كتاب الدعوات: باب كرامات الأولياء وفضلهم
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
رحمه الله
حديث أنس / أن رجلين
من أصحاب النبي
أحاديث رياض
الصالحين: باب كرامات الأولياء وفضلهم
١٥١٦ - وَعَنْ أنَسٍ -رضي الله عنه- أنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحابِ
النَّبيِّ ﷺ
خَرَجا مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ ﷺ
في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةَ ومَعهُمَا مِثْلُ المِصْبَاحَينِ بيْنَ أيديهِما، فَلَمَّا
افتَرَقَا، صارَ مَعَ كلِّ واحِدٍ مِنهما وَاحِدٌ حَتى أتَى أهْلَهُ.
رواهُ البُخاري مِنْ طرُقٍ، وفي بعْضِها أنَّ
الرَّجُلَيْنِ أُسيْدُ بنُ حُضيرٍ، وعبَّادُ بنُ بِشْرٍ -رضي اللَّه عَنْهُما.
الشرح:
هذا الحديث ذكره النووي -رحمه الله- في كتابه (رياض الصالحين) في باب
كرامات الأولياء وفضلهم وهو حديث الرجلين: أسيد بن حضير وعباد بن بشر -رضي الله
عنهما- كانا عند النبي ﷺ في ليلة مظلمة وكان في ذات الوقت ليس في الأسواق أنوار بل ولا في
البيوت مصابيح، فخرجا من عند النبي ﷺ في تلك الليلة،
الليلة المظلمة، فجعل الله تعالى، بين أيديهما مثل المصباحين يعني: مثل لمبة
الكهرباء تضيء لهما الطريق، وليس هذا من فعلهما ولا بسبب منهما، ولكن الله تعالى،
خلق نورا يسعى بين أيديهما حتى تفرقا، وتفرق النور مع كل واحد منهما، حتى بلغا بيوتهما،
وهذه كرامة من الله -عز وجل- من كرامة الله تعالى، أنه يضيء للعبد الطريق، الطريق
الحسي وفائدته الحسية، فإن هذين الرجلين -رضي الله عنهما وأرضاهما- مشيا في إضاءة
ونور بينما الأسواق ليس فيها إضاءة ولا أنوار والليلة مظلمة، فقيض الله لهما هذا
النور.
هناك أيضا نور معنوي يقذفه الله تعالى، في قلب المؤمن كرامة له، تجد
بعض العلماء يفتح الله عليه من العلوم العظيمة الواسعة في كل فن ويرزقه الفهم
والحفظ والمجادلة، ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- فإن
هذا الرجل من الله به على الأمة الإسلامية، ومازالت الأمة الإسلامية تنتفع بكتبه
إلى يومنا هذا وقد توفي -رحمه الله- سنة ٧٢٨هـ يعني: منذ مئات السنين والأمة تنتفع بكتبه، وقد أعطاه الله تعالى،
علما عظيما، وفهما ثاقبا، وقوة في المجادلة ولا أحد يستطيع أن يجادله في شيء أبدا،
ما قام له أحد حتى إنه -رحمه الله- قال: أي إنسان يجادلني بالباطل ويستدل بآية أو
حديث فإنني أنا سأجعل الآية والحديث دليلا عليه وليست دليلا له.
وهذا من نعمة الله -عز وجل- أن الله تعالى، يعطي الإنسان قدرة إلى
هذا الحد، وحتى إنه يتكلم مع المجادلين ويناظرهم ثم يقول لهم: انظروا إلى قول فلان
من زعمائهم في كتابه الفلاني مع أن أتباع هذا الرجل الذي يجادلون فيه شيخ الإسلام
لا يعلمون عن كتبه شيئا وهو يعلم ما في كتبه، ومناظرته في العقيدة الواسطية مع
القاضي المالكي عجيبة، كان القاضي المالكي يحاول أن يجعل السلطان يبطش به؛ لكنه هو
يقول: هذا لا يمكن ولا يجري على مذهبكم وأنتم أيها المالكية قلتم كذا وكذا.
ولا يمكن أن يدين للوالي في هذا الذي ذكرت بناء على مذهبكم، فيبهت
الرجل، كيف يعرف من مذهبنا ما لا نعلم.
وله أيضا -رحمه الله- في كل فن يد واسعة، كان عالما في النحو
والعربية والصرف والبلاغة.
حتى إن تلميذه ابن القيم -رحمه الله- في بدائع الفوائد بحث بحثا
دقيقا جدا جدا في الفرق بين مدح وحمد وكيف تفرق اللغة العربية بين المعاني في
الكلمات بتقديم حرف أو تأخيره، وأتى ببحث عجيب، ثم قال: وكان شيخنا -رحمه الله-
إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب، يعني: في مسألة اللغة والصرف، ولكنه كما قال
الشاعر:
تألق البرق نجديا فقلت له.
إليك عني فإني عنك مشغول
يعني: شيخ الإسلام مشتغل بما هو أكبر من مسألة نحوية أو بلاغية أو
صرفية، فهو مشغول بأكبر من هذا، وفي يوم من الأيام قدم مصر وكان فيها أبو حيان
اللغوي المشهور والمفسر من الكبير في هذا الباب، وكان أبو حيان يمدح شيخ الإسلام
ابن تيمية -رحمه الله- وله في مدحه قصيدة عصماء، منها قوله: قام ابن تيمية في نشر
الدين نصر شرعتنا. مقام سيد تيم إذا عصت مضر.
وسيد تيم هو أبو بكر -رضي الله عنه- يعني: أنه قام في الإسلام في
محنة الإسلام والبدع مقام أبي بكر في يوم المحن ومدحه في قصيدة عصماء، فلما قدم
مصر، جاء الناس إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستفيدون من علمه ويناقشونه وكان من
بينهم أبو حيان، فناقشه في مسألة نحوية، لأن أبا حيان بحر محيط في النحو ناقشه في
مسألة نحوية فقال له شيخ الإسلام: هذا غلط من كلام العرب، فقال له: كيف وسيبويه
إمام النحويين ذكر هذا في كتابه، فقال له شيخ الإسلام: وهل سيبويه نبي نحو يجب
علينا أن نتبعه؟ لقد أخطأ سيبويه في كتابه في أكثر من ثمانين موضعا لا تعلمه أنت
ولا سيبويه، سيبويه عند النحويين مثل البخاري عند أهل الحديث، فتعجب أبو حيان، كيف
يقول هذا الكلام، ثم إنه ذهب عنه فأنشأ فيه قصيدة يذمه -والعياذ بالله- بالأمس
يمدحه والآن يذمه.
المهم أني أقول: إذا كان الله تعالى، يعطي بالكرامات نورا حسيا
يستضيء به الإنسان كما حدث لهذين الصحابيين، فكذلك يعطي الله نورا معنويا يقذفه في
قلب العبد المؤمن، نسأل الله يقذف في قلوبنا وإياكم نورا، يستطيع الإنسان به أن
يتكلم في شريعة الله وكأن النصوص بين عينيه، وهذا من نعمة الله على العبد، فنسأل
الله تعالى، أن يجعلنا من أوليائه المتقين وعباده الصالحين.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
