باب الوالي العادل
أحاديث رياض الصالحين: باب الوالي العادل.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ} [النحل: ٩٠].
وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: ٩].
٦٦٤- وعن أبي هُريرة رضي الله عنه، عن
النَّبيِّ ﷺ قَالَ: «سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عادِلٌ،
وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ورَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلبُهُ في
المَسَاجِدِ، ورجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمعَا عليهِ، وتَفرَّقَا علَيهِ، ورجُلٌ
دعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِبٍ وجمَالٍ، فقَال: إنِّي أَخَافُ اللَّه، ورَجُلٌ
تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ
يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» [١]
متفقٌ عليه.
٦٦٥- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ المُقْسِطينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلى مَنابِرَ مِنْ نورٍ:
الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْليهِمْ وما وُلُّوا» [٢] رواه
مسلم.
الشرح:
قال النووي رحمه الله تعالى، في كتاب (رياض
الصالحين) في باب الوالي العادل.
والوالي هو: الذي يتولى أمرًا من أمور
المسلمين الخاصة أو العامة، حتى الرجل في أهل بيته يُعتبر واليًا عليهم؛ لقول
النبي ﷺ: «والرجلُ
راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم» [٣]، والعدل واجب حتى في معاملة
الإنسان نفسه؛ لقول النبي ﷺ: «إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، ولِضَيْفِكَ
عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا؛ فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ»
[٤].
فالعدل واجبٌ في كل شيء، لكنه في حق ولاة
الأمور أوكد وأولى وأعظم؛ لأن خلاف العدل إذا وقع من ولاة الأمور؛ حصلت الفوضى والكراهة
لولي الأمر حيث لم يعدل.
ولكن موقفنا نحو الإمام الوالي الذي لم
يعدل أو ليس بعادل أن نصبر؛ نصبر على ظلمه، وعلى جوره، وعلى استئثاره، حتى إن رسول
الله ﷺ أوصى الأنصار رضي الله عنهم،
وقال لهم: «إنكم سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً»
يعني: استئثارًا عليكم: «فَاصْبِرُوا حتَّى
تَلْقَوْنِي علَى الحَوْضِ» [٥]؛ ذلك لأن منازعة ولي الأمر يحصل بها الشر
والفساد الذي هو أعظم من جوره وظلمه، ومعلوم أن العقل والشرع ينهى عن ارتكاب أشد
الضررين، ويأمر بارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بدَّ من ارتكاب أحدهما.
ثم ساق المؤلف رحمه الله، آيات وأحاديث
منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ} [النحل: ٩٠]، العدل واجب والإحسان
فضل وزيادة فهو سنة، وحسبته أن يذكر قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩]، وقوله: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ٥٨].
فالعدل من الوالي ألا يفرق بين الناس،
ولا يجور على أحد، ولا يحابي غنيًا لغناه، ولا قريبًا لقرابته، ولا فقيرًا لفقره،
ولكن يحكم بالعدل، حتى إن العلماء رحمهم الله، قالوا: يجب على القاضي أن يستعمل
العدل مع الخصمين، ولو كان أحدهما كافرًا؛ يعني: لو دخل كافر ومسلم على القاضي؛
فإن الواجب أن يعدل بينهما في الجلوس والكلام والملاحظة بالعين وغير ذلك؛ لأن
المقام مقام حكم يجب فيه العدل، وإن كان بعض الجهال يقول: لا، قدّم المسلم. نقول:
لا يجوز أن نقدم المسلم؛ لأن المقام مقام محاكمة ومعادلة، فلا بد من العدل في كل
شيء.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن
النبي ﷺ قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ
اللَّهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» سبعة يظلهم الله، وليس هذا على
سبيل الحصر، هناك أناس آخرون يظلهم الله غير هؤلاء، وقد جمعهم الحافظ ابن حجر في
شرح البخاري فزادوا على العشرين. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام، يتحدث أحيانًا
بما يناسب المقام، فتجده يقول: سبعة، ثلاثة، أربعة، أو ما أشبه ذلك، مع أن هناك
أشياء أخرى لم يذكرها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام، أفصح الخلق وأقواهم بلاغة فيتحدث
بما يناسب المقام.
وقوله: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في
ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» وذلك يوم القيامة؛ لأنه في يوم القيامة ليس
هناك شجر، ولا بناء، ولا جبال، ولا ثياب، ولا غير ذلك، حتى الناس يحشرون حفاة عراة
غرلًا ليس هناك ظل إلا ظل الله، أي: ظل يخلقه الله عزَّ وجلَّ، يظلل من يظلهم الله
تعالى، في ذلك اليوم؛ لأنه ليس هناك ظل بناء، ولا ظل شجر، ولا ظل ثياب، ولا ظل
مصنوعات أبدًا، ليس هناك إلا الظل الذي ييسره الله تعالى للإنسان، يخلق جَلَّ وَعَلاَ،
ظلًا من عنده، والله أعمل بكيفيته، ويظلل الإنسان.
الأول: إمام عادل: بدأ بالإمام العادل الذي
يعدل بين الناس، وأهم عدل في الإمام أن يحكم بين الناس بشريعة الله؛ لأن شريعة
الله هي العدل، وأما من حكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة؛ فهو من أشد
الولاة جورًا -والعياذ بالله- وأبعد الناس من أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله؛ لأنه ليس من العدل أن تحكم بين عباد الله بشريعة غير شريعة الله، من جعل لك
هذا؟ احكم بين الناس بشريعة ربهم عزَّ وجلَّ، فأعظم ما يدخل في ذلك أن يحكم الإمام
بشريعة الله.
ومن ذلك أن يقتص الحق حتى من نفسه ومن
أقرب الناس إليه؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}
[النساء: ١٣٥]، ومن ذلك أيضًا: ألا يفرق بين قريبه وغيره، فتجده إذا كان الحق على
القريب تهاون في تنفيذه وجعل يسوف ويؤخر، وإذا كان لقريبه على غيره بادر فاقتص
منه. فإن هذا ليس من العدل، والعدل في ولي الأمر له فروع كثيرة وأنواع كثيرة لا
يتسع المقام الآن لذكرها، فنسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لأئمة عادلين يحكمون
فيهم بكتاب الله وبشريعته التي اختارها لعباده.
أما الثاني فهو: «شَابٌّ نَشَأَ في
عِبَادَةِ اللَّهِ»، الشاب صغير السن الذي نشأ في طاعة الله واستمر على ذلك، هذا
أيضًا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه ليس له صبوة، والغالب أن
الشاب يكون لهم صبوة وميل وانحراف، ولكن إذا كان هذا الشاب نشأ في طاعة الله، ولم
يكن له ميل ولا انحراف واستمر على هذا؛ فإن الله تعالى يظله في ظله يوم لا ظل
إلا ظله.
والثالث: «ورَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلبُهُ في المَسَاجِدِ»
يعني: أنه يألف الصلاة ويحبها وكلما فرغ من صلاة إذا هو يتطلع إلى صلاة أخرى،
فالمساجد أماكن السجود، سواء بُنيت للصلاة فينا أم لا، المهم أنه دائمًا يرغب
الصلاة قلبه معلق بها؛ كلما فرغ من صلاة تطلع للصلاة الأخرى.
وهذا يدل على قوة صلته بالله عزَّ وجلَّ؛
لأن الصلاة صله بين العبد وبين ربه، فإذا أحبها الإنسان وألفها فهذا يعني: أنه يحب
الصلة التي بينه وبين الله، فيكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والرابع: «ورجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه،
اجتَمعَا عليهِ، وتَفرَّقَا علَيهِ»، رجلان تحابا في الله، يعني: ليس بينهما صلة
من نسب أو غيره، ولكن تحابا في الله. كل واحد منهم رأى أن صاحبه ذو عبادة وطاعة
لله عزَّ وجلَّ، وقيام بما يجب لأهله ولمن له حق عليه، فرآه على هذه الحال فأحبه.
«اجتَمعَا عليهِ، وتَفرَّقَا علَيهِ»
يعني: اجتمعا عليه في الدنيا، وبقيا على ذلك إلى أن ماتا فتفرقا على
ذلك؛ هذان أيضًا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والخامس: «ورجُلٌ دعَتْهُ امْرَأَةٌ
ذَاتُ مَنصِبٍ وجمَالٍ»، يعني: دعته لنفسها لفجر بها، ولكنه كان قوي العفة، طاهر
العرض «قَال: إنِّي أَخَافُ اللَّه» فهو رجل ذو شهوة، والدعوة التي دعته إليها هذه
المرأة توجب أن يفعل؛ لأنها هي التي طلبته، والمكان خال ليس فيه أحد، ولكن منعه من
ذلك خوف الله عزَّ وجلَّ، قال: إني أخاف الله، لم يقل: أخشى أن يطلع علينا أحد،
ولم يقل إنه لا رغبة له في الجماع، ولكن قال: إني أخاف الله، فهذا يظله الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله لكمال عفته.
والسادس: «ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ،
فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ»، تصدق بصدقة
مخلصًا بذلك لله عزَّ وجلَّ، حتى انه لو كان أحدًا على يساره ما علم بذلك من شدة
الإخفاء فهذا عنده كمال الإخلاص، فيظله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهذا
ما لم يكون إظهار الصدقة فيه مصلحة وخير، فإذا كان في إظهار الصدقة مصلحة وخير كان
إظهارها أولى، لكن إذا لم يكن فيه مصلحة فالإسرار أولى.
والسابع: «ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ
خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» ذكر الله خاليًا في مكان لا يطلع عليه أحد، خاليًا
قلبه من التعلق بالدنيا، فخشع من ذلك وفاضت عيناه. هؤلاء السبعة يظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قد توجد صفتان فأكثر في شخص واحد، وقد لا يوجد في
الإنسان إلا صفة واحدة وهي كافية.
ثم ذكر المؤلف حديث عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال:
«إنَّ المُقْسِطينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلى مَنابِرَ مِنْ نورٍ: الَّذِينَ
يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْليهِمْ وما وُلُّوا» يعني: أن المقسطين العادلين
في أهليهم وفيمن ولاهم الله عليه، يكونون على منابر من نور يوم القيامة على يمين
الله عزَّ وجلَّ.
وهذا دليلٌ على فضل العدل في الأهل،
وكذلك في الأولاد، وكذلك أيضًا في كل من ولاك الله عليه، اعدل حتى تكون على منبر
من نور عن يمين الله عزَّ وجلَّ، يوم القيامة، والله الموفق.
[١] صحيح البخاري: (٦٦٠)، مسلم: (١٠٣١).
[٢] صحيح مسلم: (١٨٢٧).
[٣] أخرجه البخاري: (٢٥٥٤)، ومسلم:
(١٨٢٩)، وأبو داود: (٢٩٢٨)، والترمذي: (١٧٠٥)، والنسائي في (السنن الكبرى) (٩١٧٣)،
وأحمد: (٥١٦٧) واللفظ له.
[٤] صحيح البخاري: (١٩٦٨).
[٥] صحيح البخاري: (٣٧٩٢).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: