فتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري
باب كتابة العلم
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
العِلْمِ بَابٌ: كِتَابَةِ العِلْمِ.
١١٣ - حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو،
قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" تَابَعَهُ
مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الشرح:
قوله:
(حدثنا عمرو) هو ابن دينار المكي.
قوله:
(عن أخيه) هو همام بن منبه بتشديد الموحدة المكسورة، وكان أكبر منه سنا لكن تأخرت
وفاته عن وهب وفي الإسناد ثلاثة من التابعين من طبقة متقاربة أولهم عمرو.
قوله:
(فإنه كان يكتب ولا أكتب) هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند
عبد الله بن عمرو أي: ابن العاص على ما عنده ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان
جازمًا بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن النبي ﷺ
منه إلا عبد الله مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي
عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال إذ التقدير، لكن
الذي كان من عبد الله وهو الكتابة لم يكن مني سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا لما
تقتضيه العادة أم لا وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات:
أحدها:
أن عبد الله كان مشتغلًا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه.
ثانيها:
أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن
يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة وكان أبو هريرة متصديًا فيها للفتوى والتحديث إلى
أن مات ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمان
مئة نفس من التابعين ولم يقع هذا لغيره.
ثالثها:
ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي ﷺ
له بالا ينسى ما يحدثه به كما سنذكره قريبًا.
رابعها:
أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث
منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين والله أعلم.
(تنبيه)
قوله: (ولا أكتب) قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال:
تحدث عند أبي هريرة بحديث فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبًا من حديث النبي ﷺ
وقال: هذا هو مكتوب عندي. قال: ابن عبد البر حديث همام أصح ويمكن الجمع بأنه لم
يكن يكتب في العهد النبوي ثم كتب بعده.
قلت:
وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبًا عنده أن يكون بخطه وقد ثبت أنه
لم يكن يكتب فتعين أن المكتوب عنده كان بغير خطه.
قوله:
(تابعه معمر) أي: ابن راشد، يعني: تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام
والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر وأخرجها أبو بكر بن على المروزي في
كتاب (العلم) له عن حجاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في (المدخل) من طريق
عمرو بن شعيب عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: "ما كان
أحد أعلم بحديث رسول الله ﷺ مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو
فإنه كان يكتب بيده ويعي: بقلبه وكنت أعي ولا أكتب استأذن رسول الله ﷺ
في الكتاب عنه فأذن له" إسناده حسن، وله طريق أخرى أخرجها العقيلي في ترجمة
عبد الرحمن بن سلمان عن عقيل عن المغيرة بن حكيم سمع أبا هريرة قال: "ما كان
أحد أعلم بحديث رسول الله ﷺ مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان
استأذن رسول الله ﷺ أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له"
الحديث. وعند أحمد وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو: "كنت
أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ فنهتني قريش" الحديث. وفيه: «اكتب
فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق» ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي
بعضها بعضًا.
ولا
يلزم منه أن يكونا في الوعي سواءً لما قدمناه من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم
النسيان ويحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو عليه على ما فاز به عبد الله
من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة؛ لأنه قال في حديثه: "فما نسيت شيئًا بعد" فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل
بخلاف عبد الله فإن الذي سمعه مضبوط بالكتابة والذي انتشر عن أبي هريرة مع ذلك
أضعاف ما انتشر عن عبد الله بن عمرو لتصدي أبي هريرة لذلك ومقامه بالمدينة النبوية
بخلاف عبد الله في الأمرين.
ويستفاد
منه ومن حديث علي المتقدم ومن قصة أبي شاه أن النبي ﷺ
أذن في كتابة الحديث عنه وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ
قال: «لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن» رواه مسلم.
والجمع
بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك أو
أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما أو
النهي متقدم، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها،
وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتاب دون الحفظ والإذن لمن أمن منه ذلك،
ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد قاله البخاري وغيره.
قال
العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم
حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه وأول من
دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المئة بأمر عمر بن عبد العزيز ثم كثر التدوين
ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
