شرح الحديث النبوي (خرج علينا رسول الله وفي يده كتابان)
محمد
بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري
شرح
الحديث النبوي (خرج علينا رسول الله وفي يده كتابان)
عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّه ﷺ وَفِي
يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا
هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟» فَقَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ
تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: «هَذَا
كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ
آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ
فِيهِمْ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُمْ أَبَدًا». ثم قَالَ لِلَّذِي فِي
شِمَالِهِ: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ
بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى
آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا» فَقَالَ
أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كَانَ أَمْرٌ
قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا،
فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ
عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ
النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ» ثُمَّ قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ
قَالَ: «فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ».
رواة
الترمذي (باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار)
الشرح:
قوله:
(عن أبي قبيل) اسمه حيي بضم الحاء مهملة وبياءين مصغرا قال في التقريب: حيي بن
هانئ بن ناضر، بنون ومعجمة أبو قبيل، بفتح القاف وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة
المعافري البصري صدوق يهم من الثالثة (عن شفي بن ماتع) قال في التقريب: شفي بضم
الشين المعجمة وبالفاء مصغرا، ابن ماتع بمثناة الأصبحي، ثقة من الثالثة، أرسل
حديثا فذكره بعضهم في الصحابة خطأ، مات في خلافة هشام، قاله خليفة.
قوله:
(وفي يده) بالإفراد والمراد به الجنس وفي المشكاة: يديه بالتثنية والواو للحال
(أتدرون ما هذان الكتابان) الظاهر من الإشارة أنهما حسيان وقيل تمثيل واستحضار
للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين، فالنبي ﷺ كما كوشف له بحقيقة هذا
الأمر وأطلعه الله عليه اطلاعا لم يبق معه خفاء صور الشيء الحاصل في قلبه بصورة
الشيء الحاصل في يده وأشار إليه إشارة إلى المحسوس.
فقلنا:
لا (أي: لا ندري) يا رسول الله إلا أن تخبرنا استثناء مفرغ، أي: لا نعلم بسبب من
الأسباب إلا إخبارك إيانا، وقيل الاستثناء منقطع أي لكن إن أخبرتنا علمنا، وكأنهم
طلبوا بهذا الاستدراك إخباره إياهم.
(فقال
الذي في يده اليمنى) أي: لأهله وفي شأنه أو عنه، وقيل قال بمعنى: أشار فاللام
بمعنى إلى «هذا كتاب من رب العالمين» خصه
بالذكر دلالة على أنه تعالى، مالكهم وهم له مملوكون يتصرف فيهم كيف يشاء فيسعد من
يشاء ويشقي من يشاء وكل ذلك عدل وصواب فلا اعتراض لأحد عليه، وقيل الظاهر أن هذا
كلام صادر على طريق التصوير والتمثيل مثل الثابت في علم الله تعالى، أو المثبت في
اللوح بالمثبت بالكتاب الذي كان في يده ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة، فإن الله
تعالى، قادر على كل شيء والنبي ﷺ
مستعد لإدراك المعاني الغيبية ومشاهدة الصور المصوغة لها.
«فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم» الظاهر
أن كل واحد من أهل الجنة وأهل النار يكتب أسماؤهم وأسماء آبائهم وقبائلهم سواء
كانوا من أهل الجنة أو النار للتمييز التام كما يكتب في الصكوك (ثم أجمل على
آخرهم) من قولهم أجمل الحساب إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال، وأثبت في آخر
الورقة مجموع ذلك وجملته كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ثم يوقعوا
في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال، وضمن أجمل معنى أوقع فعدي بعلى، أي أوقع
الإجمال على من انتهى إليه التفصيل، وقيل ضرب بالإجمال على آخر التفصيل أي: كتب
ويجوز أن يكون حالا أي: أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم، فعلى بمعنى إلى «فلا يزاد فيهم» جزاء شرط أي: إذا كان الأمر على ما
تقرر من التفصيل والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم «ولا ينقص» بصيغة المجهول «منهم
أبدا» لأن حكم الله لا يتغير.
وأما
قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ
مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٨-٣٩]، فمعناه لكل انتهاء مدة وقت مضروب،
فمن انتهى أجله يمحوه ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه وكل ذلك مثبت عند
الله في أم الكتاب وهو القدر، كما يمحو ويثبت هو القضاء، فيكون ذلك عين ما قدر
وجرى في الأجل فلا يكون تغييرا، أو المراد منه محو المنسوخ من الأحكام وإثبات
الناسخ أو محو السيئات من التائب وإثبات الحسنات بمكافأته وغير ذلك، ويمكن أن يقال
المحو والإثبات يتعلقان بالأمور المعلقة دون الأشياء المحكمة كذا في المرقاة.
(ففيم
العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه) بصيغة المجهول، يعني: إذا كان المدار
على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل، فقال: «سددوا»
أي: اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه، قاله في
النهاية، «وقاربوا» أي: اقتصدوا في الأمور
كلها واتركوا الغلو فيها والتقصير، يقال قارب فلان في أموره إذا اقتصد، كذا في
النهاية والجواب من أسلوب الحكيم أي: فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به وإنما
خلقتم للعبادة فاعملوا وسددوا، قاله الطيبي.
«فإن
صاحب الجنة يختم له (بصيغة المجهول) بعمل أهل الجنة» أي: بعمل مشعر بإيمانه ومشير بإيفائه
«وإن عمل» أي: ولو عمل قبل ذلك أي عمل (من
أعمال أهل النار) وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار (أعم من الكفر والمعاصي)
وإن عمل أي عمل أي: قبل ذلك من أعمال أهل الجنة ثم قال رسول الله ﷺ بيديه أي: أشار بهما، والعرب
تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال فتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول قال بيده،
أي: أخذ وقال برجله أي: مشى (فنبذهما) أي: طرح ما فيهما من الكتابين وفي الأزهار:
الضمير في نبذهما لليدين لأن نبذ الكتابين بعيد من دأبه انتهى، قال القاري: وفيه
أن نبذهما ليس بطريق الإهانة بل إشارة إلى أنه نبذهما إلى عالم الغيب، ثم هذا كله
إذا كان هناك كتاب حقيقي، وأما على التمثيل فيكون المعنى نبذهما أي: اليدين، قلت:
ولا ملجئ لحمل لفظ الكتاب في هذا الحديث على معناه المجازي، ولا مانع من إرادة
معناه الحقيقي، فالظاهر أن يحمل على الحقيقة.
قوله:
(أخبرنا بكر بن مضر) بن محمد بن حكيم المصري أبو محمد أو أبو عبد الملك ثقة ثبت من
الثامنة، قوله: (وفي الباب عن ابن عمر) أخرجه البزار كذا في الفتح.
قوله:
(هذا حديث حسن صحيح غريب) وأخرجه أحمد والنسائي.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات
النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
الدُّرَرُ: جمع دُرَّة وهي كبار اللؤلؤ ويسمى درة لنقائه وصفائه وشدة إضاءته وبريقه ومنه قول المولى تبارك وتعالى: {كأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}
ردحذفالموسوعة الحديثية