أحاديث رياض الصالحين: بابٌ في الأمر
بالمعروف والنهي عَن المنكر.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٠٤]، وَقالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١١٠]، وَقالَ
تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩]، وَقالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [التوبة:
٧١]، وَقالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ
بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: ٧٨-٧٩]،
وَقالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]، وَقالَ
تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:
٩٤]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا
بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:
١٦٥]. وَالآيات في البابِ كثيرةٌ معلومةٌ.
الشرح:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك وهو
"باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
"والأمر بالمعروف" يعني: الأمر
بكل ما عُرف من طاعة الله عزَّ وجلَّ، فكل خير تألفه النفوس، ويرتضيه أصحاب
الفطر المستقيمة والعقول السليمة فهو من جملة المعروف، ولهذا فإن الله تَبارَك
وتعالى، يحيل
بعض الأمور إلى العرف والمعروف، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:
١٩]، ولم يحدد فيه حدًّا معينًا، وإنما يكون ذلك في كل زمان ومكان بحسبه، ويشمل كل
ما عرف من الخير بجميع أنواعه العملية والقلبية، ويدخل في المعروف أيضًا ما يحفظ
للناس مروءتهم، ويبقيهم على سَنن قويم، وهدى مستقيم في معاشهم وتعاملاتهم، وإن لم
يكن ذلك قد ورد الأمر فيه بخصوصه من قبل الشارع، لكن الشريعة جاءت بكل خير، وبكل
ما فيه صلاح ونفع للناس، فقد نأمر الإنسان أحيانًا وننصحه بأمور تحفظ له كرامته
ومروءته، وإن لم يكن ذلك من قبيل المأمور به شرعًا بخصوصه، فإنك قد تقول لإنسان:
هذا الشيء لا يناسبك، وهو ليس محرمًا.
كذلك أيضًا "المنكر" فهو: اسم
لكل ما أنكره الشارع من الأمور المحرمة، والأمور المكروهة، ويدخل في ذلك ما يتعلق
بترك المعروف من طاعة الله عزَّ وجلَّ، من
الواجبات، بل يُنصح الإنسان ويُذكر حتى في ترك المستحبات، فهذا من النهي عن
المنكر، ويدخل فيه ما خالف الأعراف الصحيحة والذوق السليم، فقد يُنهى الإنسان عن
بعض الاشياء وهي ليست محرمة ولا مكروهة شرعًا بخصوصها ولكنها غير لائقة وتهبط
بمستوى الإنسان لذلك نُهي عنها، ومن تكامل الشريعة أن الله عزَّ وجلَّ، أحل فيها الطيبات وحرم
الخبائث، والخبائث هي: كل ما استخبثته الفطر السليمة والنفوس السوية، ولذلك فإن
بعض الأشياء لم يرد فيها دليل بخصوصه، مثل: أكل الحشرات ليس عندنا دليل يدل بخصوصه
على تحريم أكلها، لكن عندنا قول الله تعالى: {وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف:
١٥٧] فننهاهم عن هذا بهذا الاعتبار، فكل ما جاءت به الشريعة من الأوامر فهو
خير ومعروف وطيب، وكل ما نهت عنه فهو شر وخبيث ومرذول.
تفاوت درجات الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
وحينما يقال: الأمر بالمعروف فهو أعم من
الأمر الذي يقتضى الإلزام؛ لأن الأمر بالمعروف يجب معه الامتثال، كأن نقول لشخص:
صلِّ الفريضة، وقد يكون الأمر بمستحب من المستحبات، كما نقول لإنسان: صم الإثنين
والخميس، أو صلِّ الوتر، فهذا الأمر للاستحباب، وقد يكون الأمر بالشيء باعتبار ما
تدعو إليه الفطر السليمة، وتستحسنه العقول السوية مما يحفظ للإنسان كرامته، فيؤمر
به، وكذلك النهي عن المنكر إذا كان النهى عن شيء محرم، أو عن شيء مكروه فالأمر
يتفاوت أيضًا، فالنهي تارة يكون للإلزام كما يكون في النهي عن المحرمات، وتارة
للندب كما إذا نهينا عن شيء من المكروهات؛ ولهذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر في الجملة من أعظم واجبات الدين، ولكن في العمل المعين بخصوصه يتفاوت، فإن
كان المأمور به واجبًا فالأمر به واجب، وذلك إذا وُجد الشرط وانتفى المانع، وكان
الإنسان قادرًا على ذلك ولا يترتب عليه مفسدة أكبر، وإلا فقد يأمر الإنسان
بالمعروف، ويترتب عليه مفاسد كبيرة، ويكون الإنسان بهذا العمل مفسدًا لا مصلحًا،
وكذلك حينما نأمر بالمستحب يكون الأمر للاستحباب، فمثلًا إذا ترك بعض الناس شيئًا
من المستحبات هل يجب أمرهم؟ الجواب: لا، ولكن يستحب، إنسان فعل محرمًا هل يجب
نهيه؟ الجواب: نعم في هذه الحالة يكون واجبًا، مع وجود الشروط وانتفاء الموانع،
فعلوا مكروهًا لا يجب نهيهم، لكن يستحب ويستحسن، وتارة يحرم الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وذلك أن يأمر الإنسان بالمنكر وينهى عن المعروف جهلًا منه، كما يفعل
بعض الناس، فيأمر بأشياء من المنكر، وينهى عن أشياء من المعروف، ويظن أنه على
الجادة، وهو مخطئ، كذلك أيضا لو أن الإنسان أمر بمعروف أو نهى عن منكر حقيقة، ولكن
هذا الأمر يترتب عليه مفسدة كبيرة، فيكون حينها الأمر حرامًا؛ ولهذا قال
الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: ١٠٨] سبُّ آلهة المشركين أمر مباح.
ولكن عندما يؤدي إلى سب الله يكون
حرامًا، وكذلك قد تأمر إنسانًا بمعروف، أو تنهاه عن منكر فيؤدي ذلك إلى مفسدة
أكبر، كسب الدين، أو سب الله عزَّ وجلَّ، أو يؤدي إلى كبيرة من الكبائر فيحرم
الأمر حينها لما يترتب على ذلك، فأمر المآلات وما تصير إليه الأمور أمر يجب
مراعاته شرعًا، ولذلك يقول النبي ﷺ: «وَلَعَنَ اللَّهُ مَن لَعَنَ وَالِدَهُ» [١]، وهذا يفسره قوله ﷺ: «من الكبائرِ شتمُ الرَّجلِ والدَيْه، قالوا: يا رسولَ اللهِ! وهل
يشتُمُ الرَّجلُ والدَيْه؟ قال: نعم، يسُبُّ أبا الرَّجلِ؛ فيسُبُّ أباه؛ ويسُبُّ أمَّه؛
فيسُبُّ أمُّه» [٢]، النتيجة متوقعة هو لن يسكت،
فيكون بهذا متسببًا في لعن والديه، فلحقته اللعنة.
وصايا للدعاة.
ولذلك يجب على الإنسان أن ينظر فيما يأتي
وما يذر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون مريدًا لوجه الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بذلك،
ولا يريد تحقيق الذات كما يقال، أو قهر الناس، أو السيطرة أو فرض نوع من الوصاية
عليهم، أو نحو ذلك، لا يريد إلا ما عند الله عزَّ وجلَّ؛ لأن الله تعبدنا
بهذا، وهذه قضية نحن أحوج ما نكون إليها، والكلمات الصادقة تصل إلى القلوب، والناس
يميزون ويعرفون المخلص من غير المخلص، فليست القضية مجرد وظيفة يؤديها الإنسان، أو
تبعة يلقيها من كاهله، بل هذا فرض فرضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ورتب على تركه اللعن،
قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا
وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [المائدة: ٧٨]، ثم فسره بما بعده، فقال
تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: ٧٩]، {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة: ٦٣]، أي: هلا نهوهم عن هذه
الأمور.
والعقوبات الخاصة والعامة إنما تقع بسبب
ترك الأمر، وهو باب واسع، والناس بحاجة إلى تذكر هذا الموضوع دائمًا، وليست القضية
منوطة بفلان أو فلان، بل هذا واجب شرعي كما قال النبي ﷺ:
«مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ»
[٣]، أي:
كل من رأى وهو مستطيع، لكن بشرط العلم، ولا يعني ذلك أن يصير الآمر عالمًا نحريرًا
حتى يأمر، بل هناك أمور معروفة لا تحتاج، فأنت تعرف وجوب الصلاة، ورأيتَ إنسانًا
لا يصلي ذكِّره وانصح له، بالكلام الطيب، بالحكمة، نستطيع أن نؤدي ما نريد بقالب
مقبول تقبله النفوس وتُقبل عليه، أما الضرب والكلام العنيف الذي يجرح فكما قال الإمام
أحمد: "ما أغضبتَ أحدًا فقَبل منك"، تسب إنسانًا وتشتمه من أجل أن يقبل،
لن يقبل منك.
والداعية إلى الله عزَّ وجلَّ، ينبغي أن يبحث عن أقرب
الطرق، وأنسب الوسائل، وبطريقة محببة إلى النفوس، والتأمل في دعوة الأنبياء كيف يأمرون
وينهون، فهذا الخليل إبراهيم ﷺ، يتلطف في دعوته لأبيه،
فيقول ويكرر قوله: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ} [غافر: ٣٢] فنحن بحاجة إلى مثل هذا، لكن أحيانًا الإنسان يأتي
من باب الغيرة والغضب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يبالي بأحد، ولا تأخذه
في الله لومة لائم، ويقول كلامًا ثقيلًا، وهو يريد الخير، ولكنه أخطأ الطريق
الصحيح، فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يعرضها على نفسه، وأن يفكر فيها جيدًا، وسبل
إصلاح الناس، وما يحتاجون فيه إلى البدائل، وما يعتور ذلك ويمنع قبولهم من وجود
الأسوة السيئة، والقدوة الفاسقة، يأمرهم بأشياء وهو لا يفعلها، فيكون بذلك فتنة
لهم، ويكون مستوجبًا للوعيد الذي أخبر به النبي ﷺ:
«يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في
النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ» [٤]، ووجود الممارسات الخاطئة
في الخارج هي دعوة صامتة لفعلها، ونحن حينما نفعل أشياء غير جيدة فنحن ندعو لها في
الواقع، ولو كنا لا نتكلم أو نتفوه بها.
فنحتاج أولًا أن نفعل الخير، ونترك الشر
وليس معنى ذلك أنه لا يأمر ولا ينهى إلا من تحقق فيه الكمال، فالكمال متعذر، وإنما
سددوا وقاربوا، والتقصير في جانب لا يعفينا من الجانب الآخر، ففرائض الدين متعددة
صلاة، وصيام، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، فإذا تُرك شيء من طاعة الله تَبارَك
وتعالى، فليس
معنى ذلك أن يُترك الشيء الآخر، بعض الناس يقول: أنا غير ممتثل إذاً أنا لا آمر
ولا أنهى، نقول له: تركتَ واجبًا آخر وصار التقصير أعظم، والله تَبارَك
وتعالى، حينما
قال لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤]، عابهم الله على هذا الفعل القبيح، يأمرون
بشيء ولا يفعلونه، لكن أقبح منهم من لم يأمر ولا ينهى، هذه قضية مهمة، وأقبح
منه -نسأل الله العافية- من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، داعية للشر،
ويثبط عن الخير، ويخذِّل الناس عن فعله، وهذه أسوأ مرتبة.
ففي صدر باب "الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر" ذكر المؤلف رحمه الله، جملة من الآيات على عادته، ومن ذلك قوله
تبارك وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٠٤]، واللام هنا
لام الأمر، وما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، به فالأصل فيه الوجوب،
وهذا مما يستدل به على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} و"مِن" هذه
يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: لتكن منكم طائفة تقوم بهذه الفريضة، وعلى هذا المعنى
يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن
الباقين، ويحتمل أن تكون "مِن" هنا بيانية، {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ} أي: ينبغي أن تكونوا، كما يقول الإنسان لأولاده: أريد منكم أبناء
بررة، يعني: أن تكونوا كذلك، ولا يعني أنه يريد أن يكون بعضهم من البارين به، وكما
يقول الإنسان مثلًا لمن تحت يده: أريد منكم عاملين بإخلاص، أي: ليس المقصود أريد
من بعضكم أن يعمل بإخلاص، وإنما أريد منكم أن تتحولوا وأن تصيروا بهذه
الصفة، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ}،
أي: نريد منكم أن تكونوا بهذه الصفة، من القيام بهذه الفريضة، وأن تقوم الأمة بهذا
الواجب، وهذا هو المعنى الثاني، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، أن
"مِن" للتبعيض، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ} أي: ولتكن منكم طائفة يقومون بهذا الواجب، فإذا وجد ذلك
وتحقق سقط الإثم عن الباقين، فإن لم يتحقق ذلك -أو تحصل الكفاية- فإن التبعة
والإثم لا ينفك منه أحد من المستطيعين، كل مستطيع فإنه يلزمه أن يغير وأن ينكر إن
لم يحصل المقصود بالطائفة التي تأمر وتنهى، {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، والأمة هنا بمعنى الطائفة أو
الجماعة، وعلى المعنى الآخر {وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ} أي: جميع الأمة يدعون إلى الخير، وهذا عام لكل ما يحبه
الله عزَّ وجلَّ ويرضاه، {وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} والمعروف الذي يأمرون
به يدخل فيه هذا الخير، ويدخل فيه أيضًا ما يتعلق ببعض الأمور التي لا يتعلق بها
التحريم أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة، وإنما يكون ذلك من قبيل حفظ المروءات،
أو عدم مخالفة العرف، بحيث لا يفضي بالإنسان إلى أن يكون بمثابة من يلبس مثلًا ثوب
شهرة، أو نحو ذلك، فيدعون إلى الخير، وإلى طاعة الله عزَّ وجلَّ ومحابِّه،
ويأمرون بالمعروف: كل ما عُرف من طاعة الله عزَّ وجلَّ، وما تدعو إليه
الفطر، وما يقره أصحاب العقول السليمة، فكل ذلك داخل في المعروف، وينهون عن
المنكر: والمنكر كل ما نهى الله عزَّ وجلَّ، عنه فهو منكر، كل ما نابذ
الفطر وخالفها فهو من المنكر، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ}، {وَأُوْلَئِكَ}
الإشارة إلى هؤلاء بالبعيد ربما لرفعة شأنهم وعلو مرتبتهم، ورفيع مكانتهم، وكأن
هذا الأسلوب يشبه الحصر؛ لأنه جاء بـ"هم" بين طرفي الكلام لتقوية
المعنى، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
كأنه لا مفلح سوى هؤلاء، والفلاح: كلمة جامعة لا يقوم غيرها من الألفاظ في لغة
العرب مقامها، وتعني: الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، فمن قام بهذه الفريضة
حصل له الفلاح في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم الذين ينجيهم الله جَلَّ وَعَلاَ، من الكروب في الدنيا
والآخرة، ويحفظ بهم المجتمع من أن تنزل عليه العقوبات العامة.
وقال تعالى: {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: ١١٠]، وهنا ذكر
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الأوصاف
التي أهلتهم للخيرية، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}،
وهذه الصفة الأولى، {وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}،
وهذه الصفة الثانية.
ولما ذكر الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، أوصاف
الطائفة التي أثنى عليها من أهل الكتاب قال: {لَيْسُواْ
سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: ١١٣]، ثم قال: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: ١١٤]، فذكر
الإيمان أولًا ثم ذكر بعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهل العلم من
يقول: إن السبب في أن الله تَبارَك وتعالى، قدم في صفة هذه الأمة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات هذه
الأمة التي تميزها عن غيرها، فإذا تركوه فإنهم يكونوا قد ضيعوا ما ميزهم وفرقهم عن
غيرهم من سائر الأمم، ثم ذكر الإيمان بعده؛ قالوا: لأن الإيمان يشترك فيه المسلمون
ومن سبقهم من أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩] أمر بثلاثة أشياء، وهذه من أجمع
الآيات في القرآن، وقد سئل بعض السلف ما أجمع ما قيل في المروءة؟ فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩]، {خُذِ
الْعَفْوَ}، قال بعضهم: أي: ما عفا من أموال الناس، بمعنى الزائد على قدر
حوائجهم وما أشبه ذلك، والصحيح أنها تفسر بأن {خُذِ
الْعَفْوَ} أي: من أخلاق الناس، ولا تستقصِ؛ لأنك إذا استقصيت أفضيت
بهم إلى لون مما يخرجهم عن طورهم، ويودي بهم إلى لون من الهبوط في أخلاقهم، وقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، أي: بالمعروف، وهو: كل
ما عرف من طاعة الله عزَّ وجلَّ، وقوله: {وَأَعْرِضْ
عَنِ الْجَاهِلِينَ}؛ لأن الإنسان الذي يأمر بالعرف لابد أن يجد من
السفهاء ما يحتاج معه إلى صبر وإعراض، وإلا فإنه إن وقف مع كل سفيه تحول أمره
بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى لون من المخاصمات، والمهاترات فينزل بأخلاقه إلى
أخلاق هؤلاء، ويكون مدانيًا لهم ومساويًا لهم وقِرنًا لهم، فيهبط معهم ويطاولهم
السباب بالسباب والشتائم وما لا يليق من القول القبيح، وإنما يعرض عن هؤلاء، فيكون
بذلك مكملًا لنفسه، ومترفعًا عن جميع الدنايا.
قوله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:
٧١]، وهذه الآية فسر الله تَبارَك وتعالى، بها
هذه الولاية، ولاية أهل الإيمان لبعضهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
وهو أمر ظاهر، وذلك أن الإنسان إذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنه يكون
ناصحًا لإخوانه، ومسددًا لهم، ومكملًا لنقصهم، أضف إلى ذلك ما جاء في بعض الآثار
"إذا أمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر شددتَ ظهر المؤمن"، فيحصل بذلك
لأهل الإيمان من الرفعة ويحصل لهم بذلك من التكامل، وتلافي النقص والعيوب التي لا
يخلو منها بشر، والإنسان قد يغفل فإن لم يجد من ينبهه لربما يستمر على هذه الغفلة
وتدعو كل خطيئة أخواتها، وهكذا يستمر الهبوط والتلاشي والضعف حتى يضمحل الإنسان،
ويضمحل كثير من أعماله، بل ومن مفاهيمه التي كان يدعو إليها؛ لأن الهبوط في كثير
من الأحيان لا يشعر به الإنسان، وكثير من أولئك الذين انحرفوا وتراجعوا حينما يُسألون
يقولون: لم نتحول لهذا تحولًا مفاجئًا، وإنما كان ذلك مع الأيام والليالي، يحصل
الفتور عن بعض المستحبات التي كان يعملها الإنسان، ثم ما يلبث أن يتوسع شيئًا فشيئًا
في الأمور المشتبهة، ولربما يترخص في بعض الأمور التي كان يعتقد حرمتها، فيتأول في
أول الأمر، ثم بعد ذلك يأتي للحرام مُكَاشَرة، لا يبالي، حتى يصل إلى حد لربما ترك
معه الصلاة، فهذه الأمور كيف تُسدَّد وكيف يكمل النقص وكيف يستدرك الإنسان العجز
والضعف؟ يكون بتسديد إخوانه، كلما رأوا نقصًا ذكَّروه ونبهوه ونصحوه «المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ» [٥]، فيحصل عنده من التذكر ما
يعقبه الإبصار بإذن الله جَلَّ وَعَلاَ، ولا يستهويه الشيطان، ولا
يستطيع أهل الغفلة أن يستجرُّوه وأن يستزلوا قدمه ليكون مشاركًا لهم في الآثام؛
لأن له إخوانًا يذكرونه بالله إذا نسي، ويعظونه إذا غفل.
وقال تعالى: {لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُواْ
لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:
٧٨-٧٩]، وإسرائيل هو
يعقوب، وبنو إسرائيل هم ولد يعقوب عليه السلام، وهم أسباط كما هو معلوم،
فجعلهم الله تَبارَك وتعالى، على
اثني عشر سبطًا، كل سبط يمثل قبيلة، فهؤلاء من الإسرائيليين الذين وصفهم الله تَبارَك
وتعالى، بأنهم لُعنوا على لسان داود، قال بعضهم: لعنوا على لسان داود عليه
السلام، يعنى:
به أولئك الذين اعتدوا في السبت، فكان لعنهم بأن صيرهم الله تَبارَك وتعالى، قردة خاسئين، وأما
الذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم ﷺ فهم أولئك
الذين كفروا من أصحاب المائدة، {فَمَن يَكْفُرْ
بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ
الْعَالَمِينَ} [المائدة: ١١٥]، قالوا: إنهم تحولوا إلى خنازير، وبهذا
المعنى فسر بعض السلف قوله تَبارَك وتعالى: {وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:
٦٠]، فقالوا: القردة هم الذين اعتدوا في السبت، والخنازير هم الذين كفروا من أصحاب
المائدة، وهذا لا يوجد -فيما أعلم- ما يدل عليه بخصوصه، ولكن يذكره بعض المفسرين
أخذًا من أخبار بني إسرائيل، ولا يُبنى ذلك على شيء يوثق به -والله تعالى أعلم،
لكن يقال: إنهم لعنوا على لسان هؤلاء الأنبياء وهم من أفضل أنبيائهم عليهم الصلاة
والسلام، واللعن هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
وحينما تلحق الإنسانَ لعنةُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن ذلك يعني أنه قد
فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ما الذي فعله هؤلاء؟ قال: {بِمَا
عَصَوا} الباء للسببية، أي: بسبب عصيانهم {وَّكَانُواْ
يَعْتَدُونَ}، أي: بسبب تجاوزهم للحد الذي حده الله عزَّ وجلَّ لهم، ومن ذلك اعتداؤهم
في السبت، ومن ذلك أيضًا أنهم بعد موسى عليه السلام، عندما دخلوا الأرض
المقدسة أمروا بفعل وقول، أمروا أن يدخلوا سجدًا، أي: ركعًا، حمدًا على نعمة
الفتح، وأن يقولوا قولًا يشكرون الله عزَّ وجلَّ فيه،
أي: يقولوا حِطة، أي: حُط عنا خطايانا، فدخلوا يزحفون على أستاههم استهزاء ويقولون:
حبة في شعرة، بدلًا من حطة، وفي بعض الروايات حنطة في شعرة -قبحهم الله،
فهذا من اعتدائهم، واعتداؤهم كثير جداً، ثم قال الله تَبارَك وتعالى، مبينًا
ما أوجب لهم اللعن أيضًا: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ
عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}، يحتمل أن يكون المعنى {لاَ
يَتَنَاهَوْنَ} أي: لا يقصرون، أي: أن الواحد منهم يستمر في معصية
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا
يرعوي، ولا يكف، ولا يتناهى، يعني: لا ينقطع، لا يمتنع، تقول: هذا عمل غير متناهٍ،
وهذا لا يتناهى، أي: لا يكف عن عمله بل هو مستمر، يحتمل هذا وهو اختيار ابن جرير
-رحمه الله، والمعنى المشهور الذي عليه الجمهور هو أن قوله: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ}، أي: لا ينهى
بعضهم بعضًا، وهو المتبادر من ظاهر الآية، {كَانُواْ
لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}، لا ينهى بعضهم بعضاً إذا رأوا
المنكر فاستحقوا اللعن والذم، ولهذا جاء بـ "بئس" الدالة على الذم، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، وسمى تركهم
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعلًا، فدل على أن التروك داخلة في جملة الأفعال.
قوله تبارك وتعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]، وهذا كقوله تَبارَك
وتعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى:
٤٨]، وهو أحد الوجهين في قوله عزَّ وجلَّ: {فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (٩) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى} [الأعلى: ٩-١١]، فقوله: {فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ} هذا أمر بالتذكير، كما قال هنا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: ٤٥]، هو تذكير للأحمر والأسود،
إلا أنه ذكر المنتفعين به، كما قال: {فَذَكِّرْ إِن
نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} قال
بعض أهل العلم: ذكِّر سواء نفعت الذكرى أو لم تنفع، فذَكَرَ أشرف القسمين؛ لأن
هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكير، وإلا فإنه يجب أن يؤمر الناس بالمعروف وأن
يُنهوا عن المنكر، وإن لم يُرجَ منهم تذكر واتعاظ وانتفاع بحال من الأحوال، هذا هو
الأرجح؛ لأن ذلك واجب يتعلق بذمة الإنسان، وتلحقه التبعة إن تركه، فهو يجب عليه أن
يؤديه عبودية لله تَبارَك وتعالى، وإعذارًا للخلق.
ولذلك فإن أصحاب السبت من بني إسرائيل
أولئك الذين احتالوا على صيد السمك في القرية التي كانت حاضرة البحر، لما
وعظهم الواعظون وذكروهم بالله عزَّ وجلَّ، وقالت طائفة ساكتة يائسة من قبولهم
ومن صلاحهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: ١٦٤]، أي: إنّ وعظنا
هو إعذار إلى الله تَبارَك وتعالى، ومن أجل المعذرة، وهذا كقوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: ٨٥]، أي: مسألتنا
حطة، فهنا "معذرة إلى ربكم" أي: أن نصحنا من أجل المعذرة.
ولهذا لما ذكر الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، النتيجة
بعد ذلك قال: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ
السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:
١٦٥]، وسكت عن الطائفة الساكتة، فبعض السلف قال: إنهم نجوا، وبعضهم قال: إنهم هلكوا،
والذين قالوا: إنهم نجوا قالوا: إنه سكت عنهم فلم ينوِّه بذكرهم، أو يخبر عن
نجاتهم؛ لقلة الاكتراث بهم، فهم لا يستحقون هذا، وكان عكرمة يقول: "ما زلت
بابن عباس حتى أظهرت له أنهم نجوا"، أي: حتى قَبلَ ذلك وأقر به، وأقنعته
بقولي هذا.
فالمقصود أن الإنسان لا تبرأ ذمته إن لم
يأمر وينهى، حتى لو لم يرجُ نفع هذا المأمور والمنهي.
وهنا أيضًا قال الله تَبارَك وتعالى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: ٩٤]، أي: عليك أن تبلغ، وأن تبين للناس هذا
الحق الذي جاءك الله تَبارَك وتعالى به،
وأوحاه إليك، سواء قبلوا ذلك منك، أو لم يقبلوه، فإنه ليس من شأنك هداية القلوب،
والمقصود أن قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، أي: فاصدع بالحق لكل
الناس، ولم يقل: فاصدع لمن ترجو عنده القبول، وإنما أطلقه، والأصل بقاء المطلق على
إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن يهدي قلوبنا، وأن
يصلح أعمالنا، وأن يهدينا جميعًا إلى طاعته ومرضاته وما يقرب إليه، وأن يغفر لنا
ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين شبابًا وشيبًا رجالًا
ونساء، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد،
وآله وصحبه.
[١] أخرجه مسلم: (١٩٧٨).
[٢] أخرجه البخاري: (٥٩٧٣)، ومسلم: (٩٠)
واللفظ له.
[٣] أخرجه مسلم: (٤٩).
[٤] أخرجه البخاري: (٣٢٦٧)، ومسلم:
(٢٩٨٩).
[٥] أخرجه أبو داود: (٤٩١٨) باختلاف
يسير، والبخاري في "الأدب المفرد" (٢٣٩) واللفظ له.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
