شرح حديث/ فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل
باب
القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة
لفضيلة
الدكتور خالد بن عثمان السبت
شرح
حديث/ فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل
أحاديث
رياض الصالحين: باب القناعة والعفاف والاقتصاد.
٥٣١ - عن عمرو بن تَغْلِب بفتح التاءِ المثناةِ فوقَ وإِسكان الغين
المعجمة وكسر الَّلام -رضي اللّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ أُتِيَ بمالٍ
أَوْ سَبْيٍ فَقسَّمهُ، فَأَعْطَى رجالاً، وتَرَكَ رِجالاً، فَبَلَغَهُ أَنَّ
الَّذِينَ تَرَكَ عَتبُوا، فَحَمِدَ اللَّه، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قال: «أَمَا بَعدُ، فَوَاللَّه إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ
وَأَدَعُ الرَّجُلَ، والَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إليَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي،
وَلكِنِّي إِنَّمَا أُعْطِي أَقوَاماً لِما أَرى في قُلُوبِهِمْ مِن الجَزعِ
والهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْواماً إِلى ما جعَلَ اللَّه في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِني
والخَيْر، مِنْهُمْ عَمْروُ بنُ تَغلِبَ» قال عمرُو بنُ تَغْلِبَ:
فَواللَّهِ ما أُحِبُّ أَن لي بِكلِمةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حُمْرَ
النَّعَمِ. رواه البخاري.
«الهلَعُ»: هُو أَشَدُّ الجَزَعِ، وقِيل: الضَّجرُ.
الشرح:
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي
باب القناعة أورد المصنف -رحمه الله- حديث عمرو بن تغلِب -رضي الله تعالى عنه-: أن
رسول الله ﷺ
أُتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين تركهم -يعني
لم يعطهم- عتبوا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله إني لأعطي
الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواماً لما
أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من
الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب»، هذه تزكية من النبي ﷺ له، «منهم عمرو بن
تغلب»، قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله ﷺ حمر النعم. رواه
البخاري.
هذا
الحديث يتعلق بباب القناعة من جهة أنه أعطى ﷺ أقواماً، وترك آخرين،
فعتب عليه أولئك الذين لم يعطهم، فهذا خلاف القناعة، ثم أيضاً من جهة أخرى النبي ﷺ بين لهم أمراً ترتاض
به نفوسهم وتطمئن به قلوبهم، وهو أن هذا العطاء لا يعني المزية والتفضيل والمنزلة
عند رسول الله ﷺ،
وإنما يعطيهم لمعنىً آخر، كأنه يتألفهم، ولهذا لما قال له بعض أصحابه في عطاء
وقسْمٍ قسَمَه: أعطيتَ فلاناً، ولم تعطِ فلاناً، وإنه مؤمن، فالنبي ﷺ بعدما كُرر ذلك عليه
بين أنه يعطي أقواماً، ويدع آخرين مخافة أن يُكب أولئك -يعني الذين أعطاهم- على
وجوههم في النار، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
وحينما
فتح النبي ﷺ
بعد غزوة حنين، وقسم الغنائم العظيمة في أوطاس كان يعطي الرجل ما بين جبلين غنماً،
أعطى معاوية بن أبي سفيان مائة من الإبل، وصفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى أبا
سفيان مائة من الإبل، وأعطى جماعة حتى قال بعضهم: إنه ﷺ يعطي عطاء من لا يخشى
الفقر، ولما أعطاهم هذا العطاء الكثير أعطى عباس بن مرداس السلمي أقل من هؤلاء،
فقال أبياتًا يعاتب فيها النبي ﷺ:
أتجعلُ
نهبي ونهب العُبيد ... بين عُيينةَ والأقرعِ
وما
كنتُ دون امرئٍ منهما ... ومَن تضعِ اليوم لا يُرفعِ
يعني:
عيينة بن حصن والأقرع بن حابس.
فأمر
له النبي ﷺ أن
يُكمَّل له العطاء بمائة.
ولم
يعطِ الأنصار شيئاً، فتكلم بعضهم، حتى قال من قال: إن النبي ﷺ لقي قومه، فالشاهد أن
النبي ﷺ
جمع الأنصار في مكان واحد، ليس معهم أحد ممن سواهم، وقال: «ما مقالة بلغتني عنكم، وموْجدة وجدتموها في نفوسكم؟، ألم
أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟» إلى آخر ما ذكر،
وهم يقولون: لله ولرسوله ﷺ
المن والفضل، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟»،
فقالوا: لله ولرسوله المن والفضل، قال: «أما إنكم لو
شئتم لقلتم ولصَدَقتم، ولصُدِّقتم: ألم تأتنا مكذَّباً فصدقناك، وطريداً فآويناك؟»
إلى آخر ما ذكر ﷺ
ثم قال: «يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع الناس
بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله ﷺ إلى
رحالكم؟»، فقالوا: رضينا يا رسول الله، فقال: «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار»
وقال: «لو سلك الناس فجًّا وسلك الأنصار فجًّا آخر
لسلكت فج الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار» إلى آخر ما قال لهم
النبي ﷺ.
فالأنصار
كانوا بتلك المنزلة ولم يعطهم النبي ﷺ، فهذا فيه فائدة عظيمة
تربوية، وهو أن الإنسان قد يداري بعض الناس ويتلطف بهم، وقد يعطيهم، وقد يحسن
إليهم كل ذلك لضعف قلوبهم، وقد يترك أقرب الناس إليه من أجل أنه قد ملأ يده منهم
ثقة، فهو يعلم أنهم يريدون ما عند الله -عز وجل-، وأنهم لا يريدون شيئاً آخر،
فينبغي أن يكونوا بهذه المثابة، وهذه قضية أحياناً يقع بسببها إشكالات، يعني:
لربما يعمل الناس عملاً من الأعمال الخيرية في الدعوة إلى الله -عز وجل-، في إغاثة
الفقراء، أو غير ذلك من الأعمال المشروعة، ثم بعد ذلك يقام حفل يكرَّم به بعض
الناس، فيُعطَى لأناس لربما لم تكن لهم مشاركة تذكر، يعطى لهم شهادات تقدير،
ويُعطَى لهم جوائز، ويكرمون على الملأ، ولربما تعطى الدروع لأناس لا ناقة لهم ولا
جمل، يعني: يُعطَى أحياناً الإنسان لربما ليتقى شره، وهو لا ناقة له ولا جمل،
فيبقى أناس هم الذين عملوا هذه الأعمال الحقيقية، لكن الظن بهؤلاء أنهم يريدون ما
عند الله، لا يريدون أن تُذكر أسماؤهم، وقد يكون بعضهم تبرع وأنفق، وهو يريد ما
عند الله، فمن الخطأ أن مثل هؤلاء تتحرك نفوسهم، وللأسف أن بعض الناس قد لا يكون
عند حسن الظن، فيقع في نفسه أشياء، ثم بعد ذلك يخرج على أصحابه بغضبة مضرية، وأن
هؤلاء ما قدروه، ولا كرموه، ولا أعطوه شهادة، ولا أعطوه درعاً، كما أعطوا الآخرين،
ثم يدير ظهره، ويترك هذا العمل والباب الواسع من أبواب الخير الذي فتح الله -عز
وجل- به عليه ويسره له، فولج في هذه الأعمال من أوسع الأبواب، فيترك ذلك ويبقى
طريحاً في بيته، لا يستطيع أن يقدم قليلاً ولا كثيراً، لو علم الناس هذه النفس
الضعيفة منذ البداية لجيء به أمام الكاميرات، وهذا -ما شاء الله- المحسن الكبير،
وهذا الذي قدم، وهذا الذي بنى، وهذا الذي فعل، وهذا الذي أعطى، وهذا الذي كل ما
ترون من هذه البرامج نشرت من تحت يده، لو علم الناس بضعف نفسه.
فأقول:
النبي ﷺ
كان يترك بعض أصحابه لهذا المعنى، ويعطي آخرين لضعفهم، فانظروا إلى التفاوت، عباس
بن مرداس ماذا قال؟ هذه الأبيات التي سمعتموها، فالمقصود أن العطاء ليس بتمييز
حقيقي، إنما يعطى لجبر بعض النفوس، ولتشجيع من يحتاج إلى تشجيع، من يحتاج إلى حفز،
أما من كان قلبه معلقاً بالله -عز وجل- فهو ينظر ما عنده فهذا لا ينتظر من الناس
شيئًا، ولا يرضى أن يخرج أمام الآخرين ويعطى ويكرم ويقدم، وتمنح له الجوائز أو الدروع
أو نحو ذلك، هو لا يحتاج إلى هذا أصلاً؛ لأنه يرجو ما هو أعظم منه، ويخاف أن ينقص
ذلك من أجره، هو يريد أن يكون عمله بينه وبين الله، دون أن يعلم الناس به.
ومضى
الحديث الذي بالأمس، حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أنه ندم لمّا
تحدث عما جرى لهم في غزوة ذات الرقاع. هذا، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم
نية صالحة، وأن يرزقنا وإياكم التقوى، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: