باب الورع وترك الشبهات
باب الورع وترك الشبهات
لفضيلة الدكتور خالد بن عثمان السبت
باب الورع وترك الشبهات
أحاديث رياض الصالحين: باب الورع
وترك الشبهات
قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
[النور: ١٥].
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: ١٤].
الشرح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من أبواب هذا الكتاب،
وهو باب "الورع وترك الشبهات".
والورع تكلمت عليه طويلاً في الأعمال
القلبية، وحقيقة الورع في أقرب ما قيل -وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه
الله: أنه ترك ما يخشى ضرره، أو ما قد يضر في الآخرة.
ويدخل في هذا المحرمات بلا ريب، فهذا
ورع واجب، فيتورع الإنسان من انتهاك محارم الله -تبارك وتعالى- الواضحة، يتورع من
أكل الميتة، الخنزير، شرب الخمر، شرب الدخان، إلى غير ذلك.
تقول: فلان لا يتورع من الحرام، لا
يتورع عن أكل الحرام، لا يتورع عن الربا، فهذا ورع واجب، وكذلك بفعل الواجبات، لا
يتورع فلان من ترك الصلاة.
وهناك ورع مستحب، وهو ترك ما يكون
مكروهاً، وفعل ما يكون مستحبًّا، فهذا ورع مستحب، يضاف إلى ذلك ما كان مشتبهاً لم
يتبين له تحريمه، فهل يجب عليه تركه؟
هنا يقال: يستحب له تركه.
الورع هو الترك، ترك ما اشتبه عليه،
ما قد يخشى ضرره في الآخرة، وهناك نوع من الورع ذكره بعض أهل العلم وهو الورع من
التوسع في المباحات الذي قد يفضي به إلى الوقوع في المشتبهات، أو في المحرمات.
من الناس من يوغل في المباح، حتى يصل
إلى آخر حد في المباح، فإذا توسع هذا التوسع فإن ذلك قد يوقعه فيما حرمه الله عزَّ
وجلَّ، هذا كله من الورع المستحب.
وبهذا نعرف الفرق بين الورع والزهد؛
إذ إن الزهد درجة أعلى من الورع، فإذا كان الورع يكون بترك -أو بفعل- ما يخشى أو
ما يضره في الآخرة أو يخشى ضرره في الآخرة، فالزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة،
ولا يمكن للإنسان أن يكون زاهداً حتى يكون ورعاً، لكن الإنسان قد يكون ورعاً ولا
يكون زاهداً.
الشيء المشتبه يتركه، يفعل الواجبات،
يترك المحرمات، ولكنه لا يترك ما لا ينفعه في الآخرة فيتوسع في المباحات، ولربما
يشغل كثيراً من أوقاته وأيامه وساعاته في أمور لا تنفعه في الآخرة، ولا تقربه إلى
الله عزَّ وجلَّ، كالمرأة مثلاً التي تعتني عناية كبيرة بالمكياج والزينة، وتقضي
أوقاتًا طويلة أمام المرآة ونحو ذلك، الزينة بالحد المعقول مطلوبة، والإهمال أمام
الزوج ونحو ذلك هذا أمر لا يحسن، ولا يجمل، ولكن إلى أي حد، بحيث يستحوذ هذا على
اهتماماتها؟!، فالزهد ترك ذلك.
فالزهد درجة عالية، لا يكون زاهداً
حتى يكون ورعاً.
والشبهات: هي الأمور لم يتبين له
وجهها، ما تبين له هل هذا حرام أو حلال، أو كان ذلك مما يقع عنده فيه شيء من
التردد واللبس والشك يحتمل أنه محرم، يحتمل، فمثل هذا يتورع منه، لكن هناك نوع من
الورع ينبغي أن يُعلم يمكن أن نطلق عليه الورع البارد، بمعنى أنه مذموم.
فالأشياء التي يتردد الإنسان فيها هل
هي محرمة، أو ليست محرمة النبي ﷺ قال: «الحلال
بيّن والحرام بيّن، وبينهما مُشبَّهات...»، فهذه المشبهات ما هي؟
قال: «فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي
يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه».
فهذا الإنسان الذي يقع في المشتبهات،
ولا يبالي فإنه يحوم حول الحرام، فقد تزل قدمه ويقع وهو لا يشعر، قد يكون هذا
الأمر المشتبه محرماً، فهذه الأشياء التي يحصل فيها التردد، ولهذا إن لم يستبن له
وجهه، لم يتبين له فيه شيء فهو هذا الذي قال فيه النبي ﷺ:
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وهذا الأمر
الذي لم يتضح له وجهه هو الذي قال فيه النبي ﷺ:
«الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس»،
وذكر البر وفسره بأنه ما اطمأنت إليه النفس.
فلاحظ هذا وهذا، «استفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك»، هذا متى
استفت قلبك؟ ليس فيما وردت فيه الأدلة التي تدل على تحريمه، أو تدل على إباحته، أو
تدل على وجوبه، وإنما يستفتي الإنسان قلبه في الأمور التي لم يتبين له وجهها، هذا
أفتاه بكذا، وهذا أفتاه بعكس ذلك وفي نفسه شيء، هو متردد، هو غير مستريح، هو لا
يريد أن الناس يطلعون على أنه واقَعَ هذا الشيء، في نفسه منه شيء، وإن وجد من
أفتاه بجوازه، لكن يوجد من يقول بتحريمه مثلاً، توجد أدلة قد تدل على الجواز،
وتوجد أدلة قد تدل على المنع والتحريم.
فهنا يقال: استفتِ قلبك، إذا كان
الإنسان لم يجد من يفتيه، وهو متردد، نقول: لا تقدم، أو أفتاه هذا بكذا وأفتاه هذا
بكذا، فليس له أن يميل مع ما يجذبه إليه الهوى، وإنما إذا بقي الإنسان في نفسه لم
يطمئن وتساوت عنده حجج هؤلاء، وحجج هؤلاء فإن الورع أن يترك هذا، فهذا هو الورع هو
ترك المشتبهات، وهذه هي المشتبهات.
الورع البارد ما هو؟ أن يتورع من شيء
دل الدليل على صحته مثلاً، أو يكون ذلك على سبيل المبالغة، أو في أمر لا يصلح
لمثله، مثل ما ذكر الإمام أحمد الرجل الذي استأذنه أن يضع القلم بالدواة التي
تخصه.
قديمًا كانوا يبرون عودًا ويكون هو
القلم، يضعونه في دواة بمحبرة ويكتبون، فهذا القلم أو العود إذا وضع في هذه
المحبرة ماذا عسى أن يخرج به من الحبر؟
فهذا طالب علم في مجلس الحديث يستأذن
الإمام أحمد يقول له: تأذن لي يعني أضع القلم بالدواة التي تخصك؟
فقال له الإمام أحمد: خذ، هذا ورع
بارد لا يصلح لمثلي ومثلك، يقوله تواضعاً، فالإنسان الذي ينتهك المحرمات الواضحة،
ويترك الواجبات ويقول: والله أنا متورع من وضع فيش الشاحن حق الجوال في المكتب أو
في المسجد.
نقول له: كم هللة يمكن أن تكون قيمة
هذا الشحن؟!، أنا متورع من مكالمة داخلية بهاتف المكتب، أو أن أكتب بقلم المكتب
رقم تليفون لإنسان يخصني ما له علاقة بالعمل، نقول له: هذا ورع صحيح لمن؟ للإنسان
الذي كمَّل الورع، ترك المحرمات، ويفعل الواجبات، وترك المكروهات، وما بقي عليه
إلا هذا، نقول: هذا ورع صحيح، لكن إنسان يفعل المحرمات، وينام عن صلاة الفجر إلى
وقت العمل، ولا يبالي، يخرج من نصف وقت العمل، ويدخل في نصف الوقت، ويضيع أوقاته،
ويترك العمل وجالس على شاشة الأسهم، أو نحو ذلك، ويقول: والله أنا متورع أكتب بقلم
المكتب، نقول له: هذا ورع بارد لا يصلح لمثلك.
ولهذا لما جاءت أخت بشر الحافي، وهو
من بيت أهل ورع في غاية الورع كانوا، فلما جاءت أخت بشر تسأل الإمام أحمد وكانت
تنسج -تغزل- عندها مغزل وتأكل من عمل يدها.
فقالت: هل نميز بين ما نغزله على ضوء
القمر، وما نغزله في الصباح، يعني: في النهار؟، فالإمام أحمد رأى أن هذا السؤال
فيه مبالغة وتعنت.
يعني: إذا جئنا نبيع نقول: هذا مغزول
على ضوء القمر، وهذا مغزول في النهار؟، فرأى أن هذا فيه تكلفًا، وذهبت.
أحياناً الإمام أحمد يقول: لم هذا
السؤال؟، ثم قال: من هي هذه؟ قالوا له: هذه أخت بشر، فدعاها وقال: هل يتفاوت
-يختلف-؟ قالت: نعم. الذي في النهار يكون أجود وأدق من الذي على ضوء القمر في
الليل.
فقال: لا، إذًا.
وفي بعض الروايات عنه أن قال: أنتِ
من أهل بيت لا يصلح لهم هذا، في مسألة مشابهة، فراعى حال هذه المرأة.
ولذلك لما ذُكر له عن بعض الزهاد أنه
حينما يشتري الصُّرة من البقل يشترط الخوصة -يعني التي تربط بها- هذا بعضهم يقول:
أنا اشتريت يعني البقل، تعرفون البقل مثل الكراث والرويد والجرجير، ونحو هذا وتربط
بخوصة، فبعضهم كان يشترط على البائع يقول: الخوصة هذه معها في البيعة، فالإمام
أحمد قال: ما هذه المسائل؟ يعني: هذا تكلف، ما قيمة الخوصة؟
ثم قيل: إن الذي يفعل ذلك هو فلان،
قال: إن كان ذاك فيصلح له هذا. إنسان كامل الورع.
رجل يأتي يسأل ابن عمر عن رجل
حمَّال، معه حزمة من -أعزكم الله- تبن أو نحو هذا، فجاء واحد وأخذ عودًا؟.
فقال: لو مر بأهل منى، وكل واحد أخذ
واحدة يبقى معه شيء؟ قال: لا.
وآخر كانت الجدران في الطين وفيها
-أعزكم الله- التبن مع الطين مخلوط فأخذ ليخلل أسنانه، فيسأل عن هذا؟، قيل: لو كل
من جاء أخذ عوداً هل يبقى منه شيء؟.
فالشاهد أن من المسائل ما يكون
تكلفاً إما بنوع المسألة، بطبيعة المسألة نفسها، أو يكون ذلك تكلفاً؛ لأن السائل
لا يصلح له مثل هذا.
فالناس يتفاوتون، ولهذا لما جاء رجل
سأل الإمام أحمد قال له: عندي زوجتي، وأبي يأمرني بتطليقها، تعرفون عمر -رضي الله
عنه- لما أمر عبد الله أن يطلق امرأته.
النبي ﷺ
أمره أن يطيعه.
فماذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-؟
قال: إن كان أبوك مثل عمر.
وفي رواية: أن رجلاً قال: إن أمي
تأمرني بتطليقها.
فقال: إن لم يبق له من بر أمه إلا
هذا فعندئذ يطلقها.
هو أصلا يرفع صوته عليها، ولا يطيعها
في أكثر الأشياء، وكذا، وتقول له: لا تسهر الليلة، لا تخرج مع أصحابك، يقول: لا،
سأخرج أنا مواعدهم، والآن ما بقيت إلا على قضية تطليق المرأة، إن لم يبقَ له من
برها إلا هذا فعندئذٍ، فيُفرَّق بين الأشخاص، فالناس يتفاوتون.
والله المستعان، وصلى الله على نبينا
محمد، وآله وصحبه.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: