شرح حديث/ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته

شرح حديث/ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته
المؤلف احمد خليل
تاريخ النشر
آخر تحديث

كتاب الأدب: باب الوعظ والاقتصاد فيه

لفضيلة الدكتور خالد بن عثمان السبت

شرح – حديث – إن – طول – صلاة – الرجل – وقصر - خطبته

شرح حديث/ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته


أحاديث رياض الصالحين: بابُ الوَعظ والاقتصاد فِيهِ.

٧٠٥- وعن أَبي الْيَقظان عَمَّار بن ياسرٍ رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه يقول: «إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ، وَقِصرَ خُطْبتِه، مَئِنَّةٌ مِنْ فقهِهِ، فَأَطِيلوا الصَّلاةَ، وَأَقْصِروا الخُطْبةَ» [١] رواه مسلم.

(مَئِنَّةٌ) بميم مفتوحة، ثم همزة مكسورة، ثم نون مشددة، أي: علامة دالة على فقهه.
٧٠٦- وعن مُعاويةَ بنِ الحَكم السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنا أُصَلِّي مَع رسول اللَّه ، إذْ عطسَ رجُلٌ مِن القَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّه، فَرَماني القَوْمُ بأبصارِهمْ، فقلتُ: واثُكْلَ أُمَّيَاه مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ إليَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأيديهم عَلَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأيْتُهُمْ يُصَمِّتُونني لكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ اللَّه، فَبأبي هُوَ وأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَه وَلا بَعْدَه أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْه، فَوَاللَّه مَا كَهَرنِي، وَلا ضَرَبَني، وَلا شَتَمَني، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقرَاءَةُ الْقُرآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رسولُ اللَّه ، قلتُ: يَا رسول اللَّه، إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بجَاهِليةٍ، وقَدْ جاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ؟ قَالَ: «فَلا تَأْتهِمْ»، قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرونَ؟ قَالَ: «ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدونَه في صُدورِهِم، فَلا يَصُدَّنَّهُمْ» [٢] رواه مسلم.

(الثكل) بضم الثاء المثلثة: المصيبة والفجيعة. (ما كهرني) أي: ما نهرني.

 

الشرح:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فذكر المؤلف رحمه الله، في باب "الوعظ والاقتصاد فيه":

حديث الْيَقظان عَمَّار بن ياسرٍ رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه يقول: «إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ، وَقِصرَ خُطْبتِه، مَئِنَّةٌ مِنْ فقهِهِ، فَأَطِيلوا الصَّلاةَ، وَأَقْصِروا الخُطْبةَ».

والعلاقة بين هذا الحديث وبين الباب ظاهرة بالاقتصاد في الوعظ، إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، يعني: يوم الجمعة، مَئِنَّة من فقهه، مَئِنَّة أي: علامة ودليل يعرف بها فقهه، أنه فقيه، هذا لفقهه، ويمكن أن تكون العلة في هذا -والله تعالى أعلم- هي أنه لما كان المقصود الصلاة والخطبة تذكير بين يديها -فالجمعة تدرك بالصلاة كما هو معلوم- كانت العناية بالمقصود الأساس أهم، ومن ناحية أخرى يمكن أن يقال: إن الصلاة هي أشرف العبادات وهي رأس العبادات البدنية، وصلة بين العبد وربه، فالاشتغال بها والتطويل فيها تطويلًا لا يشق أهم من التطويل في الخطبة، ويمكن أن يقال أيضاً -والله تعالى أعلم: إن التطويل يكون ناتجًا عادة عن قلة البيان والفصاحة، فيضطر الإنسان إلى تكثير الكلام ليصل إلى مطلوبه، فيشرحه شرحًا قد لا يحتاج إليه غيره، وإنما يحصل التذكير بما هو دون ذلك.

 

هذه مسألة تحتاج إلى وقفة وتأمل، والحديث واضح، وفيه الأمر فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، ومعلوم أن صلاة الجمعة ثبت أن النبي قرأ فيها بسبح والغاشية [٣]، وإذا قرأ بسبح، والغاشية، وكان ركوعه وسجوده قريبًا من قيامه [٤]، يعني: أن تكون صلاته فيها توازن، فهذه الصلاة ليست طويلة كصلاة الفجر مثلاً التي قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيها: {وقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: ٧٨]، يعني: صلاة الفجر {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: ٧٨]، فإذا كانت صلاة الجمعة التي يُقرأ فيها بمثل هذه القراءة تكون أطول من الخطبة، وأن هذا علامة على فقه الرجل فهذا يدعونا إلى المقارنة بأحوالنا، وما نحن فيه، فاليوم نجد أن خطبنا طويلة جدًّا، يعني: الذي قد لا يطوِّل كثيرًا يخطب ثلث ساعة الخطبة الأولى والثانية، هذه تعتبر خطبة مختصرة، والله المستعان.

 

والصلاة لربما سبع دقائق، وأما كثير من الخطباء فإنه قد يخطب نصف ساعة فأكثر، قد تصل إلى ساعة، وأذكر أني في بلد من البلاد خطبت الجمعة ثلث ساعة، وخشيت أني أطلت على الناس؛ لأني لا أعرف عادتهم، ففوجئت أن الخطيب الإمام قام بعد الصلاة، وقال: سمعنا في هذه الخطبة المختصرة حديثًا عن الموضوع الفلاني، وهذا الحديث يعني يكفي إلى آخره، تلطف بالكلام، ثم بعد ذلك بدأ يلقي كلمة طويلة، فتعجبت، فسألته بعد ذلك: أنا خشيت من الإطالة على الناس، قال: لا، نحن نخطب ساعة كاملة، لم يعهد الناس الخطبة ثلث ساعة، وسمعت بعض الخطب هناك، كلام طويل كثير يُشرق ويُغرب، فهذا خلاف مقصود الشارع -والله تعالى أعلم؛ لأن النبي هنا يقول: «فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة»، ثم إذا نظرت إلى حال الناس فإنهم ينفرون ويعزفون عمن يطيل الخطبة، هذا مشاهد، ويبحثون عن المساجد الأخرى، بل رأيت كثيرًا من الناس يصلون في مساجد لربما لا يستفيد من الخطبة شيئًا يذكر إلا أن هذا الخطيب خُطبه قصيرة ويخرج قبل الناس، العشر الدقائق التي يخرجون فيها قبل المساجد الأخرى للأسف هي تعني للكثير منهم الشيء الكثير، فيُقصد المسجد أحيانًا من أجل قصر الخطبة، ثم إني تأملت كثيرًا في هذا الموضوع نظرت في الخطب المنقولة عن النبي ، الخطب المنقولة عن الصحابة، عن الخلفاء رضي الله عنهم، رأيتها خطبًا قصيرة، الخطبة أحيانًا صفحة، ليست خطبًا طويلة، ونحن اليوم ربما نعتذر لأنفسنا بأن الناس بحاجة إلى الشرح والتفصيل، وأنها فرصة أن يجتمع الناس، لكن هل هذا فعلًا يحصل به المقصود، أو أن الناس يتضايقون من هذا ويستثقلونه؟ والمُشاهَد أنه إذا نظرت إلى كثير منهم تجده في سبات لا أقول: في نعاس، وقد لاحظت هذا، ينامون أول ما يبدأ الخطيب يخطب، أَمَنة، والأمَنَة في مجلس العلم ليست كالأمنة في الحرب، {أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: ١٥٤] فهذا رحمة، وأما في مجلس العلم فالعلماء قالوا فيه كلامًا شديدًا، فلا يحصل المقصود، ينامون، وهناك أناس عندهم مشكلات قد لا يدركها الخطيب، شاب معافى والحمد لله، لكن هؤلاء الذين عندهم سكر مثلاً -أعزكم الله- يحتاج دورة المياه بين حين وآخر متقاربة لا يستطيع، لاسيما الذي يأتي مبكرًا، يعني: نحن عندنا للأسف نتأخر، يعني: ندخل المسجد في وقت متأخر، لربما ندخل الحادية عشرة أو قريبًا من هذا، وهذا تقصير، لكن أعرف كثيرين في نواحٍ مختلفة يجلسون يغتسل الرجل بعد صلاة الفجر، ويجلس قبل الإشراق، يدخل المسجد ولا تشرق الشمس إلا وهو في المسجد، سنين متطاولة، وأعرف رجلًا شوهد وهو يذهب الساعة الثامنة صباحًا، وكان يحاول أن ينصرف لا يراه أحد، من الحياء من الناس أنه متأخر، ليست عادته، وذهب أناس لزيارة رجل في ناحية يوم الجمعة حدود الساعة الثامنة صباحًا، فقال أهله: لا يكون هذه الساعة إلا في المسجد.

 

ورأيت في أحد المساجد الصف الأول والصف الثاني في الساعة السابعة صباحًا، وليست بعادة أن أذهب إلى الجمعة في هذا الوقت، لكن رأيت الصف الأول والثاني ممتلئًا.

فأقول: فإذا كان الناس يأتون مبكرين هب أنهم يأتون في العاشرة، فينتظر قريبًا من ساعتين فإذا كانت الخطبة طويلة أيضًا سيستقبل نحو ساعة أخرى مثلًا فلا شك أن هذا شاق، بخلاف من جاء ودخل أثناء الخطبة، أمّا الواقف فإنه يتململ ينتظر متى تنتهي؛ ولذلك أقول: هذه في ظني سنة مهجورة، قد لا نتصور هذا المعنى بطريقة صحيحة لما ألفنا من التطويل، فيحتاج الإنسان في أول أمره أن ينظر ويتأمل هذا المعنى مع نفسه ويقارن خطب النبي وخطب الخلفاء مثلاً رضي الله عنهم، وهذا الأمر في الحديث، ويقارن ذلك بخطبنا، فتكون خطبة مركزة ما فيها تكرار، لا تعاد فيها بعض الجمل كثيرًا، يصل المقصود بكلام موجه مباشر، وهذا يكفي، والله تعالى أعلم.

 

وقد رأيت بعض من يفتخر بأنه في الخطبة لا يتحدث عن موضوع معين، يتحدث عن موضوعات كثيرة جدًّا، يقول: لأن الموضوع المعين قد لا يتعلق إلا ببعض من حضر، وأنا أريد أن أفيد الجميع، فتكون خطبته تعوم وتحوم حول موضوعات كثيرة، ويقول: هذا هو الصحيح، وينتقد الآخرين بقوة، والناس وما يعشقون مذاهب، فقد نألف أشياء أحيانًا وقد لا تكون كما ينبغي، ولا أقل من أن يقال: الخطبة لا تطول، ينبغي ألا تطول طولًا يشق على الناس، فلابدّ من مراعاتهم، وبعض الذين يقدمون دورات في الخطابة سمعت أنهم يقولون: إن المعيار حينما يقف الخطيب هو أن يحتاج إلى تغيير وقوفه، ويشعر أن رجله قد تعبت، هذا معيار غير منضبط؛ لأن الناس يتفاوتون، ومن الناس من يتململ بعد وقوفه دقيقة واحدة أو دقيقتين، فيحتاج أن يراوح مراوحة شديدة تجده حتى في الصلاة، فهذا ليس بمقياس، يختلف باختلاف الناس واختلاف النشاط والقوة والشباب، لكن هناك أشياء تُعرف، والناس يتفاوتون، الخطيب الجيد تجد الناس قد رفعوا أبصارهم ينظرون إليه لا يضعون طرفهم، هذه علامة، بخلاف ما إذا رأيت الناس في سبات، وفي نوم، أو يتلفتون لبعضهم، ينتظرون فقط متى ينتهي، يلاحظون شعور الآخرين هل هو مشترك أنهم قد ملوا وسئموا أو لا؟ والله المستعان.

 

ثم ذكر حديث مُعاويةَ بنِ الحَكم السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنا أُصَلِّي مَع رسول اللَّه ، إذْ عطسَ رجُلٌ مِن القَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّه، فَرَماني القَوْمُ بأبصارِهمْ، فقلتُ: واثُكْلَ أُمَّيَاه مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ إليَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأيديهم عَلَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأيْتُهُمْ يُصَمِّتُونني لكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ اللَّه، فَبأبي هُوَ وأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَه وَلا بَعْدَه أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْه، فَوَاللَّه مَا كَهَرنِي، وَلا ضَرَبَني، وَلا شَتَمَني، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقرَاءَةُ الْقُرآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رسولُ اللَّه ، قلتُ: يَا رسول اللَّه، إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بجَاهِليةٍ، وقَدْ جاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ؟ قَالَ: «فَلا تَأْتهِمْ»، قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرونَ؟ قَالَ: «ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدونَه في صُدورِهِم، فَلا يَصُدَّنَّهُمْ».

 

معاوية رضي الله عنه، ابن الحكم السلمي نسبة إلى القبيلة المعروفة أعني بني سُليم، وهي قبيلة منازلها بين مكة والمدينة، معروفة إلى اليوم، صلى مع النبي ، وكان ذلك حينما هاجر إلى المدينة ودخل في الإسلام، وكان حديث عهد بالجاهلية، بمعنى أنه لم يتعلم من شرائع الإسلام إلا اليسير القليل يقول: إذْ عطس رجل من القوم، يعني: من المصلين، فقلت: يرحمك الله، هذا يدل على أنه كان يعرف التشميت، وهل قال الرجل: الحمد لله؛ لأنه لا يشمت إلا من قال: الحمد لله؟ ليس ذلك بلازم؛ لأن معاوية رضي الله عنه، كان حديث عهد بالإسلام، بمعنى أنه قد يخفى عليه هذا، قد يشمت الرجل ولم يقل: الحمد لله، فالشاهد: أنه قال له: يرحمك الله، يقول: فرماني القوم بأبصارهم، يعني: مَن معه من المصلين جعلوا ينظرون إليه، كيف يتكلم وهو يصلي؟ وبهذا فارقت أنظارهم موضع السجود، فنظروا إليه، وهذا يدل على أن الالتفات بالنظر لا يبطل الصلاة، وهو أسهل من الالتفات بالرأس أو بالوجه، ولكن المصلي مأمور بأن ينظر إلى موضع سجوده، ولا بأس للحاجة، فقد كانوا يرمقون النبي في صلاته، ويعرفون قراءته في السرية من اضطراب لحيته، وهكذا حينما أبطأ عليهم في السجود رفع بعضهم رأسه، فرأى الحسن أو الحسين قد ارتحله، والنبي نظر إلى النار والجنة عرضت عليه في جدار المسجد، فهذا يدل على أن النظر في غير موضع السجود للحاجة لا بأس به، بل لو احتاج إلى الالتفات فإن صلاته لا تبطل، كأن يكون بجانبه شيء يحاذره فسمع صوتًا فالتفت، أو صبي خاف عليه سمع صوتًا فالتفت إليه، التفتت المرأة إلى طفلها، سمعت شيئًا فخافت أن يكون قد أصابه مكروه، ويدل على ذلك ما جاء عن رسول الله في بعض مغازيه حينما بعث رجلاً يأتيه بخبر المشركين، فكان النبي يلتفت في الصلاة ينظر إلى ناحية الوادي، يعني: المكان الذي يأتي منه الرجل، أو يتوقع مجيئه منه أثناء الصلاة.

 

يقول: "فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم"، وهذا نظر إنكار، وكان بالإمكان أن يقولوا: سبحان الله، دون نظر، وهذا هو المشروع للرجل، ولكن يمكن أن يكون النبي أعلمهم بهذا بعد هذه الواقعة، فقلت: واثُكلَ أُمِّيَّاهْ، يعني: وافقد أمي لي، واثُكلَ: تقول: ثكلتْه أمه بمعنى فقدته، واثُكلَ أُمِّيَّاهْ: أمي والياء والألف كأنها تدل على الصوت أو النداء، والهاء للسكت، أمِّيَّاهْ، يعني: واثُكْلَ أمي، واثَكَلَ أمي بفتحتين أيضًا.

"ما شأنكم تنظرون إليّ؟"، يعني: هو حينما رأى ذلك علم أنه وقع منه شيء لا يصح أن يصدر من المصلي، وهو لا يزال يتكلم، يعني: على الأقل الكلمة الأولى: يرحمك الله يمكن أن يقال: إنها من الذكر، يقال في تشميت العاطس مثلًا، وأن من كان من جنس الذكر فإنه لا يبطل الصلاة مثلًا، قد تخرج، لكن الثانية: "واثُكلَ أُمِّيَّاهْ، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ هذه ليست من جنس الذكر إطلاقًا.

 

يقول: "فجعلوا يضربون بأيديهم"، يعني: ما نفع النظر فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، وهذا يقوي ما ذكرته من أن ذلك قد يكون قبل أن يعلمهم النبي أن الرجل إذا نابه شيء في الصلاة سبّح، والمرأة تصفق، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، كم مرة ضربوا؟ الله أعلم، والذين يقولون: تبطل الصلاة بثلاث حركات، يقولون: إنهم ضربوا على أفخاذهم أقل من ثلاث حركات، ولكن ما يدريكم؟ وما الدليل على الثلاث؟ قالوا: الدليل على الثلاث أنها حركة كثيرة، ولكن مثل هذا لا ينضبط؛ ولذلك تجد بعضهم إذا أراد أن يتقدم في صف وجد فيه فرجة أمامه وَزَن الخطوات طولًا؛ لأجل هذا، فتجد الخَطْو يطول إذا كان يحتاج لربما إلى أكثر من ثلاث، فهو يزنها بأقل من ثلاث خطوات طويلة إذا كان الصف بعيدًا.

يقول: "فلما رأيتهم يُصّمتونني، لكنني سكت"، ما معنى هذا الكلام؟ يقول لما رأيتهم يصمتونني ينظرون إليّ معناه كأنه يقول: غضبت، تضايقت، انزعجت لكني سكت، فيه مقدر محذوف أزعجني ذلك، أغضبني ذلك لكني أسكت، يعني: لم أتمادَ وأرد، وأقول: ما بالكم؟

 

يقول: "فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي"، يعني: أفديه "ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه"، قبله هو حديث عهد بجاهلية فمن سيرى؟! لكن بعده رأى الخلفاء رأى أصحاب النبي علماء منهم، ورأى أهل الحلم والصبر، ورأى أهل الفضل والرحمة والإحسان والجود، رأى كثيرًا ممن رباهم النبي ، ولكنه لم يرَ أحدًا أحسن تعليمًا من رسول الله ، فدل ذلك على أن رسول الله وهذه قضية قطعية لا نشك فيها، قد بلغ الغاية في الكمال في حسن التعليم، وحسن التعليم يكون باجتماع حسن العبارة، والوضوح، وحسن الأداء، ألا يؤدي ذلك بطريقة فيها زجر، إغلاظ، نهر، تعنيف، فتجتمع هذه الأشياء جميعًا اختيار عبارات مناسبة يعلمه ما يصلح لمثله، ويؤدي ذلك بأسلوب لطيف تقبله النفوس، "ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه"، فمن أراد أن يتصف بالكمال أو يقارب الكمال، أو يخطو نحو الكمال في التعليم فليجتهد في الاقتداء بالنبي في طريقة تعليمه للناس، والمعلمون بحاجة إلى هذا كثيرًا، سواء كانوا من الخطباء، أو كانوا ممن يعلمون في المدارس، أو الجامعات، أو في المساجد أو غير ذلك.

 

 يقول: "فوالله ما كَهَرني"، يع:ني ما زجرني، ما نهرني، "ولا ضربني ولا شتمني"، إذا كان ما زجره فمن باب أولى، لكن كما يقال: إن مقام المدح يصلح فيه الإطناب، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، يعني ما قال: أنت جاهل، والكلام الذي يجرح، ما قال له شيئًا من هذا، قال له: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" فدل ذلك على أن الكلام الخارج عن مقصود الصلاة -قراءة القرآن والذكر- يتنافى معها، وبهذا قال أهل العلم: إنه إذا تكلم عامدًا عالمًا بالحكم فإن صلاته تبطل، واختلفوا في بعض الصور، تكلم فقال مثلًا: يا زيد، أو قال: خذ، حتى لو كان حرفًا واحدًا يعبر عن فعل مثلًا، تقول: "قِ" فعل أمر حذفت منه الياء، فجاء على حرف واحد، فهذا كلام يعتبر بغض النظر عن مصطلح النحاة في الكلام أنه اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، أو قول بعضهم: هو اللفظ المفيد بالوضع، هذا اصطلاح للنحاة، لكن المقصود هنا الكلام سواء كان مفيدًا أو غير مفيد، لو قال: "دَيْز" هذا كلام مقلوب "زيد"، فهذا يبطل الصلاة إن كان عامدًا عالمًا ذاكرًا، لكن لو كان جاهلًا فإن صلاته لا تبطل بمثل هذا، أو ناسيًا خرج منه الكلام سهوًا فإن صلاته لا تبطل.

 

واختلفوا في بعض الصور فيما لو أنه مثلًا قال: يا موسى خذ الكتاب، أو إنسان بجانبه وهناك كتاب ونسي فقال له: خذ الكتاب، هذه جاءت في آية، فهل تبطل صلاته بهذا أو لا؟

فمن أهل العلم من فصّل فيه فقال: إن قصد قراءة الآية لم تبطل، وإن قصد تكليمه دون قراءة الآية فإن صلاته تبطل.

وقوله: "إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" ذكر التسبيح والتكبير وقراءة القرآن وفيها أشياء أخرى أيضًا من التهليل مثلًا، والثناء على الله عزَّ وجلَّ، وما أشبه ذلك، لكن عبر بهذا ليدل على غيره، فهذا بعض ما فيها أو من أشهر ما يكون فيها، قال: "أو كما قال رسول الله "، وهذا من باب التحرز في الرواية عنه ؛ لئلا يزيد عليه أو ينقص من كلامه، فكانوا يتحرزون، وهذا باب واسع له كلام كثير فيه، وجمع فيه أهل العلم شواهد في هذا الباب في تحري الصحابة رضي الله عنهم، في رواياتهم عن رسول الله .

 

الآن تعلَّم وعرف فأراد أن يعرف بعض الأسئلة، فالنبي لم يقل له: أعد الصلاة، صلاتك باطلة، وإنما عذره بالجهل؛ لأنه حديث عهد بالإسلام، ومسألة العذر بالجهل ثابتة، ولكن تبقى بعض التفاصيل العلماء يختلفون فيها، فمن نشأ في مكان بعيد ولو كان قديم الإسلام فإنه يعذر فيما يخفى على مثله، ومن كان حديث العهد بالإسلام ولو كان في حاضرة الحواضر فإنه يعذر فيما خفي عليه، وتبقى بعض الصور، يعني: الشاهد النبي ما أمره بالإعادة، وهذا يدل على أن من جاء بالعبادة على الوجه المطلوب حسب استطاعته فإنه لا يؤمر بالإعادة، والأمثلة على هذا كثيرة، نفس حديث المسيء صلاته النبي قال له: "ارجع فصل" [٥]، تعليمًا له، لكنه لم يقل له: كل صلاتك هذه السنوات التي مضت بهذه الطريقة لا تصح، أعد الصلاة الماضية والتي قبلها والتي قبلها، لا، كذلك أيضًا حَمْنة لما قالت للنبي : "إنها تستحاض" [٦]، وهي أخت زينب بنت جحش، يعني: قريبة جدًّا، قالت: "إني أُستحاض سبع سنين فأدع الصلاة والصوم، فأعلمها أن هذا ليس بالحيضة، وأنها تتوضأ لكل صلاة إلى آخره، فما قال لها: أين هذه الصلوات والصيام؟ أعيدي، فدل ذلك على أنها معذورة، وهذا من يسر الشريعة.

 

وكذلك عمار بن ياسر رضي الله عنه، لما تمعَّك تمعُّك الدابة، حصلت له جنابة، لم يقل له: أعد الصلاة [٧]. وعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جنب [٨]، واحتج بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] كان الجو باردًا، فما قال له النبي أعدها، وإنما تبسم النبي ، فدل ذلك على أن من جاء بالعبادة بحسب استطاعته فإنه يعذر بما حصل من نقص لجهله، والله تعالى أعلم، هكذا يبدو، وإن كان كثير من الفقهاء يأمرون بالإعادة والقضاء؛ ولهذا تجد المرأة قد تصلي أحيانًا وتظن أنه حيض، فيقال لها: هذا ما هو بحيض، هذه استحاضة، وتكون أسابيع أحيانًا، وأحيانًا تكون سنوات، طيب ما الذي تقضيه وما الذي لا تقضيه؟ وهكذا الصيام تكون صامت وتظن أنه استحاضة وتبين أنه حيض مثلًا، ما الذي تقضي وما الذي لا تقضي؟

سنوات، فالفقهاء كثير منهم يأمرها بالقضاء، فمن أراد أن يحتاط لنفسه فذلك، لكن إلزام الناس بمثل هذا فيه إشكال، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

[١] صحيح مسلم: (٨٦٩).

[٢] صحيح مسلم: (٥٣٧).

[٣] أخرجه مسلم: كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم: (٨٧٨).

[٤] أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم: (٧٧٢).

[٥] أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب أمر النبي الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، برقم (٧٩٣)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (٣٩٧).

[٦] أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم (٢٨٧)، والترمذي: أبواب الطهارة عن رسول الله ، باب في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (١٢٨)، وابن ماجه: أبواب التيمم، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، برقم (٦٢٢)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (١/٢٠٢)، برقم (١٨٨).

[٧] أخرجه البخاري: كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (٣٤٧)، ومسلم: كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (٣٦٨).

[٨] أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أَيَتيمم؟ برقم (٣٣٤)، وعلقه البخاري في صحيحه (١/٧٧)، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش تيمم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (٢/١٥٤)، برقم (٣٦١).


الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين

اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم

تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

تعليقات

عدد التعليقات : 0