مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور
الدين الملا الهروي القاري
شرح حديث /
جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد
كتاب
الإيمان
وعن
طَلْحَةَ بنِ عُبيْدِ اللَّهِ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- قالَ: جَاءَ رجُلٌ إِلي
رسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ
الرَّأْسِ نَسَمْعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يقُولُ، حَتى دَنَا مِنَ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فإِذا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ
الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَواتٍ في اليوْمِ واللَّيْلَةِ» قالَ:
هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ
تَطَّوَّعَ» قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «وصِيَامُ شَهْرِ رَمضَانَ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ
غيْرُهْ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»
قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،
الزَّكَاةَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ،
إلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» فَأَدْبَر الرَّجُلُ وهُوَ يَقُولُ: واللَّهِ لاَ
أَزيدُ عَلي هَذَا وَلا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفْلَحَ إِنْ
صَدَقَ» مُتفقٌ عليهِ.
الشرح
(وعن طلحة بن عبيد الله) يكنى أبا محمد القرشي، أحد العشرة المبشرة بالجنة، أسلم
قديما، وشهد المشاهد كلها غير بدر، وضرب له ﷺ
سهمه؛ لأن النبي ﷺ كان بعثه مع سعيد بن زيد يتعرفان خبر العير التي كانت لقريش مع أبي
سفيان بن حرب، فعادا يوم اللقاء ببدر، ووقى النبي ﷺ يوم
أحد بيده فشلت أصبعه، وجرح يومئذ أربعة وعشرين جراحة، وقيل: كانت فيه خمس وسبعون
بين طعنة وضربة ورمية، وسماه النبي ﷺ
طلحة الخير، وطلحة الجود، قتل في وقعة الجمل سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة وله
أربع وستون سنة، روى عنه جماعة.
قال: جاء رجل، قيل: هو ضمام بن ثعلبة، وافد بني سعد بن بكر إلى رسول
الله ﷺ متعلق بجاء (من أهل نجد) صفة رجل، والنجد في الأصل: ما ارتفع من
الأرض، ضد التهامة، وهو الغور، سميت به الأرض الواقعة بين تهامة أي: مكة، وبين
العراق. (ثائر الرأس) بالثاء المثلثة من ثار الغبار إذا ارتفع وانتشر، أي: منتشر
شعر الرأس غير مرجله بحذف المضاف، أو سمي الشعر رأسا مجازا، تسمية للحال باسم
المحل، أو مبالغة بجعل الرأس كأنه المنتشر، وهو مرفوع على أنه صفة عند الأكثر،
وقيل: إنه منصوب على الحالية من رجل لوصفه، وقيل: إنه الرواية (نسمع دوي صوته) أي:
شدته وبعده في الهواء، فلا يفهم منه شيء كدوي النحل والذباب، وهو بفتح الدال -وضمه
رواية ضعيفة- وبكسر الواو وتشديد الياء، وهو منصوب على المفعولية، و(نسمع) بصيغة
المتكلم المعلوم على الصحيح، وفي بعض النسخ بالياء مجهولا، ورفع دوي على النيابة،
وكذا الوجهان في قوله: (ولا نفقه) أي: لا نفهم من جهة البعد (ما يقول) لضعف صوته
(حتى دنا) أي: من رسول الله ﷺ كما في نسخة صحيحة، أي: إلى أن قرب ففهمنا (فإذا) للمفاجأة (هو) أي:
الرجل (يسال عن الإسلام) أي: عن فرائضه التي فرضت على من وحد الله، وصدق رسوله لا
عن حقيقته؛ ولذا لم يذكر الشهادتين، ولكون السائل متصفا به فلا حاجة إلى ذكره،
ويؤيده رواية البخاري أيضا: أخبرني ماذا فرض الله على؟ ويمكن أنه سال
عن ماهية الإسلام وقد ذكر الشهادة ولم يسمعها الراوي أو نسيها، أو اختصرها لكونها
معلومة عند كل أحد، وقيل: لم يذكر الحج لأن الحديث حكاية حال الرجل خاصة لقوله:
على، فأجابه -عليه الصلاة والسلام- بما عرف من حاله، ولعله لم يكن ممن وجب الحج
عليه، أو لأنه لم يفرض حينئذ، أو أسقط من بعض الرواة، ويؤيده رواية البخاري:
فأخبره النبي ﷺ بشرائع الإسلام.
فقال رسول الله ﷺ: «خمس
صلوات في اليوم والليلة»
بالرفع على الصحيح، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: الإسلام، والمراد فرضه إقامة خمس
صلوات، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: من شرائعه أداء خمس صلوات، ويجوز نصبه بتقدير خذ،
أو اعمل، أو صل، وهو أحسن. وأغرب ابن حجر فأعرب بقوله بالجر بدلا من الإسلام، أو
بقسيميه أي: هو أو خذ اهـ. والذي اختاره من الجر لا يصح رواية ودراية، أما الأول:
فيظهر لك من تتبع النسخ المصححة، وأما الثاني: فلأن البدل والمبدل لا يكونان إلا
في كلام شخص واحد، وأن المقول لا يكون إلا جملة، فأحد جزأيه الموجود يتعين أن يكون
مرفوعا، وأنه إذا جعل بدلا لا يبقى للسؤال جوابا، فلا يتفرع عليه قوله: (فقال) أي:
الرجل (هل على) أي: يجب من الصلاة (غيرهن؟) أي: في اليوم والليلة، أو الجار خبر
مقدم، وغيرهن مبتدأ مؤخر (فقال) ﷺ: «لا» أي: لا شيء عليك غيرها، وهذا قبل وجوب الوتر، أو أنه تابع للعشاء،
وصلاة العيد ليست من الفرائض اليومية بل هي من الواجبات السنوية «إلا أن»
بفتح الهمزة «تطوع» بتشديد الطاء والواو، وأصله تتطوع بتاءين، فأبدلت وأدغمت، وروي
بحذف إحداها وتخفيف الطاء، والمعنى إلا أن تشرع في التطوع فإنه يجب عليك اتمامه
لقوله تعالى: {وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
[محمد: ٣٣]، ولإجماع الصحابة على وجوب الاتمام. وقول ابن حجر: هذا مجرد دعوى
بلا سند - مردود؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع، مع أن الآية المذكورة سند
معتمد لصحة الإجماع المسطور، وقول ابن حجر أن النهي فيه للتنزيه مخالف للأصل الذي
عليه الجمهور.
وقوله: على أنه يلزم الحنفية حيث استدلوا به أن يقولوا: إن الاتمام
فرض، وهم إنما يقولون بوجوبه - مدفوع بأن الآية قطعية والدلالة ظنية.
وقوله: واستثناء الواجب من الفرض منقطع ممنوع، فإن الواجب عندنا فرض
عملي لا اعتقادي، وهذا الاعتبار يطلق عليه أنه فرض، فالمراد بالفرض في الحديث
المعنى الأعم، والله أعلم، مع أنه لا محذور في جعل الاستثناء منقطعا لصحة الكلام كما
اختاره في هذا المقام، وقوله: على أنه من النفي لا يفيد الإثبات بل الحكم مسكوت
عنه عندهم مدخول، فإن هذا إنما يرد عليهم لو استدلوا بهذا الحديث، وتقدم أن دليلهم
الآية والإجماع، وإنما حملوا لفظ الحديث على المعنى المستفاد منهما، ثم هذا مطرد
في جميع العبادات عندنا حيث يلزم النفل بالشروع، ووافقنا الشافعي في الحج والعمرة
فعليه الفرق، وإلا فيكفينا قياس سائر العبادات عليهما أيضا، أو المعنى إلا أن توجب
على نفسك بالنذر، والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا، وعدل عنه ابن حجر فقال: لكن
التطوع مستحب، فهو استثناء من مدخول لا منقطع، وحينئذ فلا يدل على إيجاب اتمام
التطوع بالشروع فيه.
أقول: يحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا، والمعنى لكن التطوع باختيارك
أي: ابتداء كما هو مذهبنا، أو انتهاء أيضا كما هو مذهب الشافعي، وفيه حث على
الخيرات وترك الوقوف على مجرد الواجبات.
قال رسول الله ﷺ: «وصيام
شهر رمضان» عطف على خمس، وجملة
السؤال والجواب معترضة (قال: هل على غيره؟) أي: هل على صوم فرض سوى صوم رمضان
(قال) بحذف الفاء في الأصول الحاضرة «لا» فلا يجب صوم عاشوراء سواء كان واجبا قبل
رمضان أم لا «إلا أن تطوع» قال: أي: طلحة (وذكر له رسول الله ﷺ
الزكاة) هذا قول الراوي، فإنه نسي ما نص عليه رسول الله ﷺ
أو التبس عليه فقال: ذكر الزكاة، وهذا يؤذن بأن مراعاة الالفاظ معتبرة في الرواية،
فإذا التبس عليه بعضها يشير في الفاظه إلى ما ينبئ عنه كما فعل راوي هذا الحديث
(فقال: هل على غيرها؟ فقال: لا) قيل: يعلم منه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بشروطها، وهو ظاهر
إن أريد به الحقوق الأصلية المتكررة تكرارها، وإلا فحقوق المال كثيرة كصدقة الفطر،
ونفقة ذوي الأرحام، والأضحية «إلا
أن تطوع» قال: أي: طلحة (فأدبر
الرجل وهو) أي: والحال أن ذلك الرجل (يقول: والله لا أزيد على هذا) أي: في الإبلاغ
أو في نفس الفريضة (ولا أنقص عنه) أي: شيئا.
وفي رواية البخاري: لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله على شيئا،
فقال رسول الله ﷺ: «أفلح
الرجل»: أي دخل في الفلاح،
والمعنى فاز وظفر وأدرك بغيته، وهي ضربان: دنيوي وهو الظفر فلا يطلب معه الحياة
والأسباب، وأخروي، وهو ما يحصل به النجاة من العذاب، والفوز بالثواب.
قالوا: ولا كلمة أجمع للخيرات منه، ومن ثم فسر بأنه بقاء بلا فناء،
وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل. وفي رواية: أفلح والله. وفي أخرى صحيحة:
بلا شك، وفي رواية: أفلح وأبيه، وفيه إشكال لأنه ورد: من حلف بغير الله فقد أشرك،
فقيل: إنه قبل النهي، وقيل: فيه حذف مضاف أي: ورب أبيه، وقيل: إنه والله، وأن
الكاتب قصر اللامين، وقيل: إن الكراهة في غير الشارع كما نقله البيهقي عن بعض
مشايخه، وأغرب ابن حجر فضعف الأقوال المذكورة جميعها، وحمل على أن هذا وقع من غير
قصد، وهو في غاية من البعد «إن
صدق» بكسر الهمزة على
الصحيح، وفي نسخة بفتحها، أي: لصدقه، ولا إشكال فيه، وعلى الأول قيل: إنما حكم
-عليه الصلاة والسلام- بكونه من أهل الجنة مطلقا في رواية أبي هريرة، وهنا علق
الفلاح بصدقه، والحال أنه روي أن الحديثين واحد؛ لأنه يحتمل أنه قال بحضور
الأعرابي لئلا يغتر فيشكل عليه، فلما ذهب قال: من سره. . . إلخ. وقيل: يحتمل أن
يكون قبل أن يطلعه الله على صدقه، ثم أطلعه الله عليه، ويمكن أن يقال: لا يلزم من
كون الرجل من أهل الجنة أن يكون مفلحا؛ لأن المفلح هو الناجي من السخط والعذاب،
فكل مؤمن من أهل الجنة، وليس كل مؤمن مفلحا، ولذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ} [المؤمنون: ١-٢] الآيات. وقال: {هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ}
[البقرة: ٢] الآيات. ثم قال: {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ٥]
(متفق عليه): ورواه أبو داود، والنسائي.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: