فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
باب اتقوا النار ولو بشق تمرة
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
الزَّكَاةِ:
بَابٌ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ.
{وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ وَإِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: ٢٦٦].
١٤١٥- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ
البَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ
أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ
الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ،
فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ
اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: ٧٩] الآيَةَ.
الشرح:
قوله: (باب اتقوا النار ولو بشق تمرة،
والقليل من الصدقة، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ}) قال الزين بن المنير وغيره: جمع المصنف بين لفظ
الخبر والآية لاشتمال ذلك كله على الحث على الصدقة قليلها وكثيرها، فإن قوله تعالى:
{أَمْوَالَهُمْ} يشمل قليل النفقة وكثيرها،
ويشهد له قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس". فإنه
يتناول القليل والكثير، إذ لا قائل بحل القليل دون الكثير. وقوله: "اتقوا
النار ولو بشق تمرة". يتناول
الكثير والقليل أيضا، والآية أيضا مشتملة على قليل الصدقة وكثيرها من جهة التمثيل
المذكور فيها بالطل والوابل، فشبهت الصدقة بالقليل بإصابة الطل، والصدقة بالكثير
بإصابة الوابل. وأما ذكر القليل من الصدقة بعد ذكر شق التمرة فهو من عطف العام على
الخاص، ولهذا أورد في الباب حديث أبي مسعود الذي كان سببا لنزول قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}
[التوبة: ٧٩] وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: تقدير الآية: مثل تضعيف
أجور الذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنة بالمطر، إن قليلا فقليل، وإن كثيرا فكثير.
وكأن البخاري أتبع الآية الأولى التي ضربت مثلا بالربوة بالآية الثانية
التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملا يفقده أحوج ما كان إليه، للإشارة إلى اجتناب
الرياء في الصدقة؛ ولأن قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: ٢٦٥] يشعر بالوعيد بعد الوعد، فأوضحه بذكر
الآية الثانية، وكأن هذا هو السر في اقتصاره على بعضها اختصارا.
ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها:
حديث أبي مسعود من وجهين تاما ومختصرا.
قوله: (عن سليمان) هو
الأعمش، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري.
قوله: (لما نزلت آية الصدقة) كأنه يشير
إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
[التوية: ١٠٣] الآية.
قوله: (كنا نحامل) أي: نحمل على ظهورنا بالأجرة،
يقال: حاملت بمعنى حملت كسافرت. وقال الخطابي: يريد نتكلف الحمل
بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، ويؤيده قوله في الرواية الثانية التي بعد هذه حيث قال:
انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل، أي:
يطلب الحمل بالأجرة.
قوله: (فجاء رجل فتصدق بشيء كثير)
هو عبد الرحمن بن عوف، كما سيأتي في التفسير، والشيء المذكور كان ثمانية آلاف
أو أربعة آلاف.
قوله: (وجاء رجل) هو أبو
عقيل بفتح العين كما سيأتي في التفسير، ونذكر هناك، إن شاء الله تعالى
الاختلاف في اسمه واسم أبيه، ومن وقع له ذلك أيضا من الصحابة كأبي خيثمة، وأن
الصاع إنما حصل لأبي عقيل لكونه أجر نفسه على النزح من البئر بالحبل.
قوله: (فقالوا) سمي من اللامزين في
"مغازي الواقدي" معتب بن قشير، وعبد الرحمن بن
نبتل بنون ومثناة مفتوحتين، بينهما موحدة ساكنة ثم لام.
قوله: {يَلْمِزُونَ}
أي: يعيبون، وشاهد الترجمة قوله: {وَالَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: ٧٩].
١٤١٦- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى،
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، انْطَلَقَ
أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ المُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ
اليَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ.
الشرح:
قوله: (سعيد بن يحيى) أي:
ابن سعيد الأموي.
قوله: (فيحامل) بضم التحتانية واللام
مضمومة بلفظ المضارع من المفاعلة. ويروى بفتح المثناة وفتح اللام أيضا، ويؤيده
قوله في رواية زائدة الآتية في التفسير: فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمد.
قوله: (فيصيب المد) أي: في مقابلة أجرته
فيتصدق به.
قوله: (وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف) زاد
في التفسير "كأنه يعرض بنفسه"، وأشار بذلك إلى ما كانوا عليه في عهد
النبي ﷺ من قلة الشيء، وإلى ما صاروا إليه
بعده من التوسع لكثرة الفتوح، ومع ذلك فكانوا في العهد الأول يتصدقون بما
يجدون ولو جهدوا الصحابة، والذين أشار إليهم آخرا بخلاف ذلك.
(تنبيه): وقع بخط مغلطاي في شرحه: "وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف" وهو تصحيف.
١٤١٧- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
الشرح:
ثانيها: حديث عدي بن حاتم، وهو بلفظ الترجمة، وهو طرف من حديثه المذكور في الباب الذي قبله، و "بشق" بكسر المعجمة: نصفها أو جانبها، أي: ولو كان الاتقاء بالتصدق بشق تمرة واحدة فإنه يفيد. وفي الطبراني من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا: "اجعلوا بينكم وبين النار حجابا، ولو بشق تمرة". ولأحمد من حديث ابن مسعود مرفوعا بإسناد صحيح: "ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة". وله من حديث عائشة بإسناد حسن: "يا عائشة، استتري من النار، ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان". ولأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه، وأتم منه بلفظ: "تقع من الجائع موقعها من الشبعان". وكأن الجامع بينهما في ذلك حلاوتها. وفي الحديث الحث على الصدقة بما قل وما جل، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار.
١٤١٨- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا
ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ،
فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ
مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ، فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيّ ﷺ
عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «مَنِ ابْتُلِيَ
مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ».
الشرح:
ثالثها: حديث عائشة، وسيأتي في
الأدب من وجه آخر عن الزهري بسنده، وفيه التقييد بالإحسان، ولفظه:
"من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". وسيأتي
الكلام عليه مستوفى هناك، إن شاء الله تعالى. ومناسبته للترجمة من جهة أن الأم
المذكورة لما قسمت التمرة بين ابنتيها صار لكل واحدة منهما شق تمرة، وقد دخلت في
عموم خبر الصادق أنها ممن ستر من النار؛ لأنها ممن ابتلي بشيء من البنات فأحسن.
ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله: "والقليل من الصدقة".
وللآية من قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا
جُهْدَهُمْ} [التوبة: ٧٩] لقولها في الحديث: "فلم تجد عندي غير تمرة". وفيه شدة
حرص عائشة على الصدقة امتثالا لوصيته ﷺ
لها حيث قال: "لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة". رواه البزار من
حديث أبي هريرة.
الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا
بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال