شرح حديث / أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم
باب
فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح
حديث / أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم
أحاديث
رياض الصالحين: باب فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر
٤٦١
- عن عمرو بنِ عوفٍ الأَنْصاريِّ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ بَعَثَ أَبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ -رَضِّيَّ
اللهُ عَنْهُ- إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجزْيَتِهَا، فَقَدمَ بِمالٍ منَ
البَحْرَينِ، فَسَمِعَت الأَنصَارُ بقُدومِ أَبي عُبَيْدَةَ، فوافَوْا صَلاةَ
الفَجْرِ مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ، فَلَمَّا
صَلَّى رسولُ اللَّه ﷺ، أنْصَرَفَ،
فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ اللَّه ﷺ
حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُم سَمِعتُم
أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ» فقالوا: أَجَل
يَا رسول اللَّه، فقال: «أَبْشِرُوا، وأَمِّلُوا مَا
يَسُرُّكُمْ، فواللَّه مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ. وَلكنِّي أَخْشى أَنْ
تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتُهْلِككُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»
متفقٌ عليه.
٤٦٢
- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- قالَ: جَلَسَ رسولُ اللَّه ﷺ عَلي المِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ. فقال: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ
عَلَيْكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنيَا وَزينتهَا» متفقٌ عليه.
٤٦٣
- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ، قَالَ: «إِنَّ
الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّه تَعالى مُسْتَخْلِفُكُم فِيهَا،
فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيَا، واتَّقُوا النِّسَاءَ»
رواه مسلم.
الشرح:
هذه
الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله، في باب الزهد في الدنيا والترغيب فيه، وقد ذكر
قبل ذلك آيات متعددة كلها تدل على أن هذه الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة، وأنها
ممر ومزرعة للآخرة، فإن قال قائل: يقال ورع، ويُقال زهد، فأيهما أعلى؟ وما الفرق
بينهما؟ فالجواب: أن الزهد أعلى من الورع، والفرق بينهما أن الورع ترك ما يضر،
والزهد ترك ما لا ينفع، فالأشياء ثلاثة أقسام: منها ما يضر في الآخرة، ومنها ما
ينفع، ومنها ما لا يضر ولا ينفع.
فالورع:
أن يدع الإنسان ما يضره في الآخرة، يعني: أن يترك الحرام.
والزهد:
أن يدع ما لا ينفعه في الآخرة، فالذي لا ينفعه لا يأخذ به، والذي ينفعه يأخذ به،
والذي يضره لا يأخذ به من باب أولى، فكان الزهد أعلى حالًا من الورع، فكل زاهد
ورع، وليس كل ورع زاهدًا.
ولكن
حذر النبي عليه الصلاة والسلام، من أن تفتح الدنيا علينا كما فتحت على من كان
قبلنا فنهلك كما هلكوا.
لما
قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، وسمع الأنصار بذلك، جاءوا إلى النبي ﷺ فوافوه في صلاة الفجر، فلما انصرف من الصلاة
تعرضوا له فتبسم عليه الصلاة والسلام، يعني: ضحك، لكن دون صوت، تبسم لأنهم جاءوا
متشوقين للمال.
فقال
لهم: «لعلكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة من البحرين؟»
قالوا: أجل يا رسول الله. سمعنا بذلك، يعني: وجئنا لننال نصيبنا.
فقال
عليه الصلاة والسلام: «ما الفقر أخشى عليكم»
الفقر لا أخشاه.
والفقر
قد يكون خيرًا للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يروى عن النبي ﷺ أن الله قال: «إن من
عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى»، يعني: أطغاه وأضله وصده عن الآخرة
-والعياذ بالله- ففسد، «وإن من عبادي من لو أفقرته
لأفسده الفقر».
فقال
النبي عليه الصلاة والسلام: «ما الفقر أخشى عليكم»
يعني: لا أخشى عليكم من الفقر؛ لأن الفقير في الغالب أقرب إلى الحق من الغني.
وانظروا
إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ من الذي يكذبهم؟ يكذبهم الملأ الأشرار الأغنياء،
وأكثر من يتبعهم الفقراء، حتى النبي عليه الصلاة والسلام، أكثر من يتبعه الفقراء.
فالفقر
لا يخشى منه، بل الذي يخشى منه أن تبسط الدنيا عليهم، كما قال النبي عليه الصلاة
والسلام: «أخشى أن تبسط عليكم» -يعني: كما
بسطت على من كانوا قبلنا- «فتهلككم كما أهلكتهم».
وهذا
هو الواقع، وأنظر إلى حالنا نحن هنا -يعني: في المملكة- لما كان الناس إلى الفقر
أقرب، كانوا لله أتقى وأخشع وأخشى، ولما كَثُر المال؛ كثُر الإعراض عن سبيل الله،
وحصل الطغيان، وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها. سيارة، بيت، فرش،
لباس، يباهي الناس بهذا كله، ويعرض عما ينفعه في الآخرة.
وصارت
الجرائد والصحف وما أشبهها لا تتكلم إلا بالرفاهية وما يتعلق بالدنيا، وأعرضوا عن
الآخرة، وفسد الناس إلا من شاء الله.
فالحاصل
أن الدنيا إذا فتحت -نسأل الله أن يقنا وإياكم شرها- أنها تجلب شرًّا وتطغي
الإنسان {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: ٦-٧]، وقد قال
فرعون لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: ٥١]، افتخر
بالدنيا، فالدنيا خطيرة جدًا.
وفي
هذه الأحاديث أيضًا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن
الدنيا حلوة خضرة» حلوة المذاق، خضرة المنظر، تجذب وتفتن، فالشيء إذا كان
حلوًا ومنظره طيبًا فإنه يفتن الإنسان، فالدنيا هكذا حلوة خضرة حلوة في المذاق،
خضرة في المنظر.
ولكن:
«وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون»
يعني: جعلكم خلائف فيها؛ يخلف بعضكم بعضًا، ويرث بعضكم بعضًا «فينظر كيف تعملون» هل تقدمون الدنيا أو الآخرة؟
ولهذا قال: «فاتقوا الدنيا واتقوا النساء».
ولكن
إذا أغنى الله الإنسان، وصار غناه عونًا له على طاعة الله، ينفق ماله في الحق؟ وفي
سبيل الله؛ صارت الدنيا خيرًا.
ولهذا
كان رجل الدنيا الذي ينفق ماله في سبيل الله، وفي مرضاة الله عز وجلّ، صار ثاني
اثنين بالنسبة للعالم الذي آتاه الله الحكمة والعلم وصار يعلم الناس.
فهناك
فرق بين الذين ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله، ويكون غناه
سببًا للسعادة والإنفاق في سبيل الله {رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} [البقرة: ٢٠١].
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: