنْه، فَرُبمَا يكونون شاهدوه وَهُو
يَقتُل صاحبهم، وَإذَا سلَّمْنَا جدلا أو حَقِيقَة أَنهُم لَم يُشاهدوه فَلهُم أن
يحْلفوا عليْه بِنَاء على غَلبَة اَلظَّن وَتتِم الدَّعْوى، وَالحِلف بِنَاء على
غَلبَة اَلظَّن جَائِز.
وَلذَلِك
القسامة قال عَنهَا بَعْض العلماء إِنَّها تُخَالِف القيَاس مِن ثَلاثَة أَوجُه:
الوجْه
الأوَّل: أنَّ الإيمان صَارَت فِي جَانِب المدَّعين، والْأَصْل أنَّ اَليمِين فِي
جَانِب اَلمُنكر.
الوجْه
الثَّاني: أَنهَا كَررَت إِلى خمْسين يمينًا.
الوجْه
الثَّالث: أنَّ أَولِياء المقْتول يحْلفون على شَخْص قد لَا يكونون شاهدوا قَتلُه.
وَسبَق
اَلْجَواب عن هذَا، وأنَّ القسامة مُطَابقَة تمامًا لِلْقواعد الشَّرْعيَّة.
٤-
فِيه أَنَّه لَو أَنكَر اَلمُنكر وَقَال لَا أَحلِف فَإنَّه يَقضِي عليْه
بالْنكول، وَوجَّه ذَلِك أَنَّه إِذَا أبى أن يَحلِف فقد اِمتنَع مِمَّا يَجِب
عليْه ، فيحْكم عليْه بالْنكول، وَاَللَّه أَعلَم.
[١]
أخرجه البيهقي: في السنن الكبرى، ج١٠/ ص٢٥٢، (٢٠٩٩٠)، وفي البخاري بمعناه: كتاب
التفسير، باب: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا، (٤٥٥٢)، ومسلم: كتاب
الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، (١٧١١)، (١).
[٢]
أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، (٣٤٢٧)، ومسلم: كتاب
الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين، (١٧٢٠)، (٢٠).
[٣]
أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب: إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال،
(٦١٤٢)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب: القسامة، (١٦٦٩)، (١).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: