شرح حديث / لو أنكم تتوكلون على الله
شرح
حديث / لو أنكم تتوكلون على الله
أحاديث
رياض الصالحين: باب اليقين والتوكل
٨٠ - عَنْ عُمَر رَضِّيَّ الله عَنْهُ قَال سَمِعَت رَسُول الله ﷺ يَقُول: «لَوْ
أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُون عَلَى الله حَقّ تَوَكُّله لِرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُق
الطَّيْر تَغْدُوَا خِماصًا وَتَرُوح بِطَانا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَال حَديث حُسْن.
مَعَنَاهُ
تُذْهِب أَوَّلَ النَّهَار خِماصا أي ضَامِرَة الْبُطون مِنْ الْجُوع وَتَرْجِع
آخِر النَّهَار بِطَانا أي مُمْتَلِئَة الْبُطون [١].
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا
هو الحديث السادس في باب اليقين والتوكل، وهو:
هذا
الحديث أشرت إلى معناه في ليلة مضت عند الكلام على حديث: «لرزقكم كما يرزق الطير،
تغدو خماصًا وتروح بطانًا».
لو
أنكم تتوكلون على الله حق توكله، هنا علق ذلك بأمر ممكن، وهو أن يتم التوكل
للإنسان، فيكون بهذه المثابة يرزقه الله تعالى، كما يرزق الطير.
تغدو
خماصًا، بمعنى: أنها تخرج في أول النهار، خماصًا أي: أنها ضامرة البطون، ليس في
بطونها شيء، تخرج في حال من الجوع، ثم تروح يعني: ترجع في آخر النهار إلى أوكارها،
تروح بطانًا أي: ممتلئة البطون.
وهذا
الحديث ليس معناه أن الإنسان يقعد عن العمل والتسبب والاكتساب، ثم ينتظر من الله -
تبارك وتعالى - أن يرزقه، فإن هذا ليس هو المراد، بل كما قال الإمام البيهقي -
رحمه الله -: هو أن الإنسان يبذل السبب، فهذه الطيور لا تبقى في أوكارها تنتظر رزق
الله - تبارك وتعالى - فتمتلئ بطونها منه، وإنما هي تخرج في الصباح وتتسبب وتتكسب،
ثم بعد ذلك ترجع إلى أوكارها في آخر النهار إذا كان الظلام.
فالإنسان
الذي يتوكل على الله حق التوكل هو الإنسان الذي يرتبط قلبه بالله تعالى، ويعلم أنه
لا يكون في هذا الكون تحريكة أو تسكينة إلا بمشيئته وإرادته، وأن الاكتساب والغنى
والتحصيل لا يكون بسبب ذكاء الإنسان، وما عنده من طاقة ومهارة وحرفة وصنعة، وما
أشبه ذلك، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِندِي} [القصص: ٧٨]، فهذا لا شك أنه انحراف في التصور والفهم
والاعتقاد، وإنما يعتقد الإنسان أن الله تعالى، هو مسبب الأسباب، وأن أزمّة الأمور
في يده، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والله قد أجرى سنته بأن يتوكل
الإنسان، وأن يتسبب والله - تبارك وتعالى - يقدر لمن شاء ما شاء.
والله
تعالى، يقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ] [الإسراء: ١٨]، فمن
يشاؤه من الناس المعطَيْن، وما يشاؤه من العطاء، وكثير من الناس يتهافتون على
الدنيا، ويقومون من أجلها، ومن أجلها يقعدون، ومن أجلها يحبون ويقرِّبون، ومن
أجلها يبغضون، ومع ذلك لا يحصلون شيئًا يذكر، فليست المسألة هي بقدراتنا الذاتية،
وإنما بما يقدره الله تعالى، لنا من الأرزاق، لكن يجب علينا أن نسعى، وأن نتوكل
على الله في نفس الوقت، وإلا فإن الإنسان إذا انحرف في هذا المعنى فإنه قد يقعد عن
العمل والاكتساب، ويقعد في بيته وينتظر متى يأتيه الرزق كما فعل ذلك بعضهم، ترك
العمل وقعد عنه من أجل أن الله هو الرزاق، فليس هذا هو المعنى المراد.
وذُكر
للإمام أحمد - رحمه الله - أن أحد هؤلاء المنحرفين كان يوضع الطعام في فمه، وكان
لا يحرك فكه، باعتبار أنه متوكل على الله - تبارك وتعالى - هذا خطأ، فهو لا يحرك
فكه فكان يحتاج إلى من يحرك فكه من أجل أن يأكل، ثم هذا كيف سيكون مضغه للطعام؟
وإذا أراد أن يقضي الحاجة - أعزكم الله - كيف سيصنع؟
لماذا
لا يتوكل على الله حق التوكل؟ إذا أراد أن ينام لماذا يضطجع؟ وإذا أراد أن يقوم
لماذا ينهض، ويكون بعد ذلك محركًا لقدمه وهو يمشي وما أشبه هذا؟
لماذا
لا يتوكل على الله تعالى، فيتنقل من غير حركة؟ فلا شك أن هذه الأمور مخالفة
للفطرة، ومخالفة للعقل، وتقتضي هذا التسلسل العجيب، بحيث إن الإنسان يصير لا
يتحرك، بل حتى لو لم يتحرك نقول له: لماذا تقعد؟ لماذا لا تتوكل على الله تعالى؟
فلماذا أنت تقيم نفسك بهذه الطريقة وتشد العصب والمفاصل، ثم بعد ذلك تعتمد هذا
الاعتماد؟ لماذا لا تتوكل على الله تعالى، ويبقى الإنسان لا يحرك أصبعًا ولا يدًا،
وبالتالي لا يصلي، ولا يقوم، ولا يتوضأ، ولا يفعل شيئًا من الأشياء، فيكون بهذا
تاركًا ومضيعًا لأمر الله تعالى، الديني والشرعي، مضيعًا لحقوقه، وأيضًا يكون قد
خالف الفطرة، وخالف مقتضى العقل، ثم بعد ذلك خالف سنة الله تعالى،
في هذه الحياة، وفي هذا الكون.
فالمقصود
هو أن الإنسان يتوكل على الله، ويربط قلبه بالله، لكن يعلم أن ذلك ليس بمهارته ولا
بذكائه، ثم لا يتهافت على الدنيا، فيتوجه قلبه إليها ويتعلق بها، ويركن إلى هذا
الحطام الزائل، وإنما يعلم أن الأمور بيد الله تعالى، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ
لم يكن، وهذا يريح قلبه كثيرًا، فلا يتأسف على ما فاته منها، وما خسر من حطامها،
أو ما لم يحصله من هذا المتاع الزائل، فإن الله - تبارك وتعالى - هو الذي يرزق
عباده وفق علمه، وحكمته وبصره التام النافذ، والإنسان لا يدري أين الخير له، فما
عليه إلا أن يبذل السبب والله تعالى، يرزق من شاء ما شاء.
وها
نحن نرى الناس، منهم مَن بعملٍ بسيط يحصّل الملايين الطائلة بلحظات، ومنهم من يجلس
طول العمر يشتغل ولا يحصل شيئًا يذكر، يتقلب بالفقر ظهرًا لبطن، مع أنه مفتول
العضلات، ولربما كان كامل الذكاء، وعنده من القُدَر والمهارات، ويقوم بدراسات، ومع
ذلك هو من خسارة إلى خسارة، ومن خيبة إلى خيبة.
فالله
تعالى، هو الذي يرزق.
هذا،
وأسأل الله تعالى، أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين،
وصل الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
الحمد لله رب العالمين
[١] أخرجه
الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في التوكل على الله (٤/ ٥٧٣)، رقم: (٢٣٤٤)،
وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (٢/١٣٩٤)، رقم: (٤١٦٤)، وأحمد (١/ ٣٣٢)،
رقم: (٢٠٥).
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
شرح حديث / لو أنكم تتوكلون على الله
Reviewed by احمد خليل
on
12:17:00 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: