شرح حديث (بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي) - فذكر
باب
الحلم والأناة والرفق
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح
حديث (بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي) – فذكر
أحاديث
رياض الصالحين: باب الحلم والأناة والرفق
٦٤١ - وعن أبي هريرة -رضي الله عنهُ- قَالَ: بَال
أَعْرَابيٌّ في المسجِد، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْه لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ
النبيُّ ﷺ:
«دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ
مَاءٍ، أَوْ ذَنُوباً مِن مَاءٍ، فَإِنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرِينَ ولَمْ
تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» رواه البخاري.
"السَّجْلُ"
بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: وَهِيَ الدُّلوُ المُمْتَلِئَةُ ماء، كَذلِكَ
الذَّنُوبُ.
الشَّرْحُ:
ساق
المؤلف -رحمه الله- في باب الحلم والأناة والرفق في كتابه رياض الصالحين، حديث أبي
هريرة -رضي الله عنه- أن أعرابيًا بال في المسجد.
أعرابي
يعني: بدوي؛ والبدوي في الغالب لا يعرف أحكام الشرع؛ لأنه يعيش في البادية في إبله
أو في غنمه، وليس له علم بشريعة الله، كما قال الله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا
يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: ٩٧]،
يعني: أقرب الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لأنهم في باديتهم بعيدون عن
الناس وعن العلم والشرع.
هذا
الأعرابي دخل المسجد واحتاج إلى أن يبول، فبال في طائفة المسجد، أي: تنحى وبال في
المسجد، فهمّ الناس به أن يقعوا فيه وزجروه، ولكن النبي ﷺ قال: لهم: «دعوه» دعوه يقضي بوله، «وأريقوا
على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»
فتركه الناس.
فلما
قضى بوله صبّوا عليه ذنوبًا من الماء، يعني: دلوًا من الماء، فطهر المحل، وزال
المحذور، ثم دعا بالأعرابي وقال له: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من
الأذى أو القذر، وإنما هي للصلاة وقراءة القرآن، والتكبير" أو كما قال الرسول
ﷺ.
ففي
هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها:
العذر بالجهل، وأن الإنسان الجاهل لا يعامل كما يعامل العالم؛ لأن العالم معاند،
والجاهل متطلع للعلم فيعذر بجهله، ولهذا عذره النبي ﷺ ورفق به.
ومنها:
أن الشرع يقتضي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، يعني: إذا كان هناك مفسدتان ولا بدّ
من ارتكاب أحدهما؛ فإن يرتكب الأسهل.
فهنا
أمامنا مفسدتان:
الأولى:
استمرار هذا الأعرابي في بوله، وهذه مفسدة.
والثانية:
إقامته من بوله، وهذه مفسدة أيضًا، لكن هذه أكبر؛ لأن هذه يترتب عليها.
أولًا:
الضرر على هذا البائل؛ لأن البائل إذا منع البول المتهيئ للخروج ففي ذلك ضرر،
فربما تتأثر مجاري البول ومسالك البول.
ثانيًا:
أنه إذا قام فإما أن يقطع رافعًا ثوبه؛ لئلا تصيبه قطرات البول، وحينئذٍ تكون
القطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس
وفي المسجد، وإما أن يدلي ثوبه، وحينئذٍ يتلوث الثوب ويتلوث البدن وهذه أيضًا
مفسدة.
فلهذا
ترك النبي ﷺ
هذا الرجل يبول حتى انتهى، ثم أمر بأن يصب عليه ذنوبًا من ماء.
وعلى
هذا فيكون لدينا قاعدة: إذا اجتمعت مفسدتان لا بدَّ من ارتكاب إحداهما، فإنه يرتكب
الأسهل والأخف، دفعًا للأعلى، كما إنه إذا اجتمعت مصالح ولا يمكن فعل جميعها، فإنه
يؤخذ بالأعلى فالأعلى، ففي المصالح يقدم الأعلى، وفي المفاسد يقدم الأسهل والأدنى.
ومن
فوائد هذا الحديث:
وجوب
تطهير المسجد وأنه فرض كفاية؛ لقول الرسول ﷺ: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء» فيجب على من رأى
نجاسة في المسجد أن يطهرها بنفسه، أو يبلغ من هو معني بالمسجد ومسؤول عنه حتى يقوم
بتطهيرها.
ومنها:
اشتراط طهارة مكان المصّلي، فالمصلّي يجب عليه أن يطهر ثوبه وبدنه ومكان صلاته، لا
بدَّ من ذلك سواءً كانت أرضًا أو فراشًا أو غير ذلك، المهم أنه لا بدَّ من طهارة
مكان المصلي.
ومنها:
أن الأرض يكفي في تطهيرها أن يصب على النجاسة ماء مرة واحدة، فإذا عمرت بالماء
طهرت، لكن إن كانت النجاسة ذات جرم كالغائط والروث وما أشبهها؛ فلابد من زوال هذا
الجرم، وبعدها يطهر المحل بصب ماءٍ عليه.
ومنها:
أنه لا بدَّ من الماء في تطهير النجاسة؛ لقوله: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء»
وأن النجاسة لا تطهر بغير الماء، وهذا ما عليه أكثر العلماء.
والصحيح
أن النجاسة تطهر بكل ما يزيلها من ماء أو بنزين، أو غيره، وإنما أمر النبي ﷺ بصب الماء على مكان
البول؛ لأنه أسرع في تطهير المكان، وإلا فمن الممكن أن يبقى المكان لا يصب عليه
الماء، ثم مع الرياح والشمس تزول النجاسة ويطهر، لكن هذا أسرع وأسهل. ومن المعلوم
أنه في عهد الرسول ﷺ
لا توجد هذه المزيلات الكيماوية أو البترولية، فلذلك كانوا يعتمدون في إزالة
النجاسة على الماء، ولكن متى زالت النجاسة طهر المحل بأي مزيل كان؛ لأن النجاسة
عين خبيثة نجسة، متى زالت عاد المحل إلى طهارته بأي شيءٍ كان.
ولهذا
يطهر البول والغائط بالأحجار؛ يستجمر الإنسان بالحجر ثلاث مرات مع الإنقاء ويكفي.
وثوب
المرأة الذي تجره إذا مر بالنجاسة ثم مر بعد ذلك بأرض طاهرة طهرته، وكان من عادة
النساء في عهد الرسول ﷺ
أن المرأة إذا خرجت واتخذت ثوبًا ضافيًا يستر قدميها، وينجر من ورائها إلى شبر أو
شبرين أن ذراع، ولكن لا يزيد على ذراع. هذا في عهد الرسول ﷺ، عهد النساء الطاهرات
في الزمن الطاهر، فما بالك اليوم؟
لكن
مع الأسف أن المسلمين اليوم لا ينظرون إلى من سلف من هذه الأمة، ولكنهم ينظرون إلى
من تأخر من هذه الأمة؛ إلى الخلف الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: ٥٩].
أصبحنا
ننظر الآن إلى من خلف بل ننظر إلى ما دون ذلك؛ ننظر إلى أعدائنا؛ إلى اليهود
والنصارى والمجوس والوثنيين وما أشبه ذلك، فنقتدي بهم في مثل هذه الالبسة، فترى
النساء الآن كلما جاءت المجلة التي يسمونها البردة، ذهبن ينظرن إليها، ثم تذهب
المرأة وتفعل مثل ما فعلوا.
وأقول:
يجب على أولياء الأمور أن يمنعوا من تداول هذه المجلات، وهذه البردات بين أيدي
النساء؛ لأن المرأة ضعيفة؛ ضعيفة العقل وضعيفة الدين كما وصفها بهذا الرسول ﷺ: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من
إحداكن» فتغتر وتنخدع بهذه المظاهر.
وكثيرٌ
من الرجال مع الأسف الشديد هم رجال في ثياب رجال وإلا فهم نساء، التدبير للنساء
عليهم، وهن القوامات عليهم، عكس ما أمر الله: {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: ٣٤]، لكن أصبح الآن في كثير من
الناس النساء قوامات على الرجال، هي التي تدبر الرجل، وهي التي تلبس ما شاءت،
وتفعل ما شاءت، ولا تبالي بزوجها ولا بوليها.
فالواجب
على الأولياء أن يمنعوا من تداول هذه المجلات التي تأتينا بهذه الأزياء البعيدة عن
الزي الإسلامي، فالنساء في عهد الرسول ﷺ إذا خرجن إلى السوق
لبسن ثيابًا طويلة حتى لا تبدو أقدامهن.
وأما
في البيوت فكما يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: المرأة في بيتها في عهد
الرسول عليها لباس يستر من كف اليد إلى كعب الرجل، وهي في البيت، ليس عندها إلا
النساء أو رجال محارم، ومع ذلك تتستر من الكف إلى الكعب، كلها متسترة.
وبهذا
نعرف فساد تصور من تصور قول الرسول ﷺ: «لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة» أن المرأة يجوز لها
أن تقتصر في لباسها على لباسٍ يستر ما بين السرة والركبة، يردن أن تخرج المرأة
كاشفة كل بدنها إلا ما بين السرة والركبة، فمن قال هذا؟
إن
الرسول ﷺ
يخاطب الناظرة لا اللابسة يقول: «لا تنظر المرأة إلى
عورة المرأة»، يعني: ربما تكون اللابسة قد كشفت ثوبها لقضاء حاجة من بول أو
غائط، فيقول لا تنظر لعورتها، لم يقل الرسول ﷺ للمرأة أن تلبس ما
يستر ما بين السرة والركبة فقط، من توهّم هذا فإنه من وحي الشيطان، ولننطر كيف
كانت النساء في عهد الرسول ﷺ
تلبس الثياب.
لذلك
يجب أن نصَّحح هذا المفهوم الذي تدندن به كل امرأة ليس عندها فهم، وليس عندها نظر
لمن سبق، نقول لها: هل تظنين أن الشرع الإسلامي يبيح للمرأة أن تخرج بين النساء
ليس عليها إلا سروال قصير يستر ما بين السرة والركبة، فمن قال إن هذا هو الشرع
الإسلامي؟ ومن قال إن هذا هو معنى قول رسول الله ﷺ: «لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة» من قال هذا؟
والرسول
ﷺ
لم قال: «ولا الرجل إلى عورة الرجل» ومع ذلك كان
الرجال في عهده يلبسون رداءً وإزارًا، ويلبسون قميصًا، ولا يلبسون إزارًا فقط.
حتى
إن الرجل الفقير الذي طلب من النبي ﷺ أن يزوجه المرأة التي
وهبت نفسها للرسول ولم يردها، قال: زوجنيها، قال: «ما
معك من صداق» قال: إزاري، لأنه فقير، كيف يكون الإزار مهرًا للمرأة إن
أعطيتها أياه بقيت بلا إزار، وإن بقي عليك بقيت بلا مهر؟ «ارجع فالتمس ولو خاتمًا من حديد» ولكنه لم يجد. فلم يكونوا - وهم
الرجال- يقتصرون على ما بين السرة والركبة أبدًا.
والحاصل
أن العلم يحتاج إلى فقه، ويحتاج إلى نظر في حال الصحابة -رضي الله عنهم- كيف فهموا
النصوص فنطبقها، حتى دول الغرب الكافرة الآن أكثرهم يلبس ما يستر الصدر والفخذين،
ولم يفهم أحد من هذا الحديث أن المعنى للمرأة أن تبقى مكشوفة البدن إلا ما بين
السرة والركبة، ما فهم هذا أحدٌ أبدًا.
فالحاصل
أن الرسول ﷺ
جعل ذيل المرأة –أي: طرف ثوبها الذي يمشي على الأرض- إذا التقى بنجاسة ثم مرت على
أرض طاهرة فإن الطاهر يطهره، فدل ذلك على أن النجاسة تطهر بكل ما يزيلها من ماء
وغيره.
ومن
فوائد حديث الأعرابي: حسن خلق الرسول ﷺ، وتعليمه، ورفقه، وأن
هذا هو الذي ينبغي لنا إذا دعونا إلى الله، أو أمرنا بمعروف، أو نهينا عن منكر أن
نرفق؛ لأن الرفق يحصل به الخير، والعنف يحصل به الشر، ربما إذا عنفت أن يحصل من
قبيلك ما يسمونه برد الفعل ولا يقبل منك شيئا، يرد الشرع من أجلك، لكن إذا رفقت
وتأنيت فهذا هو الأقرب إلى الإجابة.
ومنها:
أن الرسول ﷺ
جعل هذه الأمة مبعوثة، فقال: «فإنما بعثتم» مع
أن المبعوث هو، لكن أمته يجب أن تقوم مقامه في الدعوة إلى دينه ﷺ، وأن يكون الإنسان
كأنه المبعوث وكأنه الرسول في تبليغ الشرع، ولهذا قال الرسول ﷺ: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» فنحن أمة محمد ﷺ علينا أن نبلغ شرعه
إلى جميع الناس، ولهذا قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم
تبعثوا معسرين».
وفي
هذا الحديث أن الرسول ﷺ
لما كلم الأعرابي بهذا اللطف واللين، وقال: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيءٌ من
الأذى والقذر، قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، انظر كيف
انشرح صدره بكلام محمد ﷺ.
أما
الجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- لما أغضبوه وانتهروه -وهو أعرابي لا يعرف- رأى
أن الجنة والرحمة تكون له ولمحمد، وغيرهما لا يرحمون، وليته قال: اللهم ارحمني
ومحمدًا وسكت، بل قال: ولا ترحم معنا أحدًا، فتحجر الرحمة، لكنه جاهل، والجاهل له
حكمه.
فالحاصل
أن الإنسان ينبغي له أن يرفق في الدعوة، وفي الأمر، وفي النهي. وجربوا وانظروا
أيهما أصلح، ونحن نعلم علم اليقين أن الاصلح هو الرفق؛ لأن هذا هو الذي قاله
الرسول ﷺ،
وهو الذي أتبعه في هديه ﷺ،
والله الموفق.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
شرح حديث (بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي) - فذكر
Reviewed by احمد خليل
on
1:43:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: