فتح الباري شرح صحيح البخاري
فتح الباري شرح صحيح
البخاري: كتاب الإيمان بباب دعاؤكم إيمانكم
حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ أبْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُنِيَ
الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،
وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
الشرح:
قوله:
(حنظلة بن أبي سفيان) هو قرشيّ مكّيّ من ذرّيّة صفوان بن أميّة الجمحيّ، وعكرمة
بن خالد هو ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، وهو ثقة متّفق عليه،
وفي طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، وهو ضعيف، ولم
يخرّج له البخاريّ، نبّهت عليه لشدّة التباسه، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضّعيف
عن ابن عمر. زاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدّث طاوسا أنّ
رجلا قال لعبد اللّه بن عمر: الا تغزو؟ فقال: إنّي سمعت. . . فذكر الحديث.
(فائدة):
اسم
الرّجل السّائل حكيم، ذكره البيهقيّ.
قوله:
(على خمس)
أي:
دعائم. وصرّح به عبد الرّزّاق في روايته. وفي رواية لمسلم على خمسة أي: أركان. فإن
قيل الأربعة المذكورة مبنيّة على الشّهادة إذ لا يصحّ شيء منها إلّا بعد وجودها
فكيف يضمّ مبنيّ إلى مبنيّ عليه في مسمّى واحد؟ أجيب بجواز ابتناء أمر على أمر
ينبني على الأمرين أمر آخر. فإن قيل: المبنيّ لا بدّ أن يكون غير المبنيّ عليه،
أجيب: بأنّ المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع. ومثاله البيت من
الشّعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقيّة أركان، فما دام الأوسط قائما
فمسمّى البيت موجود ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمّى
البيت، فالبيت بالنّظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنّظر إلى أفراده أشياء. وأيضا
فبالنّظر إلى أسّه وأركانه، الأسّ أصل، والأركان تبع وتكملة.
(تنبيهات):
أحدها:
لم يذكر الجهاد؛ لأنّه فرض كفاية ولا يتعيّن إلّا في بعض الأحوال، ولهذا جعله ابن
عمر جواب السّائل، وزاد في رواية عبد الرّزّاق في آخره: وإنّ الجهاد من العمل
الحسن. وأغرب ابن بطّال فزعم أنّ هذا الحديث كان أوّل الإسلام قبل فرض الجهاد،
وفيه نظر، بل هو خطأ؛ لأنّ فرض الجهاد كان قبل وقعة بدر، وبدر كانت في رمضان في
السّنة الثّانية، وفيها فرض الصّيام والزّكاة بعد ذلك والحجّ بعد ذلك على الصّحيح.
ثانيها:
قوله "شهادة أن لا إله إلّا اللّه" وما بعدها مخفوض على البدل من خمس،
ويجوز الرّفع على حذف الخبر، والتّقدير منها شهادة أن لا إله إلّا اللّه. أو على
حذف المبتدأ، والتّقدير أحدها شهادة أن لا إله إلّا اللّه. فإن قيل: لم يذكر
الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك ممّا تضمّنه سؤال جبريل عليه السّلام؟ أجيب
بأنّ المراد بالشّهادة تصديق الرّسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من
المعتقدات. وقال الإسماعيليّ ما محصّله: هو من باب تسمية الشّيء ببعضه كما تقول:
قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلا: شهدت برسالة محمّد وتريد جميع ما
ذكر. واللّه أعلم.
ثالثها:
المراد بإقام الصّلاة المداومة عليها أو مطلق الاتيان بها، والمراد بإيتاء الزّكاة
إخراج جزء من المال على وجه مخصوص.
رابعها:
اشترط الباقلّانيّ في صحّة الإسلام تقدّم الإقرار بالتّوحيد على الرّسالة، ولم
يتابع، مع أنّه إذا دقّق فيه بان وجهه، ويزداد اتّجاها إذا فرّقهما، فليتأمّل.
خامسها:
يستفاد منه تخصيص عموم مفهوم السّنّة بخصوص منطوق القرآن؛ لأنّ عموم الحديث يقتضي
صحّة إسلام من باشر ما ذكر، ومفهومه أنّ من لم يباشره لا يصحّ منه، وهذا العموم
مخصوص بقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا
وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتهمْ} على ما تقرّر في موضعه.
سادسها:
وقع هنا تقديم الحجّ على الصّوم، وعليه بنى البخاريّ ترتيبه، لكن وقع في مسلم من
رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصّوم على الحجّ، قال، فقال رجل: والحجّ
وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحجّ، هكذا سمعت من رسول اللّه ﷺ. انتهى.
ففي
هذا إشعار بأنّ رواية حنظلة الّتي في البخاريّ مرويّة بالمعنى، إمّا لأنّه لم يسمع
ردّ ابن عمر على الرّجل لتعدّد المجلس، أو حضر ذلك ثمّ نسيه. ويبعد ما جوّزه بعضهم
أن يكون ابن عمر سمعه من النّبيّ ﷺ على الوجهين ونسي أحدهما عند
ردّه على الرّجل، ووجه بعده أنّ تطرّق النّسيان إلى الرّاوي عن الصّحابيّ أولى من
تطرّقه إلى الصّحابيّ، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصّوم على الحجّ،
ولأبي عوانة -من وجه آخر عن حنظلة- أنّه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دالّ على أنّه
روي بالمعنى. ويؤيّده ما وقع عند البخاريّ في التّفسير بتقديم الصّيام على
الزّكاة، أفيقال إنّ الصّحابيّ سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد. واللّه أعلم.
(فائدة):
اسم
الرّجل المذكور يزيد بن بشر السّكسكيّ، ذكره الخطيب البغداديّ -رحمه اللّه تعالى.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
