باب الوعظ والاقتصاد فيه

باب الوعظ والاقتصاد فيه
المؤلف احمد خليل
تاريخ النشر
آخر تحديث

كتاب الأدب

لفضيلة الدكتور خالد بن عثمان السبت

باب – الوعظ – والاقتصاد – فيه

باب الوعظ والاقتصاد فيه


أحاديث رياض الصالحين: بابُ الوَعظ والاقتصاد فِيهِ.

قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: ١٢٥].
٧٠٤- وعن أَبي وائِلٍ شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ مسْعُودٍ رضي الله عنه، يُذَكِّرُنَا في كُلِّ خَمِيسٍ مرة، فَقَالَ لهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عبْدِالرَّحْمَنِ، لودِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: "أمَا إِنَّهُ يَمنعني مِنْ ذلكَ أنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وإِنِّي أتخَوَّلُكُمْ بِالمَوْعِظةِ، كَما كَانَ رَسُولُ اللَّه يَتَخَوَّلُنَا بِهَا؛ مَخافَةَ السَّآمَةِ علَيْنَا" [١] متفقٌ عليه.

"يَتَخَوَّلُنَا": يتعهدنا.

 

الشرح:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب "الوعظ والاقتصاد فيه"، والوعظ هو الأمر أو النهي المقرون بما يدعو للفعل أو الترك، كالترغيب والترهيب، وقد يطلق على معنى أعم من ذلك.

والاقتصاد يعني الاعتدال، بمعنى أنه لا يُكثر من ذلك جدًّا كثرة تبعث على السآمة، ولا يكون ذلك نادرًا فيحصل للناس شيء من الجفاف، الناس بحاجة إلى التذكير، والله تَبارَك وتعالى، يقول: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: ٥٥] فالذكرى بمنزلة الماء الذي يسقي الشجر، ويُفرَّق بين مجالس العلم، وبين الوعظ، فمجالس العلم لا بأس أن تكون متتابعة في اليوم الواحد، أو في الأيام المتوالية لا إشكال في هذا، إنما الكلام في الوعظ الذي يقصد به ترقيق القلوب، وبعث النفوس على الامتثال والعمل، هذا هو المراد، فإذا كثر الوعظ على النفوس بعد كل صلاة يقوم شخص ويلقي موعظة، أو كل يوم: عباد الله اتقوا الله، ويتحدث عن الجنة والنار، وكذا، النفوس مهما كانت تُقبل على الخير، وتحب الخير، إلا أنها قد تمل وتسأم من ذلك، فكون الموعظة تقع على النفس حيث تطلبها النفوس، وتشتاق إليها فإن ذلك يكون أعظم وقعًا، بخلاف مجالس التعليم، فإنه يقصد بها رفع الجهل عن المكلفين، وبيان الأحكام والآداب، وشرائع الإسلام، فهذا يُحتاج إليه دائمًا.

 

ثم ذكر قول الله تَبارَك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: ١٢٥]، هذا أمر بالدعوة، وهذا الأمر من الشارع يدل على قدر المشروعية الدائر بين الوجوب والاستحباب، {ادْعُ} فتارة الدعوة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة.

والدعوة تكون إلى سبيل المعبود عزَّ وجلَّ، فهو سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يدعو الإنسان إلى نفسه أو يدعو إلى حظوظه أو ما أشبه ذلك، وإنما يدعو إلى سبيل ربه، يكون أمره لله تَبارَك وتعالى، يريد ما عند الله تَبارَك وتعالى، لا يريد أن يحصّل لنفسه منزلة ولا محمدة ولا رفعة في قلوب الخلق، ولا تصديرًا في مجالسهم ولا رئاسة، وسبيله تَبارَك وتعالى، أيضًا هو الطريق الذي خطه ورسمه، بمعنى اتباع السُنّة، واتباع الشرع لا يدعو إلى محدثات، لا يدعو إلى بدع، لا يدعو إلى ضلالات، فإن ذلك ليس من سبيل الله في شيء، فتضمّن سبيلُه تَبارَك وتعالى، أمرين:

أن يكون ذلك لله.

وأن يكون على ملة رسول الله .

 

ثم قال هنا: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، والحكمة بعض السلف يقولون: هي القرآن، وبعضهم يقول: الفقه في الدين، وبعضهم يقول غير ذلك، ولكن ذلك كله صحيح؛ لأن الحكمة لابدّ أن تكون منطلقة ومنوطة ومرتبطة كل الارتباط بالعلم الذي يوزن بميزان صحيح، ويكون عند الإنسان من العقل الراجح ما يجتمع له به البصيرة، بحيث إن الإنسان بحاجة إلى فقه وعلم في دعوته، وهو بحاجة إلى عقل بحيث يتصرف بطريقة صحيحة فيضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، يتكلم حيث يحسن الكلام، ويكف حيث يحسن الكف، ويتكلم مع كل أحد بما يليق بمثله، وما يناسبه، وما يصلح له، فالكلام مع المجادل غير الكلام مع القابل، والكلام مع المعاند غير الكلام مع الذي يطلب التعليم والموعظة، وله قبول وإذعان.

 

{بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} "بالحكمة" الباء للمصاحبة، دائمًا تكون الدعوة مصاحبة بالحكمة، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} لمن يحتاج إلى ذلك، لمن يحتاج إلى الوعظ، لكن دائمًا سواء كانت الدعوة مع مجادل مع صاحب شبهة مع من يحتاج إلى وعظ هذا كله لابدّ أن يكون بالحكمة، أما الموعظة فهي لتطرية القلوب، فتوضع حيث دعت الحاجة إليها؛ ولهذا ما جاءت معها الباء، لم يقل: وبالموعظة الحسنة، والله تعالى أعلم.

وقيَّد الموعظة بالحسنة؛ لأن الموعظة قد تكون قوية وجارحة ومؤلمة أحيانًا، فقد يقوم الإنسان يعظ لكن بطريقة يجرح فيها الموجودين، بأي طريقة من الطرق، يعني: بعض الناس مثلًا قد يعظ وأثناء الموعظة أو أثناء الخطبة يوجه الكلام المؤلم لهم، يقول: أنتم إذا كنتم على كذا سيحصل لكم كذا، لا يوجه الكلام يقول: يا إخواني نحن بحاجة إلى ألطاف الله، نحن بحاجة إلى رحمته، من ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟ لا يوجه الكلام لهم بالتثريب واللوم فيؤذي أسماعهم، وينفر قلوبهم، فالموعظة أحيانًا تكون فيها خشونة وجفاء فلا يحصل منها المطلوب، وإنما تنفر منها النفوس.

 

ثم قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥]، قال: {وَجَادِلْهُمْ} جاء بفعل الأمر ولم يقل: والمجادلة، كما قال: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ}، قال: {وَجَادِلْهُمْ} فهذا فعل، وذلك أن المجادلة ليست هي الأصل، إنما هي أمر عارض مع من يحتاج إلى ذلك، وهي مثل الدواء، حيث احتيج إليها، وإلا فإنها غالبًا حينما ترد في القرآن ترد على سبيل الذم، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: ٥]، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: ٦]، أكثر المواضع جاءت على سبيل الذم.

وإذا نظرت إلى أصل هذه المادة "المجادلة" فهي مأخوذة -كما قيل- من الجِدالة، والجِدالة هي الأرض الصلبة، فالجدل يحصل معه حضور النفوس، كل إنسان يريد أن ينتصر لرأيه، ويثبت قوله وحجته ولو بالباطل، وقد يحمل هذا الإنسانَ إلى ارتكاب أمور عظام، وقد ذكر ابن حزم في كتاب "الإحكام" في أواخره: أن رجلًا ممن ينسب إلى العلم أخطأ في آية، فنُبه، فكبر عليه ذلك، وعظم، فأبى وأصر أنه مصيب، فجيء له بالمصحف فأبى، فدخل في بيته وجاء بالمصحف، يقول ابن حزم: والحبر لم يجف -نسأل الله العافية، الحبر لم يجف بمعنى أنه ذهب وغير الكلمة؛ لئلا يثبت عليه خطأ، إلى هذا الحد؟! هذا ضلال مبين، والسبب الذي يحمل عليه هو الجدل، وما ثبتت كثير من الضلالات إذا نظرتم إلى رءوس الفرق الكبار الأربع التي ظهرت في أواخر عهد الصحابة، وبدايات عهد التابعين كانت قد توطدت أركانها وثبتت بطريق الجدل، درسوا المنطق والفلسفة، وتهافتت عليه الفرق، وصارت كل فرقة تضع لنفسها متاريس، واشتغلوا بالجدال فانشعبت الفرق الأربع، كل فرقة انقسمت إلى اثنتي عشرة فرقة، الأب يمثل فرقة، والابن يمثل فرقة، يكفر بعضهم بعضًا، السبب كثرة الجدال، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل" [٢]، يعني: كل يوم على مذهب، كل يوم على رأي؛ لأنه يجادل دائمًا، فلذلك هنا قال: {وَجَادِلْهُمْ} وقيده بالتي هي أحسن، وليس بالتي هي أخشن، وقد ذكر بعض أهل العلم في المجادلات أشياء يحمر منها الوجه.

وذكر بعضهم أنه لربما زحف بعضهم إلى صاحبه حتى أخذ بلحيته، ولربما قذفه، وشتمه حينما يحتدم الجدال، فالمجادلة تكون بالتي هي أحسن.

 

وهذا الكلام عن الموعظة وعن الاقتصاد فيها، وأن ذلك يختص بالوعظ، وأما العلم والتعليم فإن ذلك لا يشمله؛ لأنه بحاجة إلى إكثار ومواصلة.

ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه، كما قال أبو وائل، وهو من التابعين ومخضرم توفي سنة 64هـ، يقول: "كان ابن مسعود رضي الله عنه، يذكرنا في كل خميس"، يعني: أنه يعظ أصحابه في كل خميس، فهذا يدل على موضع الشاهد، وهو التخول بالموعظة؛ لئلا يحصل الملل، وأيضًا يدل على أنه يجوز أن يخصص يومًا بعينه للوعظ، اختار يومًا في الأسبوع من أجل أن يعرف الناس ذلك ويحضروا، ويتوافدوا، فهذا لا إشكال فيه، ولا يدخل ذلك في باب البدع، ولا في ذرائعها، لا إشكال في هذا.

فقال له رجل: "يا أبا عبد الرحمن، وهي كنية ابن مسعود رضي الله عنه، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم"، هذا يدل على أنهم كانوا في غاية الاستجابة، وأنهم كانوا يسمعون منه ما يحصل به المقصود من الوعظ، فترق قلوبهم، ويتأثرون، ويدل على رغبة السلف رضي الله عنهم، في الخير ومجالس الذكر.

 

فقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم"، وفي هذا أن الإنسان إذا كان يشتغل بوعظ أصحابه، أنه يكون حكيمًا فلا ينساق ويندفع إذا رأى منهم إقبالًا؛ لئلا تحصل السآمة بعد ذلك، وإنما يتصرف معهم بحيث يحصل لهم الدوام والاستمرار مع إقبال النفوس، فإن ذلك مقصود من مقاصد الشارع، وإذا فات ذلك، ولم يحصل هذا الإقبال في نفوس الناس فإن الموعظة لا تدخل القلب، ولا يحصل التأثر بها، فلا تتجاوز الأسماع، وهذا من مقومات الوعظ المثمر الذي يحصل به التأثير، فإن هذا الوعظ المؤثر له مقومات منها ما يرجع إلى المتكلم، فإن الصدق مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والصدق في النصح للناس والمحبة لهم، والإشفاق عليهم كل هذا له أثر بالغ يجعل الكلام يصل إلى القلوب مباشرة، والناس يعرفون ويفرقون بين الثكلى والنائحة المستأجرة، يعرفون هذا، ولربما تجد الرجل يتكلم كثيرًا ويعظ، وتهتز المنابر ولكن كلامه لا يجاوز الآذان، وبعضهم لربما يتكلم بكلام قصير قليل لكنه يكون في غاية التأثير، فالصدق مع الله تَبارَك وتعالى، والصدق في نصح الناس، وأن يعيش الإنسان مع الموضوع الذي يتحدث عنه، يعني: ما يأتي بخطبة قد صورها من كتاب مثلًا، أو من الإنترنت ثم يأتي ويقرؤها على الناس على المنبر، لا، إنما ينبغي أن يشعر أن هذا الموضوع بحاجة إلى معالجة، وأن هذا الموضوع تمس حاجة الناس إليه، وأنه يجب أن يطرح، ويجب أن يناقش، ويجب أن يصل إلى المستمعين، فيتفاعل، ولهذا بعض الخطباء يقول: أنا أخطب وأجتهد في خطبي، ونحو ذلك، ولكن لا أجد إقبالًا من الناس في سماع الخطب وحضورها، نقول: السبب هو أنك مجرد قارئ على المنبر، فأنت تعمل شيئًا لا يعجز عنه أحد من الحضور، لكن هل تعيش مع الخطبة، تعيش مع الموضوع؟ فأحيانًا تكون القضية مجرد قراءة لا يتفاعل معها الخطيب، فهذا ينعدم معه التأثير، أضف إلى ذلك أمورًا أخرى وهي المادة التي تقدم للناس، الأسلوب الذي تقدم به هذه المادة أحيانًا يكون هناك ركاكة، يكون هناك ضعف، أحيانًا يكون هناك تكرار ممل لبعض العبارات لدرجة السآمة، يعني: عبارات تتكرر، جمل تتكرر أثناء الخطبة، فالسامع يمل مباشرة، إضافة إلى أمور أخرى أحيانًا تتصل بقلب السامع، القلب يكون أحيانًا عليه -الله المستعان- ران، لا تصل إليه المواعظ، ولا ينتفع ولا يتحمل سماع هذه الموعظة.

 

وهناك مقومات يحصل معها التأثير منها مراعاة هذا الجانب الذي ورد في هذا الأثر: أن يختار التوقيت وألا يكثر حتى لا يمل الناس، وهناك فرق بين مجالس العلم وبين الوعظ، فما نحن فيه كل يوم هذا ليس بوعظ، هذا تعليم، أما الموعظة فهذه لا يكثر منها، وإنما يكون حينًا بعد حين، ولو طلبوا منه الإكثار فإنه لا يستجيب، فالشاهد هنا أنه قال: "أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله يتخولنا بها".

 

"أتخولكم" يعني: أتعهدكم، "كما كان رسول الله يتخولنا"، يعني: يتعهدنا بالموعظة، يعني: أنه يراعي أحوال المستمعين، وإقبالهم، فيعظهم حينًا بعد حين، فلا يكثر ذلك عليهم؛ لئلا يحصل لهم السآمة، وإذا نظرت إلى التشبع الذي حصل لكثير من الناس في هذه السنوات القليلة الأخيرة، وتأملت في أسبابه وفي إعراضهم عن المواعظ في كثير من الأحيان، فإنك تجد ذلك عند التأمل -والله تعالى أعلم- يرجع إلى أسباب منها -والله أعلم: الإكثار حتى صار الشيء مبذولًا، يعني: قديمًا قبل سنين لربما ينتظر الناس متى تأتي محاضرة في السنة، وأين توجد المحاضرة؟ في الجامعات، هذا سنة ١٣٩٨، ١٣٩٩، ١٤٠٠ ه، وقبله وبعده الناس ينتظرون متى تأتي محاضرة، وفي الجامعات يذهب إليها الشباب الذين منّ الله عليهم بالهداية، بقية الناس بعيد عنهم هذا، ما يصلون إليه، والخطباء في أغلبهم عوام، في بعض المناطق لا يحسن أحدهم الخطابة، ولربما يقرأ من كتب قديمة جدًّا ولا يحسن القراءة، وإذا تلكأ أو تتعتع مال بالحرف، ولاك الكلمة بطريقة لا يظهر فيها هذا اللحن الفاحش، أو الخطأ الفادح حيث غيرها بالكلية، فتجد الناس يتعطشون، ينتظرون، فإذا جاء أحد يعظ ويحسن الوعظ أو نحو ذلك امتلأ المسجد حتى ضاق بالناس، ما يكون للناس مكان، وينتظرون هذا ويستعدون له، وقد أدركت بعض الندوات وبعض المحاضرات يذهب الناس بعد صلاة العصر مباشرة بل من الظهر يحجزون المقاعد، هذا شيء رأيته بنفسه سنة ١٤٠١، ١٤٠٢ هـ، الناس يأتون من قبل العصر لحجز الأماكن للمحاضرة التي تكون في المساء أو الندوة، وهم يتحدثون عنها مدة طويلة قبلُ، ثم بعدها هي حديث الناس، ورأيت القاعات تمتلئ في بعض الجامعات، القاعة الأصلية الكبيرة والقاعة الأخرى الاحتياطية، والممرات والساحة في أيام الشتاء شديدة البرد والناس يجلسون، ورأيت بعضهم يجلس على أشواك، لا يوجد مكان جيد للجلوس، وحِرْص، لكن الآن أصبحت المادة مبذولة بكثرة، صار فيه إشباع، فتجد خطبًا كثيرة جدًّا في مواقع في الإنترنت، فيه مواقع للخطباء، وفيه مواقع للخطب، فيه مواقع للصوتيات، وفيه خطب مكتوبة، وتجد ما تريد بمجرد جهد بسيط في البحث تجد، وهذه نعمة لكن النعمة أحيانًا قد تورث عند بعض الناس شيئًا من التشبع، فيحصل لهم زهد فيها، مثل الطعام والشرب إذا كثر، والغنى، الناس في القديم كانوا يجدون تمرة يأكلونها، وإذا وجدوها لا تسأل عن حالهم من فرح، الطفل تعطيه تمرة كيف يكون فرحه بها؟! هذا معروف، لكن الآن لما صارت النعم مبذولة عند الناس، عند الصغير والكبير، أصبح الناس ينظرون إليها ولا تتوق نفوسهم لها، تجد أغنياء عندهم ما لذ وطاب في بيوتهم، ومع ذلك لا يكاد الواحد منهم يأكل شيئًا؛ لأن  نفسه لا تطلبه، هذا موجود وحاصل ونشاهده، فالشيء المبذول يحصل فيه زهد عند الناس، فكثر ذلك جدًّا، فصار ذلك سببًا للزهد، تجد الرجل أحيانًا دورة علمية، يقول: أنا أسمعها بالإنترنت، ويجلس عند الإنترنت، ويشغل الجهاز ثم يقول: هذا البث الآن هناك محاضرات ثانية، وهناك دورات ثانية في الرياض، في جدة، في كذا، سأفتح هذا قليلًا أرى، وأفتح الثاني قليلًا أرى، دعني أفتح الثالث قليلًا أرى، وبعد ذلك يذهب ويأتي بشاهي، ثم يتمدد، وبعد ذلك يرد على التلفون، وبعد ذلك هو يتصل، وبعده يرسل رسالة، وبعده يحصل انقطاع في البث، ثم يعاود المحاولة، وإذا نظرت ما الذي يبقى له من هذا الدرس أو هذه المحاضرة؟ شيء يسير، ما الذي زهده في الحضور؟

 

الآن دورات كثيرة جدًّا في موقع البث مثلًا، وهو يتخير ما شاء، لكن حينما كان الناس لا يجدون شيئًا يتعطشون، وقد رأيت مجلسًا لبعض أهل العلم ازدحم الناس فيه ازدحامًا شديدًا حتى تأذوا بالجلوس، تثنّت أرجل بعض من حضر وصعب عليهم المقام، وهم في غاية الزحام، لكن إذا كثر ذلك عليهم زهدوا فيه، ولذلك تجد الناس جيران العالم هم أزهد الناس فيه، هذا العالم الذي ازدحم الناس عليه واكتظ الناس به جيرانه لربما لا يحضرون شيئًا إطلاقًا من دروسه، بل لربما يرونه يدخل ويخرج في المسجد معهم بحيهم ولم يسأله أحدهم في عمره ولو مرة، هذا مشاهد، وآخرون يتمنون مجرد رؤيته، فالشيء المبذول يزهد فيه الناس، والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

[١] صحيح البخاري: (٧٠)، مسلم: (٢٨٢١).

[٢] أخرجه مالك: في الموطأ، برقم (٩١٨)، والآجري: في الشريعة، برقم (١١٦)، والدارمي: في سننه، برقم (٣١٢).


الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين

اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم

تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

تعليقات

عدد التعليقات : 0