باب
فضل الجوع وخشونة العيش
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
أحاديث رياض الصالحين: باب فضل الجوع
وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ
النفس وترك الشَّهوات.
قال اللَّه تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَن تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
شَيْئًا} [مريم: ٥٩-٦٠].
وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي
زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا} [القصص: ٧٩-٨٠].
وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: ٨].
وقال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء:١٨]. والآيات في الباب
كثيرة معلومة.
٤٩٦- عن عائشةَ رضي اللَّه عنها، قالت: ما شَبعَ آلُ مُحمَّدٍ ﷺ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ. [١] متفقٌ عليه.
وفي رواية: مَا شَبِعَ آلُ
مُحَمَّد ﷺ مُنْذُ قَـدِمَ
المَدِينةَ مِنْ طَعامِ البرِّ ثَلاثَ لَيَال تِبَاعاً حَتَّى قُبِض.
٤٩٧- عن عُرْوَةَ عَنْ عائشة رضي اللَّه عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللَّه
يا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلالِ ثمَّ الهِلالِ. ثُمَّ
الهلالِ ثلاثةُ أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ. وَمَا أُوقِدَ في أَبْيَاتِ رسولِ
اللَّه ﷺ نارٌ. قُلْتُ: يَا خَالَةُ
فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالتْ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ إِلاَّ
أَنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول اللَّه ﷺ جِيرانٌ
مِنَ الأَنْصَـارِ. وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَايحُ وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إلى رسول
اللَّه ﷺ مِنْ أَلبانها
فَيَسْقِينَا. [٢] متفقٌ عليه.
٤٩٨- عن أبي سعيدٍ المقْبُريِّ عَنْ أبي هُرَيرةَ رضي اللَّه عنه، أَنه مَرَّ
بِقَوم بَيْنَ أَيْدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيةٌ. فَدَعَوْهُ فَأَبى أَنْ يَأْكُلَ،
وقال: خَرج رسول اللَّه ﷺ من الدنيا
ولمْ يشْبعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. [٣] رواه البخاري.
«مَصْلِيَّةٌ» بفتحِ الميم: أَيْ:
مَشْوِيةٌ.
الشرح:
هذا الباب ذكره المؤلف رحمه الله، بعد باب الزهد في الدنيا، يبين فيه أنه ينبغي
للإنسان ألا يكثر من الشهوات في أمور الدنيا، وأن يقتصر على قدر الحاجة فقط، كما
كان النبي ﷺ يفعل ذلك، وذكر آيات
فيها بيان عاقبة الذين يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات، فقال: وقول اللَّه
تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: ٥٩-٦٠].
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي: من بعد
الأنبياء الذين ذكروا قبل هذه الآية، خلف من بعدهم خلف لم يتبعوا طريقتهم
وإنما: {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}. وإضاعة الصلاة، تعني: التفريط فيها.
في شروطها: كالطهارة، وستر العورة،
واستقبال القبلة.
وفي أركانها: كالطمأنينة في الركوع،
والسجود، والقيام والقعود.
وفي واجباتها: كسؤال المغفرة بين
السجدتين، والتسبيح في الركوع، والسجود، والتشهد الأول، وما أشبه ذلك.
وأشد من هذا الذين يضيعونها عن وقتها؛
فلا يصلون إلا بعد خروج الوقت، فإن هؤلاء إما أن يكون لهم عذر من نوم أو نسيان،
فصلاتهم مقبولة ولو بعد الوقت، وإما ألا يكون لهم عذر فصلاتهم مردودة لا تقبل
منهم، ولو صلوا ألف مرة.
وقوله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} يعني: ليس
لهم همٌّ إلا الشهوات؛ ما تشتهيه بطونهم وفروجهم، فهم ينعمون أبدانهم ويتبعون ما
تنعم به الأبدان، ويضيعون الصلاة، والعياذ بالله.
ثم قال تعالى مبينًا جزاءهم: {فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلَّا مَنْ تَاب}، وهذا وعيد لهم؛ لأنهم والعياذ بالله،
يلقون الغي؛ لأن الجزاء من جنس العمل: {إِلَّا
مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا
يُظْلَمُونَ شَيْئًا}.
ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها، في بيان عيش النبي ﷺ، وأنه ما شبع من خبز الشعير ليلتين تباعًا؛
لقلة ذات يده عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يمضي عليه الشهران في ثلاثة أهلة ما
يوقد في بيته نار، وإنما هو الأسودان: التمر والماء، مع أنه ﷺ لو شاء لصارت الجبال معه ذهبًا، ولكنه ﷺ يريد أن يقتصر على الدنيا بما يسوي الدنيا من
الحاجة فقط، والله الموفق.
[١] رواه البخاري: كتاب الأطعمة، باب إذا
حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، رقم (٥٤١٦)، ومسلم، كتاب الزهد، باب منه، رقم
(٢٩٧٠).
[٢] رواه البخاري: كتاب الهبة، باب منه، رقم
(٢٥٦٧)، ومسلم: كتاب الزهد، باب من، رقم (٢٩٧٢).
[٣] رواه البخاري: كتاب الأطعمة، باب ما
كان النبي ﷺ وأصحابه، رقم (٥٤١٤).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ
اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل
اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال