باب الساعة التي في يوم الجمعة
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
الجُمُعَةِ، بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ.
٩٣٥- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ
يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ
يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ
تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَأَشَارَ بِيَدِهِ
يُقَلِّلُهَا.
الشرح:
قوله: (باب الساعة التي في يوم الجمعة)
أي: التي يجاب فيها الدعاء.
قوله: (عن أبي الزناد) كذا
رواه أصحاب مالك في الموطأ وثم فيه إسناد آخر إلى أبي هريرة وفيه
قصة له مع عبد الله بن سلام.
قوله: «فيه ساعة» كذا فيه مبهمة وعينت في
أحاديث أخر كما سيأتي.
قوله: «لا يوافقها» أي: يصادفها وهو أعم
من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها.
قوله: «وهو قائم يصلي يسأل الله» هي صفات
لمسلم أعربت حالا، ويحتمل أن يكون يصلي حالا منه لاتصافه بقائم ويسأل حال مترادفة
أو متداخلة، وأفاد ابن عبد البر أن قوله: "وهو قائم" سقط من
رواية أبي مصعب وابن أبي
أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة وأثبتها الباقون، قال: وهي زيادة
محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه،
وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها
من الحديث، وكان السبب في ذلك أنه يشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه
الساعة، وهما حديثان أحدهما أنها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من
الصلاة، والثاني أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس. وقد احتج أبو
هريرة على عبد الله بن سلام لما ذكر له القول الثاني بأنها ليست
ساعة صلاة وقد ورد النص بالصلاة فأجابه بالنص الآخر أن منتظر الصلاة في حكم المصلي
فلو كان قوله "وهو قائم" عند أبي هريرة ثابتا لاحتج عليه بها
لكنه سلم له الجواب وارتضاه وأفتى به بعده. وأما إشكاله على الحديث الأول فمن جهة
أنه يتناول حال الخطبة كله وليست صلاة على الحقيقة، وقد أجيب عن هذا الإشكال بحمل
الصلاة على الدعاء أو الانتظار، ويحمل القيام على الملازمة والمواظبة، ويؤيد ذلك
أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد مع أن السجود مظنة إجابة
الدعاء، فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه، فدل على أن المراد مجاز القيام وهو
المواظبة ونحوها ومنه قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: ٧٥] فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي
بالقائم من باب التعبير عن الكل بالجزء، والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة.
قوله: «شيئا» أي: مما يليق أن يدعو به
المسلم ويسأل ربه تعالى، وفي رواية سلمة بن علقمة عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة عند المصنف في الطلاق" يسأل
الله خيرا"، ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة مثله،
وفي حديث أبي لبابة عند ابن ماجه" ما
لم يسأل حراما"، وفي
حديث سعد بن عبادة عند أحمد" ما
لم يسأل إثما أو قطيعة رحم" وهو
نحو الأول، وقطيعة الرحم من جملة الإثم فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
قوله: (وأشار بيده) كذا هنا بإبهام
الفاعل، وفي رواية أبي مصعب عن مالك"
وأشار رسول الله ﷺ" وفي رواية سلمة بن علقمة التي أشرت إليها" ووضع أنملته على
بطن الوسطى أو الخنصر قلنا يزهدها" وبين أبو مسلم
الكجي أن الذي وضع هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة،
وكأنه فسر الإشارة بذلك، وأنها ساعة لطيفة تتنقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره،
وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله: "يزهدها" أي:
يقللها، ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة" وهي ساعة خفيفة" وللطبراني في
الأوسط في حديث أنس" وهي
قدر هذا، يعني قبضة" قال الزين
بن المنير: الإشارة
لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها، وغزارة فضلها. وقد اختلف أهل
العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى
البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من
اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما
ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق
اليوم أو بعضه؟ وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إلي من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى
الجمع بينها والترجيح.
فالأول: إنها رفعت، حكاه ابن عبد
البر عن قوم وزيفه، وقال عياض: رده السلف على قائله.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي
عاصم عن عبد الله بن عبس مولى معاوية قال: "قلت لأبي هريرة: إنهم
زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء رفعت، فقال: كذب من قال ذلك.
قلت: فهي في كل جمعة؟ قال نعم" إسناده قوي. وقال صاحب الهدى: إن أراد قائله
أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فصارت مبهمة احتمل، وإن أراد حقيقتها فهو
مردود على قائله.
القول الثاني: إنها موجودة لكن في جمعة
واحدة من كل سنة، قاله كعب الأحبار لأبي هريرة، فرد عليه فرجع إليه،
رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن.
الثالث: إنها مخفية في جميع اليوم كما
أخفيت ليلة القدر في العشر. روى ابن خزيمة والحاكم من
طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة"
سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة فقال:
سألت النبي ﷺ عنها فقال: قد أعلمتها ثم
أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر.
وروى عبد
الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري فقال: لم أسمع فيها بشيء،
إلا أن كعبا كان يقول: لو أن إنسانا قسم جمعة في جمع لأتى على تلك الساعة،
قال ابن المنذر: معناه
أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلى وقت معلوم، ثم في جمعة أخرى
يبتدئ من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى يأتي على آخر النهار. قاله: وكعب هذا هو كعب
الأحبار، قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: إن طلب حاجة في يوم ليسير،
قال: معناه أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت
الذي يستجاب فيه الدعاء انتهى.
والذي قاله ابن عمر يصلح لمن
يقوى على ذلك، وإلا فالذي قاله كعب سهل على كل أحد، وقضية ذلك أنهما
كانا يريان أنها غير معينة، وهو قضية كلام جمع من
العلماء كالرافعي وصاحب المغني وغيرهما حيث قالوا: يستحب أن يكثر من
الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، ومن حجة هذا القول تشبيهها بليلة
القدر والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والحكمة في ذلك حث العباد على الاجتهاد في
الطلب واستيعاب الوقت بالعبادة، بخلاف ما لو تحقق الأمر في شيء من ذلك لكان مقتضيا
للاقتصار عليه وإهمال ما عداه.
الرابع: إنها تنتقل في يوم الجمعة ولا
تلزم ساعة معينة لا ظاهرة ولا مخفية، قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال،
وذكره الأثرم احتمالا، وجزم به ابن عساكر وغيره،
وقال المحب الطبري إنه الأظهر، وعلى هذا لا يتأتى ما
قاله كعب في الجزم بتحصيلها.
الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة،
ذكره شيخنا الحافظ أبو الفضل في "شرح الترمذي" وشيخنا سراج
الدين بن الملقن في "شرحه على البخاري" ونسباه
لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة، وقد رواه الروياني في
مسنده عنها فأطلق الصلاة ولم يقيدها. رواه ابن المنذر فقيدها بصلاة الجمعة،
والله أعلم.
السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس،
رواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي
سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وحكاه القاضي أبو الطيب
الطبري وأبو نصر بن الصباغ وعياض والقرطبي وغيرهم وعبارة بعضهم:
ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
السابع مثله وزاد: ومن العصر إلى الغروب.
رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن ليث بن أبي
سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وتابعه فضيل بن
عياض عن ليث عن ابن المنذر، وليث ضعيف وقد اختلف
عليه فيه كما ترى.
الثامن مثله وزاد: وما بين أن ينزل
الإمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه في الترغيب له من طريق عطاء
بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال
"التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات
الثلاثة" فذكرها.
التاسع: إنها أول ساعة بعد طلوع الشمس
حكاه الجبلي في "شرح التنبيه" وتبعه المحب الطبري في شرحه.
العاشر: عند طلوع الشمس
حكاه الغزالي في الإحياء وعبر عنه الزين بن المنير في شرحه
بقوله: هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع، وعزاه لأبي ذر.
الحادي عشر: إنها في آخر الساعة الثالثة
من النهار حكاه صاحب "المغني" وهو في مسند الإمام أحمد من
طريق عليّ بن أبي طلحة عن أبي هريرة مرفوعا" يوم الجمعة فيه
طبعت طينة آدم، وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله فيها استجيب له" وفي
إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف، وعليّ لم يسمع من أبي
هريرة، قال المحب الطبري: قوله" في آخر ثلاث
ساعات" يحتمل
أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاث الأول، ثانيهما أن يكون
المراد أن في آخر كل ساعة من الثلاث ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على
بعض الساعة.
الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل
نصف ذراع حكاه المحب الطبري في الأحكام وقبله الزكي المنذري.
الثالث عشر: مثله، لكن قال أن يصير الظل
ذراعا حكاه عياض والقرطبي والنووي.
الرابع عشر: بعد زوال الشمس بشبر إلى
ذراع رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي إلى الحارث بن
يزيد الحضرمي عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن
امرأته سألته عنها فقال ذلك، ولعله مأخذ القولين اللذين قبله.
الخامس عشر: إذا زالت الشمس
حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وورد نحوه في أثناء حديث
عن عليّ، وروى عبد الرزاق من طريق الحسن أنه كان يتحراها
عند زوال الشمس بسبب قصة وقعت لبعض أصحابه في ذلك، وروى ابن سعد في
الطبقات عن عبيد الله بن نوفل نحو القصة، وروى ابن عساكر من
طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كانوا يرون الساعة
المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس، وكأن مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع
الملائكة وابتداء دخول وقت الجمعة وابتداء الأذان ونحو ذلك.
السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة
رواه ابن المنذر عن عائشة قالت: "يوم الجمعة مثل
يوم عرفة تفتح فيه أبواب السماء، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد
شيئا إلا أعطاه. قيل: أية ساعة؟ قالت: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة" وهذا
يغاير الذي قبله من حيث إن الأذان قد يتأخر عن الزوال، قال الزين بن المنير: ويتعين
حمله على الأذان الذي بين يدي الخطيب.
السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل
في الصلاة ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن
الصباغ بلفظ: إلى أن يدخل الإمام.
الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام
حكاه القاضي أبو الطيب الطبري.
التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس
حكاه أبو العباس أحمد بن عليّ بن كشاسب الدزماري وهو بزاي ساكنة وقبل
ياء النسب راء مهملة في نكته على التنبيه عن الحسن ونقله عنه
شيخنا سراج الدين بن الملقن في شرح البخاري،
وكان الدزماري المذكور في عصر ابن الصلاح.
العشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام
الصلاة رواه ابن المنذر عن الحسن. وروى أبو بكر
المروزي في "كتاب الجمعة" بإسناد صحيح
إلى الشعبي عن عوف بن حصيرة رجل من أهل الشام مثله.
الحادي والعشرون: عند خروج الإمام
رواه حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب"
عن الحسن أن رجلا مرت به وهو ينعس في ذلك الوقت.
الثاني والعشرون: ما بين خروج الإمام إلى
أن تنقضي الصلاة رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله
ومن طريق معاوية بن قرة عن أبي بردة عن أبي
موسى قوله وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك.
الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع
إلى أن يحل رواه سعيد بن منصور وابن
المنذر عن الشعبي قوله أيضا، قال الزين بن المنير: ووجهه
أنه أخص أحكام الجمعة؛ لأن العقد باطل عند الأكثر فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة
بحيث ضاق الوقت فتشاغل اثنان بعقد البيع فخرج وفاتت تلك الصلاة لأثما ولم يبطل
البيع.
الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى
انقضاء الصلاة رواه حميد بن زنجويه عن ابن
عباس وحكاه البغوي في شرح السنة عنه.
الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الإمام
على المنبر إلى أن تقضى الصلاة رواه مسلم وأبو داود من
طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي
موسى أن ابن عمر سأله عما سمع من أبيه في ساعة الجمعة فقال:
سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ﷺ فذكره، وهذا
القول يمكن أن يتخذ من اللذين قبله.
السادس والعشرون: عند التأذين وعند تذكير
الإمام وعند الإقامة رواه حميد بن زنجويه من طريق سليم بن
عامر عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي.
السابع والعشرون: مثله، لكن قال: إذا أذن
وإذا رقي المنبر وإذا أقيمت الصلاة رواه ابن أبي شيبة وابن
المنذر عن أبي أمامة الصحابي قوله: قال الزين بن المنير: ما
ورد عند الأذان من إجابة الدعاء فيتأكد يوم الجمعة وكذلك الإقامة، وأما زمان جلوس
الإمام على المنبر فلأنه وقت استماع الذكر، والابتداء في المقصود من الجمعة.
الثامن والعشرون: من حين يفتتح الإمام
الخطبة حتى يفرغ رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن عبد
الرحمن عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا وإسناده ضعيف.
التاسع والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر
وأخذ في الخطبة حكاه الغزالي في الإحياء.
الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين
حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح.
الحادي والثلاثون: إنها عند نزول الإمام
من المنبر رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن جرير وابن
المنذر بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق عن أبي بردة قوله
وحكاه الغزالي قولا بلفظ: إذا قام الناس إلى الصلاة.
الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى
يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن أيضا،
وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعا بإسناد
ضعيف.
الثالث والثلاثون: من إقامة الصف إلى
تمام الصلاة رواه الترمذي وابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله
بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا وفيه: قالوا: أية ساعة يا رسول الله؟ قال:
حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، وقد ضعف كثير رواية كثير
ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ "ما بين أن ينزل الإمام
من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة" ورواه ابن أبي شيبة من
طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله،
وإسناده قوي إليه، وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه وبرك عليه ومسح على رأسه،
وروى ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين نحوه.
الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان
النبي ﷺ يصلي فيها الجمعة رواه ابن
عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين، وهذا يغاير الذي قبله من جهة إطلاق ذاك
وتقييد هذا، وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعة أفضل صلوات ذلك اليوم وأن الوقت
الذي كان يصلي فيه النبي ﷺ أفضل الأوقات، وأن
جميع ما تقدم من الأذان والخطبة وغيرهما وسائل وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات،
ويؤيده ورود الأمر في القرآن بتكثير الذكر حال الصلاة كما ورد الأمر بتكثير الذكر
حال القتال وذلك في قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: ٤٥]، وفي قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] إلى أن ختم الآية بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: ٤٥]، وليس
المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار وإن عطف عليه، وإنما المراد تكثير المشار إليه
أول الآية ﷺ، والله أعلم.
الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى
غروب الشمس رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن
عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي
سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ" فالتمسوها
بعد العصر" وذكر ابن
عبد البر أن قوله: "فالتمسوها إلخ" مدرج في الخبر من قول أبي
سلمة، ورواه ابن منده من هذا الوجه وزاد "أغفل ما يكون
الناس" ورواه أبو نعيم في الحلية من
طريق الشيباني عن عون بن عبد الله بن عتبة عن أخيه عبيد
الله كقول ابن عباس، ورواه الترمذي من طريق موسى بن
وردان عن أنس مرفوعا بلفظ
" بعد العصر إلى غيبوبة الشمس" وإسناده
ضعيف.
السادس والثلاثون: في صلاة العصر
رواه عبد الرزاق عن عمر بن ذر عن يحيى بن إسحاق بن أبي
طلحة عن النبي ﷺ مرسلا وفيه قصة.
السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت
الاختيار حكاه الغزالي في الإحياء.
الثامن والثلاثون: بعد العصر كما تقدم
عن أبي سعيد مطلقا، ورواه ابن عساكر من طريق محمد بن
سلمة الأنصاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي
سعيد مرفوعا بلفظ" وهي
بعد العصر" ورواه ابن
المنذر عن مجاهد مثله، ورواه ابن جريج من
طريق إبراهيم بن ميسرة عن رجل أرسله عمرو بن
أويس إلى أبي هريرة فذكر مثله قال: وسمعته
عن الحكم عن ابن عباس مثله، ورواه أبو بكر
المروذي من طريق الثوري وشعبة جميعا عن يونس بن
خباب قال الثوري: عن عطاء،
وقال شعبة: عن
أبيه عن أبي هريرة مثله "وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن
طاوس عن أبيه أنه كان يتحراها بعد العصر، وعن ابن جريج عن بعض أهل
العلم قال: لا أعلمه إلا من ابن عباس مثله، فقيل له: لا صلاة بعد العصر،
فقال: بلى، لكن من كان في مصلاه لم يقم منه فهو في صلاة".
التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب
آخر النهار كما تقدم أول الباب عن سلمة بن علقمة.
الأربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب
رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن
كيسان عن طاوس قوله، وهو قريب من الذي بعده.
الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر
رواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي
سلمة عن جابر مرفوعا وفي أوله" أن
النهار اثنتا عشرة ساعة" ورواه مالك وأصحاب
السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن
إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن
سلام، قوله وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك واحتجاج عبد الله بن
سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة، وروى ابن جرير من طريق العلاء
بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا مثله ولم يذكر عبد
الله بن سلام قوله ولا القصة، ومن طريق ابن أبي ذئب عن سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قوله،
وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن
عقبة أنه سمع أبا سلمة يقول: حدثنا عبد الله بن
عامر فذكر مثله، وروى البزار وابن جرير من طريق محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن
سلام مثله، وروى ابن أبي خيثمة من طريق يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد فذكر
الحديث وفيه: قال أبو سلمة فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له
ذلك فلم يعرض بذكر النبي ﷺ بل قال: النهار
اثنتا عشرة ساعة، وإنها لفي آخر ساعة من النهار
. ولابن خزيمة من
طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قلت
-ورسول الله ﷺ جالس-، إنا لنجد في كتاب الله
أن في الجمعة ساعة، فقال رسول الله ﷺ: أو بعض
ساعة، قلت: نعم أو بعض ساعة الحديث، وفيه: قلت أي ساعة؟ فذكره. وهذا
يحتمل أن يكون القائل "قلت "عبد
الله بن سلام فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة فيكون موقوفا
وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير بأن عبد الله
بن سلام لم يذكر النبي ﷺ في الجواب.
الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرص الشمس،
أو من حين تدلي الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها رواه الطبراني في
الأوسط والدارقطني في العلل والبيهقي في الشعب وفضائل الأوقات
من طريق زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ حدثتني مرجانة مولاة فاطمة
بنت رسول الله ﷺ قالت:
حدثتني فاطمة -عليها
السلام- عن أبيها فذكر الحديث، وفيه: قلت للنبي ﷺ
أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب. فكانت فاطمة إذا
كان يوم الجمعة أرسلت غلاما لها يقال له زيد ينظر لها الشمس فإذا أخبرها
أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب، في إسناده اختلاف على زيد بن
عليّ، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في
مسنده من طريق سعيد بن راشد عن زيد بن عليّ عن فاطمة لم
يذكر مرجانة وقال فيه: إذا تدلت الشمس للغروب وقال فيه: تقول لغلام يقال
له أربد: اصعد
على الظراب، فإذا تدلت الشمس للغروب فأخبرني، والباقي نحوه، وفي آخره: ثم تصلي
يعني المغرب.
فهذا جميع ما اتصل إليّ من الأقوال في
ساعة الجمعة مع ذكر أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة
إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره.
ثم ظفرت بعد كتابة هذا بقول زائد على ما تقدم وهو غير منقول، استنبطه صاحبنا
العلامة الحافظ شمس الدين الجزري وأذن لي في روايته عنه في كتابه المسمى
"الحصن الحصين" في الأدعية لما ذكر الاختلاف في ساعة الجمعة واقتصر على
ثمانية أقوال مما تقدم ثم قال ما نصه: والذي أعتقده أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة
في صلاة الجمعة إلى أن يقول: آمين، جمعا بين الأحاديث التي صحت.
كذا قال، ويخدش فيه أنه يفوت على الداعي
حينئذ الإنصات لقراءة الإمام، فليتأمل. قال الزين بن المنير: يحسن
جمع الأقوال، وكان قد ذكر مما تقدم عشرة أقوال تبعا لابن بطال. قال:
فتكون ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها
والله المستعان. وليس المراد من أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى
أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى: "يقللها"، وقوله: "وهي ساعة
خفيفة". وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة
مثلا وانتهاؤه انتهاء الصلاة. وكأن كثيرا من القائلين عين ما اتفق له وقوعها فيه
من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة، فبهذا التقرير يقل الانتشار جدا، ولا
شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن
سلام كما تقدم. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها
حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام اهـ. وما
عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى
اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه ﷺ أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك
منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره.
وقد اختلف السلف في أيهما أرجح،
فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن
مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، بذلك قال البيهقي وابن
العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف
فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب.
وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا وفي أحد الصحيحين،
وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن
سلام فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك.
وقال ابن عبد البر: إنه
أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي
سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم
افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. ورجحه كثير من الأئمة
أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي،
وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان
يختاره ويحكيه عن نص الشافعي. وأجابوا
عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث
لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب:
أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه،
قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا
قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة وزاد:
إنما هي كتب كانت عندنا. وقال عليّ بن المديني: لم أسمع أحدا
من أهل المدينة يقول عن مخرمة إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي،
ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا
لأنا نقول: وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع.
وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن
قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل
الكوفة وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد
وهو واحد.
وأيضا فلو كان عند أبي
بردة مرفوعا لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدارقطني بأن
الموقوف هو الصواب، وسلك صاحب الهدى مسلكا آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في
أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون ﷺ دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا
كقول ابن عبد البر: الذي
ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين. وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد،
وهو أولى في طريق الجمع. وقال ابن المنير في الحاشية: إذا علم أن فائدة
الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو
بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها.
وفي الحديث من الفوائد غير ما
تقدم فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وفي مسلم أنه
خير يوم طلعت عليه الشمس. وفيه فضل الدعاء واستحباب الإكثار منه، واستدل
به على بقاء الإجمال بعد النبي ﷺ، وتعقب بأن لا
خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية كوقت الساعة، فهذا
الاختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر -وهو تحصيل
الأفضلية-، يمكن الوصول إليه والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم أو الليلة، فلم يبق في
الحكم الشرعي إجمال والله أعلم. فإن قيل: ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط
المتقدم مع أن الزمان يختلف باختلاف البلاد والمصلي فيتقدم بعض على بعض، وساعة
الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب: باحتمال أن تكون ساعة
الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل
الوقت الممتد مظنة لها وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل
فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، والله أعلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: