البداية والنهاية ابن كثير
ذكر
مولد إسحاق عليه الصلاة والسلام
[ذكر مولد إسحاق عليه الصلاة والسلام]
قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: ١١٢-١١٣].
وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة لما مروا بهم
مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم، كما سيأتي بيانه
في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ
جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ
فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ
فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ
حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: ٦٩-٧٣].
يذكر تعالى، أن الملائكة قالوا وكانوا ثلاثة؛ جبريل، وميكائيل،
وإسرافيل، لما وردوا على الخليل حسبهم أولا أضيافا فعاملهم معاملة الضيوف شوى لهم
عجلا سمينا من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل
بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام فنكرهم إبراهيم: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: ٧٠]. أي: لندمر عليهم فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم وكانت
قائمة على رءوس الأضياف، كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم، فلما ضحكت
استبشارا بذلك قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: ٧١]. أي: بشرتها الملائكة بذلك
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي
صَرَّةٍ} [الذاريات: ٢٩]. أي: في صرخة {فَصَكَّتْ
وَجْهَهَا} [الذاريات: ٢٩]. أي: كما يفعل النساء عند التعجب، وقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: ٧٢]. أي: كيف يلد مثلي وأنا
كبيرة وعقيم أيضا {وَهَذَا
بَعْلِي} [هود: ٧٢].
أي: زوجي شيخا، تعجبت من وجود ولد والحالة هذه؛ ولهذا قالت: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ
حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: ٧٢-٧٣]. وكذلك تعجب إبراهيم -عليه السلام- استبشارا بهذه البشارة وتثبيتا
لها وفرحا بها {قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا
بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: ٥٤-٥٥]. أكدوا الخبر بهذه البشارة،
وقرروه معه فبشروهما {بِغُلَامٍ
عَلِيمٍ} [الحجر: ٥٣]. وهو إسحاق وأخوه إسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره. وهكذا
وصفه ربه بصدق الوعد والصبر. وقال في الآية الأخرى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: ٧١]. وهذا مما استدل به محمد بن
كعب القرظي، وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد
أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده.
وعند أهل الكتاب: أنه أحضر مع العجل الحنيذ وهو المشوي رغيفا من ملة
فيه ثلاثة أكيال وسمن ولبن، وعندهم أنهم أكلوا، وهذا غلط محض. وقيل: كانوا يورون
أنهم يأكلون، والطعام يتلاشى في الهواء، وعندهم أن الله تعالى، قال لإبراهيم: أما
سارة امرأتك فلا يدعى اسمها سارا، ولكن اسمها سارة، وأبارك عليها، وأعطيك منها
ابنا وأباركه، ويكون للشعوب، وملوك الشعوب منه. فخر إبراهيم على وجهه يعني: ساجدا
وضحك قائلا في نفسه: أبعد مائة سنة يولد لي غلام، أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون
سنة؟ وقال إبراهيم لله تعالى: ليت إسماعيل يعيش قدامك! فقال الله لإبراهيم: بحقي
إن امرأتك سارة تلد لك غلاما وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأواثقه
ميثاقي إلى الدهر، ولخلفه من بعده، وقد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه وكبرته
ونميته جدا كبيرا، ويولد له اثنا عشر عظيما، وأجعله رئيسا لشعب عظيم، وقد تكلمنا
على هذا بما تقدم، والله أعلم.
فقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: ٧١]. دليل على أنها تستمتع
بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده يولد ولده يعقوب أي: يولد في حياتهما لتقر أعينهما
به. كما قرت بوالده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون
سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عين بالذكر دل على أنهم يتمتعان به ويسران بمولده، كما
سرا بمولد أبيه من قبله. وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام: ٨٤]. وقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: ٤٩]. وهذا إن شاء الله ظاهر
قوي، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن
يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلت:
ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى». قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة». قلت: ثم أي؟
قال: «ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها
مسجد».
وعند أهل الكتاب: أن يعقوب -عليه السلام- هو الذي أسس المسجد الأقصى،
وهو مسجد إيليا، وهو مسجد بيت المقدس شرفه الله. وهذا متجه، ويشهد له ما ذكرناه من
الحديث.
فعلى هذا يكون بناء يعقوب، وهو إسرائيل -عليه السلام- بعد بناء
الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء، وقد كان بناؤهما ذلك بعد
وجود إسحاق؛ لأن إبراهيم -عليه السلام- لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي
وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
السَّمَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ
الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: ٣٥-٤١].
وكما سنورده في قصته فالمراد من ذلك، والله أعلم. أنه جدد بناءه، كما
تقدم من أن بينهما أربعين سنة، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى
ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه، وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
