شرح حديث/ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان
لفضيلة الدكتور خالد بن عثمان السبت
باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر
الضَّعَفة والمساكين والمُنكسرين والإِحسان إليهم والشَّفقة عليهم والتواضع معهم
وخفض الجناح لهم
شرح حديث/ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان
أحاديث رياض الصالحين: باب ملاطفة اليتيم
والبنات وسائر الضَّعَفة والمساكين والمُنكسرين والإِحسان إليهم والشَّفقة عليهم
والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.
٢٦٩- وعن ابى هريرة رضى الله عنه،
قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرةُ
وَالتَّمْرتَانِ، وَلا اللُّقْمةُ واللُّقْمتانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الذي
يتَعَفَّفُ» [١] متفقٌ عليه.
وفي رواية في
"الصحيحين": «لَيْسَ المِسْكِينُ
الَّذِي يطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمةُ واللُّقْمتَان، وَالتَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ،
ولَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغنْيِه، وَلا يُفْطَنُ بِهِ
فيُتصدَّقَ عَلَيهِ، وَلا يَقُومُ فَيسْأَلَ النَّاسَ» [٢].
الشرح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد:
ففي باب "ملاطفة اليتيم والبنات
وسائر الضعفة والمساكين" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله ﷺ:
«لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ»، المسكين
بمعنى الفقير، وهو الذي لا يجد كفايته في حاجاته الضرورية.
قوله ﷺ:
«لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ»، بمعنى: ليس المسكين
كامل المسكنة، المسكين حقيقة الفقير المحتاج حاجة حقيقية ليس هو الذي ترده التمرة
والتمرتان؛ لأن مثل هذا يسأل الناس، ويصرح بمسألته، ويتعرض لهم، ولا يجلس في بيته،
فيعطونه ما يرفع عنه حد المسكنة، ولربما يفيض ذلك عنده فيتصدق منه، أو يعطي، أو يبيع
كما هو مشاهد، فمثل هذا لا يبيت طاوياً غالباً من الجوع، فهو يتعرض للناس، وكلما
جلس مع أحد بدأ يذكر له حاله وفقره وحاجته وحاجة عياله وما أشبه ذلك، فالناس
يتعارفون بينهم أن هذا الإنسان مسكين، فهذا يأتيه بصدقة، وهذا يأتيه بمال، وهذا
يأتي بطعام وهذا وهكذا، فقد يحصل له غنًى يغنيه من عطايا الناس، لكن المسكين حقيقة
كما قال النبي ﷺ: «إِنَّمَا المِسْكِينُ»، يعني: كامل المسكنة،
المسكين حقيقة الذي يستحق الوصف الكامل من المسكنة هو الذي يتعفف، ومعنى يتعفف،
يعني: يترك السؤال.
ويوضح هذا الرواية الثانية: «ولَكِنَّ
المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغنْيِه»، يعني: ليس عنده شيء يقوم
بحاجاته، من تجارة أو كسب أو غير ذلك، وإنما هو منقطع ليس له ما يسد حاجته، «لاَ
يَجِدُ غِنًى يُغنْيِه»، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل فالإنسان تُكفى حاجته
بأحد هذه الأمور الثلاثة، إما أنه يجد غنًى يغنيه من بيت المال مثلاً، أو يكون له
وظيفة يأخذ عليها أجراً، أو يكون حصَّل ميراثاً، فيجد غنًى يغنيه، يكون له تجارة،
يكون له مهنة وصنعة يكتسب منها، فيجد غنًى يغنيه، أو أن هذا الإنسان يتفطن له
الناس يعرفون أنه مسكين، أو يقوم هو فيسأل الناس، يقوم في المسجد ويقول: أنا فقير،
أنا محتاج، فيعطيه هذا، ويعطيه هذا، ويعطيه هذا، فيجد كفايته.
قوله: «وَلا يَقُومُ فَيسْأَلَ النَّاسَ» فمثل هؤلاء هم أولى
بالعطاء، فهذا الحديث يرشد المسلم إلى الأحق والأولى بالرعاية والإحسان والصدقة،
والبر والصلة، وهم هؤلاء الذين يتعففون، والإنسان في تجارة مع الله تبارك وتعالى،
الذي يعطي من يسأل يؤجر على هذا، ولا يضيع من أجره شيء، حتى لو صادف ذلك غنًى، حتى
لو كان الذي يسأل يجد ما يغنيه، لو كان غنيًّا لكنه اعتاد على المسألة، فإذا
أعطيته فلن يضيع هذا كما قال الله عزَّ وجلَّ، في
سورة البقرة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: ٢٧٢]، الأجر حاصل، وسيوفى الإنسان
أجره، والحديث معروف في هذا تُصدق الليلة على غَنيٍّ، فالحاصل أن ذلك يبلغ
عند الله جَلَّ وَعَلاَ، لكن إذا جئنا للأولويات من هو الأولى بالصدقة،
الأولى بالعطاء؟ هو هذا الإنسان الذي لا يسأل، ولا يخبر الناس عن حاجته، وإنما
يبقى في بيته، لو يموت من الجوع ما يسأل، هذا أحق أن يُبحث عنه، وهذا يعرف بأمور،
بالتحسس والتفقد، ويعرف ذلك من هيئته، من الناس من لا يذهب أولاده للمدارس، السبب
ليس عندهم ملابس، هذا موجود، حينما يُسأل هؤلاء الصغار: لماذا لم تذهبوا إلى
المدرسة وقد مضى على الدراسة ثلاثة أسابيع؟ يقولون: ما عندنا ملابس، في العيد لا
يخرجون، لماذا؟ ما عندنا ملابس، ليس ملابس جديدة، ما عندهم شيء يصلح أن يخرجوا به
أصلاً، ما عندهم شيء من شدة الفقر، وُجد من يدفن أمه بأكثر من ذراع في البيت،
يدفنها من شدة البرد، ما عندهم شيء، ما عنده بطانية، تتعجبون من هذا، وهذا موجود،
دخل بعض الذين يتفقدون الفقراء على بعض القرى، فوجدوا شخصاً في ليلة شاتية قد دفن
أمه من شدة البرد، ما عندهم شيء.
فأقول: مثل هؤلاء هم الأولى بالعطاء
والإحسان، وهؤلاء الذي قد يوجدون لا تظن أنهم يتصنعون ويمثلون، لا، نحن نعرف هذا
من خلال أشياء، إنسان يستفتي يقول: عليّ يمين ماذا أصنع؟ نقول: عليك أن تطعم عشرة
مساكين أو كسوتهم، يقول: لا أستطيع، ما تستطيع إطعام عشرة مساكين؟ يقول: لا
أستطيع، ما عندي، ما عندي ما أطعم عيالي، هو ما يسأل الآن، هو يستفتي، هل يحق لي
الصيام أو لا يحق؟ هذا تعرف به حال هذا الإنسان، يوجد أناس كثير في مثل الأيام
القادمة يسألون عن الاشتراك في الأضحية، يريدون أن يشتركوا في الأضحية التي تعطى
بمائتين وخمسين ريالا للجمعيات، ما عندهم مائتان وخمسون ريالا، سيشترك مجموعة في
واحدة، يقولون: هل يجزئ ذلك أو لا يجزئ؟ هذا موجود.
فأقول: مثل هؤلاء هم الأولى، الذي سجن
بسبب الديْن أولى من الإنسان الطليق، الإنسان الذي لحقه الدين بسبب التكثّر يريد
أن يتّجر ولا يبالي يأخذ من هذا وهذا، ويريد أن يركب أحسن المراكب، ويسكن بأحسن
المساكن، مثل هذا ليس كالذي أصابته جائحة أو نحو ذلك، فركبته الديون أو في علاج
ضروري، أو في مصيبة نزلت به، أو في فقر مدقع ما يجد قوت عياله، هذا أولى أن
يُعطَى، هذا الذي حبس في دين لربما ستة آلاف ريال أو أقل من هذا، يجلس شهوراً،
وأولاده في حالٍ الله جَلَّ وَعَلاَ، هو
الذي يعلمها، أولى أن يسدد عنه هذا الدين ويخرج، وقد يخرج هذا والفرحة التي تصيب
أولاده تدخل أنت بها الجنة، هذا شيء ليس ببسيط، والله عزَّ وجلَّ، حينما ذكر الأحق بالفيء
قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٧٣]، لا يستطيعون التقلب
للتجارات، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: ٢٧٣]، الجاهل بحالهم يحسبهم أغنياء؛
لأنهم ما يسألون، ولا يذكر شيئًا لا تلميحاً ولا تصريحاً، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}.
ومن الناس من لا يسأل بلسانه، لكن يقف
بطريقة معينة، فتفهم أنه يريد، أو يأتي ويجلس بجنبك، وأنت لا تعرفه، ثم يجلس بجنب
الثاني والثالث والرابع ويسأل بلسان الحال، ومنهم من يقف عند الإشارة ويسلم على كل
من مر، هو يسأل بهذا السلام، فهذا يسأل، ومنهم من يتكلم، ومنهم من يظهر الفاقة
بلباسه أو نحو ذلك، ويقف أمام الناس ليروه، هؤلاء لا يسألون: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم، {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: ٢٧٣]، يعني: بما يظهر عليهم من شحوب
الوجه، الوجه مرآة لما في القلب، الفقير يظهر على وجهه، من تقاطيع وجهه يظهر أنه
فقير، وأنه مدهوك من الفقر، والغنيّ يظهر هذا من تقاطيع وجهه، تعرف أن هذا غني،
كذلك رثاثة الثياب، كما يعرف المريض من وجهه، المرهق يعرف من وجهه، الصحيح يعرف من
وجهه، الحزين يعرف من وجهه، الفرِح المسرور يعرف من وجهه، الوجه مرآة شاء الإنسان
أم أبى، الخير والشر، المعصية والطاعة، كلها تظهر في الوجه، «مَن كثُرَتْ صلاتُه باللَّيلِ؛ حسُنَ وجهُه بالنَّهارِ»
[٣] معروف، {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا} [البقرة: ٢٧٣]، هم لا يسألون أبداً، لكنه ذكر هذا اللون الذي
هو أبشع صور المسألة: الإلحاف، يعني: مثل اللحاف يشتمل على الإنسان من جميع
جوانبه، {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} لا
يترك طريقة إلا يجيء منها، بالترجي، بالدعاء، بالإلحاح، أعطني الله يخليك، كذا،
أنا فقير، أنا كذا، ويوسط لك ناسًا، ولا يترك طريقة، فقد يأتيك بمعروض وورقة، وصك
إيجار، وفاتورة كهرباء، بكل طريقة يستطيع أنه يفعلها يفعلها، هنا لا، {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، هم لا يسألون
أصلاً، لكن نفى هذه الصفة الممجوجة المكروهة عند الناس، فالشيء قد ينفى مقيداً
والمراد نفيه أصلاً، فهؤلاء أولى بالرعاية والعطاء.
يعني أحدهم لمّا رؤي انقطاعه عن العلم
فترة، وهو له ذكاء وله نهمة فيه، بكى لما سُئل، لم يتمالك، دموعه سبقته، فلما سُئل
قال: آتي إلى بيتي وأجد الأطفال يتضاغون من الجوع، ما عندهم شيء، فيقول: لا أستطيع
أن أراهم بهذه الحال فأضطر إلى الخروج من البيت، فتضيع علي الأوقات لا أقرأ لا
أراجع، لا أحفظ، فتذهب عليّ أوقات طويلة من اليوم والليلة لهذا السبب، هذا ما
يسأل، هذا سُئل عن تقصيره في العلم، وقلة مراجعته بعد أن كان، فذكر هذه القضية،
طيب لماذا لا تذكر هذا الكلام؟ قال: لا، أنا لا أطلب من أحد شيئاً، هذا موجود،
فمثل هؤلاء أولى بالرعاية، وهؤلاء لهم مشاعر، ولهم أحاسيس يشعرون بها بألم الجوع،
ولربما تبقى حسرات في نفوسهم حينما يرون من حولهم يتوسعون في اللباس والطعام
والشراب، ومباهج الدنيا ومراكبها ومساكنها، وهم ليس لهم شغل إلا التفكير في هذه
اللقمة التي يسكتون بها جوعة هؤلاء الأولاد، هذه الخبزة كيف يحصلون عليها، وهذه
أمور من الله سبحانه وتعالى، هو
الذي قدر بين الناس الرزق، ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، هذا
موجود من عهد النبي ﷺ، المساكين والفقراء منذ
زمن بعيد إلى اليوم، وفي كل المجتمعات.
لكن المجتمعات المادية مثل الغرب تعرفون
كيف يكون عندهم المسكين، وقد رأينا هذا، المسكين في البلاد الغربية ماذا يصنع؟ لا
يعطون شيئًا إلا بشيء، يأتي ويأخذ معه موسيقى ويركب القطار مثلاً، ويدور على
العربات ويعزف، ويعطونه سنتات وأشياء يسيرة تافهة يضعونها وهو يعزف، يعني أنه
يقول: هذا مقابل، يعني ما أعطيتموني مجانًا، أنا بمقابل قدمت لكم خدمة أطربت
أسماعكم، يطربنا بمعصية الله عزَّ وجلَّ، وفي بعض المطارات، بطريقة مهذبة
حضارية كما يقال، يوضع زجاج من جميع الجهات، عند المدخل في المطار أو المخرج،
وتوجد فرقة ثمانية أشخاص أو سبعة يرقصون بطرق غريبة جدًّا، وحركات غريبة ملفتة
للنظر، يعني الذي يمر يلفت نظره ويقف ينظر ما هو الموضوع؟ وهناك فتحات صغيرة يضع
الناس فيها هذه السنتات والأشياء البسيطة، يفعلون هذا أي نحن قدمنا لكم شيئًا،
أدخلنا عليكم شيئاً من المرح أو الأنس فهذا مقابل، نحن نقول: لله، {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: ٩]، وما يضيع شيء، «ما نقص مال من صدقة» [٤].
هذا، وصلّى الله على نبينا محمد، وآله
وصحبه.
[١] رواه البخاري: كتاب التفسير، باب لا
يسألون الناس إلحافاً، رقم (٤٥٣٩)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب المسكين الذين لا يجد
غنى ولا يفطن له فيتصدق، رقم (١٠٣٩).
[٢] رواه البخاري: كتاب التفسير، باب لا
يسألون الناس إلحافاً، رقم (١٤٧٩)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب المسكين الذين لا يجد
غنى ولا يفطن له فيتصدق، رقم (١٠٣٩).
[٣] أخرجه ابن ماجه: أبواب إقامة الصلوات
والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، برقم (١٣٣٣)، وهو باطل مرفوعاً، وإنما هو
من كلام شريك، وقال الشيخ الألباني بوضعه، في السلسلة الصحيحة، برقم (٤٦٤٤).
[٤] أخرجه أحمد: في المسند، برقم (١٦٧٤)،
وقال محققوه: "حسن لغيره".
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: