فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ الجَنَائِزِ: بَابُ البُكَاءِ عِنْدَ المَرِيضِ.
١٣٠٤- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ
وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: اشْتَكَى
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ:
«قَدْ قَضَى» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا
رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بَكَوْا،
فَقَالَ: «أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ
بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ. وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
يَضْرِبُ فِيهِ بِالعَصَا، وَيَرْمِي بِالحِجَارَةِ، وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ.
الشرح:
قوله: (باب البكاء عند المريض) سقط
لفظ "باب" من رواية أبي ذر، قال الزين بن المنير: ذكر
المريض أعم من أن يكون أشرف على الموت، أو هو في مبادئ المرض، لكن البكاء عادة
إنما يقع عند ظهور العلامات المخوفة كما في قصة سعد بن عبادة في حديث
هذا الباب.
قوله: (أخبرني عمرو) هو ابن الحارث
المصري.
قوله: (عن سعيد بن الحارث الأنصاري) هو
ابن أبي سعيد بن المعلى قاضي المدينة. ووقع في
رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية، عن سعيد بن الحارث بن
المعلى فكأنه نسب أباه لجده.
قوله: (اشتكى) أي: ضعف، و
"شكوى" بغير تنوين.
قوله: (فلما دخل عليه)
زاد مسلم في رواية عمارة بن غزية: فاستأخر
قومه من حوله حتى دنا رسول الله ﷺ وأصحابه الذين
معه.
قوله: (في غاشية أهله) بمعجمتين، أي:
الذين يغشونه للخدمة وغيرها، وسقط لفظ "أهله" من أكثر الروايات، وعليه
شرح الخطابي، فيجوز أن يكون المراد بالغاشية الغشية من الكرب، ويؤيده ما وقع
في رواية مسلم في غشيته. وقال التوربشتي: الغاشية هي الداهية من
شر، أو من مرض، أو من مكروه، والمراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي هو فيه لا
الموت؛ لأنه أفاق من تلك المرضة وعاش بعدها زمانا.
قوله: (فلما رأى القوم بكاء رسول الله ﷺ بكوا) في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد
قصة إبراهيم ابن النبي ﷺ؛
لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به
هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على
ذلك لا يضر.
قوله: (فقال: «ألا تسمعون») لا يحتاج إلى
مفعول؛ لأنه جعل كالفعل اللازم، أي: ألا توجدون السماع، وفيه إشارة إلى أنه فهم من
بعضهم الإنكار، فبين لهم الفرق بين الحالتين.
قوله: «إن الله» بكسر الهمزة؛ لأنه
ابتداء كلام.
قوله: «يعذب بهذا» أي: إن قال سوءا.
قوله: «أو يرحم» إن قال خيرا، ويحتمل أن
يكون معنى قوله: "أو يرحم"، أي: إن لم ينفذ الوعيد.
قوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»
أي: بخلاف غيره، ونظيره قوله في قصة عبد الله بن ثابت التي
أخرجها مالك في الموطأ من حديث جابر بن عتيك، ففيه: "فصاح
النسوة، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله ﷺ:
دعهن فإذا وجبت فلا تبكين باكية ... الحديث.
قوله: (وكان عمر) هو موصول بالإسناد
المذكور إلى ابن عمر، وسقطت هذه الجملة، وكذا التي قبلها من رواية مسلم،
ولهذا ظن بعض الناس أنهما معلقان.
وفي حديث ابن عمر من الفوائد
استحباب عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإمام أتباعه مع أصحابه،
وفيه النهي عن المنكر وبيان الوعيد عليه.
الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا
بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال