شرح حديث/ البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك - الأربعين النووية
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث/ البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك
الحديث السابع والعشرون: تعريف البر والإثم.
عن النّوَّاسِ بْنِ
سَمْعَانَ -رضي
الله عنهما-
عن النَّبي ﷺ قَالَ: «الْبِرُّ
حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حاكَ في نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ
عَلَيْهِ النَّاسُ»
رواه مسلم [١].
وعن
وَابصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رضي الله عنه- قالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «جِئْتَ
تَسأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمُ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ،
قَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ
وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ الْقَلْب، وَالإِثْمُ مَا حاكَ في النَّفْسِ وَتَردَّدَ في
الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النّاسُ وَأَفْتَوْكَ» [٢]، حَدِيثٌ حَسَنٌ،
رُوِيْنَاهُ في مُسْنَدَي الإِمامَيْنِ: أَحمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ، وَالدَّارِميِّ
بإسْنَادٍ حَسَنٍ.
الشرح:
قوله:
«البر» أي: الذي ذكره الله تعالى في القرآن، فقال: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: ٢]، والبر كلمة تدل على كثرة
الخير.
قوله:
«حسن الخلق» أي: حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله، فأما حسن الخلق مع
الله فان تتلقى أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا
تضيق بها ذرعا، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا
بصدر منشرح. وأيضا حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية، فالإنسان ليس دائما
مسرورا حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه، والذي قدر
ذلك هو الله -عز وجل- فتكون حسن الخلق مع الله، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت
عنه.
أما
حسن الخلق مع الناس: فقد سبق أنه بذل الندى، وكف الأذى، والصبر على الأذى، وطلاقة
الوجه.
وهذا
هو البر والمراد به البر المطلق، وهناك بر خاص كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان
إليهما بالمال والبدن والجاه وسائر الإحسان.
وهل
يدخل بر الوالدين في قوله (حسن الخلق)؟
فالجواب:
نعم يدخل؛ لأن بر الوالدين لا شك أنه خلق حسن محمود كل أحد يحمد فاعله عليه.
قوله:
«والإثم» هو ضد البر؛ لأن الله تعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
[المائدة: ٢]، فما هو الإثم؟ «الإثم ما حاك في نفسك» أي: تردد وصرت منه في قلق
«وكرهت أن يطلع عليه الناس»؛ لأنه محل ذم وعيب، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع
الناس عليك وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما، فهذا هو الذي يحوك في
نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس.
أما
المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما
يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه
سليما طاهرا نقيا؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا
يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا ضابط وليس بقاعدة، أي: علامة على الإثم في قلب
المؤمن.
من
فوائد الحديث:
١-
أن النبي ﷺ أعطي جوامع الكلم، يتكلم بالكلام
اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله «البر حسن الخلق» كلمة جامعة مانعة.
٢-
الحث على حسن الخلق، وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر.
فإن
قال قائل: وهل البر ينافي الغضب لله عز وجل؟ يعني: لو غضبت على إنسان وشددت عليه
فهل ذلك ينافي البر وحسن الخلق؟
الجواب:
إن ذلك لا ينافي حسن الخلق، بل هذا من حسن الخلق؛ لأن المقصود به التربية
والتوجيه، فهو من حسن الخلق؛ ولهذا كان النبي ﷺ
لا ينتقم لنفسه؛ لكن إذا انتهكت محارم الله -عز وجل- كان أشد الناس فيها [٣].
٣-
إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم بل يتردد
فيه لقوله «والإثم ما حاك في نفسك»، وهو يخاطب النواس بن سمعان وأمثاله، وموقف
الإنسان إذا حاك في نفسه شيء
هل
هو إثم أو غير إثم أن يدع هذا حتى يتبين لقوله ﷺ:
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» [٤]، ولا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في
الشبهات فقد وقع في الحرام [٥]، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.
٤-
إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله: «وكرهت أن يطلع عليه الناس»،
أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر
ويفاخر بالمعصية كما يوجد في الفسقة الذين يذهبون إلى بلاد كلها فجور وخمور ثم
يأتي مفتخرا فيتحدث أنه فجر بكم امرأة، وأنه شرب كمْ كأسا من الخمر فتكون السيئة
عنده حسنة، ويكون مستهترا بأحكام الله عز وجل، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛
لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله عز وجل، يأتي يتبجح بما وصفه الله بأنه فاحشة
كالزنى ويأتي يتبجح بشرب من لعن النبي ﷺ شاربه
فأين الدين وأين الإيمان. وإذا عومل مثل هذا بما يستحق ارتدع كثير من الناس عن مثل
هذه الأمور. والله المستعان.
وأما
الحديث الآخر: وعن وابصة الأسدي قال: أتيت رسول الله ﷺ
وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين
يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله ﷺ قلت: دعوني فأدنوا منه، فإنه أحب الناس إلى أن
أدنو منه قال: «دعوا وابصة، أدن يا وابصة» مرتين أو ثلاثا قال: فدنوت منه حتى قعدت
بين يديه فقال: «يا وابصة أخبرك أو تسألني؟» قلت: لا، بل أخبرني فقال: «جئت تسأل
عن البر والإثم؟» فقال: نعم؛ فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: «يا وابصة
استفت قلبك؛ واستفت نفسك» ثلاث مرات «البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في
النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك» [٦].
قوله:
«جئت تسأل عن البر» قلت: نعم. هذه جملة خبرية في ظاهرها ولكنها استفهامية في
معناها فمعنى «جئت تسأل عن البر»، يعني: أجئت تسأل عن البر؟
والجملة
الخبرية تأتي بمعني الاستفهام كثيرا، قال الله عز وجل: {أَمِ
اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: ٢١] فجمله
{هُمْ يُنْشِرُونَ} جملة استفهامية حذفت منها
همزة الاستفهام والتقدير: أهم ينشرون حتى يتخذوهم آلهة ولهذا ينبغي للقارئ ألا يصل
قوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ} بقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}.
يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ}
{هُمْ يُنْشِرُونَ} حتى يتبين المعنى؛ لأنك لو
وصلت لظن السامع أنها صفة لـ: آلهة.
فإن
قال قائل: كيف وقع في قلب النبي ﷺ أن هذا
الرجل جاء يسأل عن البر؟
فالجواب:
قضايا الأعيان لا يسأل عنها، هذه قضية عين يحتمل أن النبي ﷺ بلغه أن وابصة -رضي الله عنه- يسأل عن البر، فلما أتى إليه قال
له: «أجئت تسأل عن البر» ويحتمل أن هذا من فراسة النبي ﷺ
فالمهم: أن قضايا الأعيان يصعب جدا أن يدرك الإنسان أسبابها.
(قلت
نعم «قال: استفت قلبك») أي: اسأل والاستفتاء طلب الإفتاء وهو بمعنى الخبر؛ لأن الإفتاء
إخبار عن حكم شرعي فأحاله النبي ﷺ على قلبه.
«البر
ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس» اطمأن، يعني: استقر. ومنه الحديث: «اركع
حتى تطمئن راكعا» [٧]، أي تستقر فما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به، واطمأنت
إليه النفس أيضا لا تحدثك نفسك بالخروج عنه فهذا هو البر، ولكن لمن قلبه سليم
ونيته صادقة. أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر، ولا تطمئن إليه نفسه، ولهذا
تجده إذا شرع في البر يضيق ذرعا ويسرع هربا حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه
وتطمئن نفسه إلى البر.
«والإثم
ما حاك في النفس»، أي: تردد فيها «وتردد في الصدر»، يعني: في القلب؛ لأنه قال:
«البر ما اطمأنت إليه نفسك واطمأن إليه القلب».
«وإن
أفتاك الناس وأفتوك» هذا من باب التوكيد، يعني: حتى لو أفتاك، وأفتاك، وأفتاك فلا
ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك لم يطمئن ولم يستقر فلا تلتفت للفتوى.
من
فوائد الحديث:
١-
حسن خلق النبي ﷺ حيث يتقدم للسائل بما في نفسه
ليستريح ويطمئن لقوله: «جئت تسأل عن البر؟».
٢-
جواز حذف همزة الاستفهام إذا دل عليها الدليل، لكن هذا ليس حكما شرعيا إنما هو حكم
لغوي.
٣-
أن (نعم) جواب لإثبات ما سئل عنه فقول وابصة -رضي الله عنه- (نعم) أي: جئت أسأل عن
البر؛ ولهذا لو أجاب الإنسان بها من سأله عن شيء فمعناها إثبات ذلك الشيء.
٤-
جواز الرجوع إلى القلب والنفس، لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن
استقام دينه؛ فإن الله -عز وجل- يؤيد من علم الله منه صدق النية.
٥-
أن الصوفية وأشباههم استدلوا بهذا الحديث على أن الذوق دليل شرعي يرجع إليه؛ لأنه
قال: «استفت قلبك» فما وافق عليه القلب فهو بر.
فيقال:
هذا لا يمكن؛ لأن الله تعالى أنكر على من شرعوا دينا لم يأذن به الله، ولا يمكن أن
يكون ما أنكره الله حقا أبدا. ثم إن الخطاب هنا لرجل صحابي حريص على تطبيق الشريعة
فمثل هذا يؤيده الله -عز وجل- ويهدي قلبه حتى لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله
-عز وجل-.
٦-
أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه تردد؛ فإن كثيرا من
الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن
يسأل عالما آخر؟
الجواب:
نعم. بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول.
٧-
أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس؛ لأن الناس قد يشتهر
عندهم شيء ويفتون به وليس بحق، فالمدار على الأدلة الشرعية. والله الموفق.
[١]
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: تفسير البر والإثم (٢٥٥٣٩)، (١٤).
[٢]
أخرجه الإمام أحمد في المسند (٤/٢٨٨)، والدارمي (٢/٢٤٥-٢٤٦)، وأبو يعلى (١٥٨٦،١٨٥٧).
[٣]
أخرجه مسلم: كتاب الفضائل، باب: مباعدته ﷺ
للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، (٢٣٢٧)، (٢٠).
[٤]
أخرجه النسائي: كتاب الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهة، (٥٧١١)، والترمذي: كتاب
صفة القيامة، باب، (٢٥١٨)، والإمام أحمد: في مسند المكثرين عن أنس بن مالك،
(١٢٥٧٨).
[٥]
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، (٥٢)، ومسلم: كتاب المساقاة،
باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (١٥٩٩)، (١٠٧).
[٦]
رواه أحمد (١٧٣٢٠)، و (١٧٣١٥) بلفظ: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه
النفس". والدارمي: كتاب البيوع، باب: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، (٢٤٣٨).
[٧]
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (٧٥٧)، ومسلم: كتاب
الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه
تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، (٣٩٧)، (٤٥).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح
الأعمال
ليست هناك تعليقات: