باب تحريم الظلم والأمر بردّ المظالم
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث/ ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته
أحاديث
رياض الصالحين: باب تحريم الظلم والأمر بردّ المظالم
٢١٠ - وعن
ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: كُنَّا نَتحدَّثُ عَنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ
ﷺ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَلا نَدْرِي مَا
حَجَّةُ الْوَدَاع، حَتَّى حَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ اللَّه ﷺ، وَأَثْنَى عَليْهِ، ثُمَّ ذَكَر الْمسِيحَ الدَّجَالَ،
فَأَطْنَبَ في ذِكْرِهِ، وَقَالَ: «مَا بَعَثَ
اللَّهُ مِنْ نَبيٍّ إلَّا أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ: أَنْذَرَهُ نوحٌ وَالنَّبِيُّون
مِنْ بَعْدِهِ، وَإنَّهُ إنْ يَخْرُجْ فِيكُمْ فَما خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أنَّ رَبَّكُمْ لَيس بأَعْورَ، وَإِنَّهُ أَعورُ
عَيْن الْيُمْنَى، كَأَنَّ عيْنَهُ عِنبَةٌ طَافِيَةٌ. الا إنَّ اللَّه حرَّم
علَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بلدِكُمْ
هذا، في شَهْرِكُم هَذَا، الا هَلْ بلَّغْتُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاثًا وَيْلَكُمْ -أَوْ: ويحكُمْ-
انظُرُوا: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
رواه البخاري [١]، وروى مسلمٌ بعضه [٢].
الشرح:
قال
المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا
نقول والنبي ﷺ حي: ما حجة الوداع، ولا ندري ما
حجة الوداع، وحجة الوداع هي الحجة التي حجها النبي ﷺ
في السنة العاشرة من الهجرة، وودعّ الناس فيها وقال: «لعلي
لا القاكم بعد عامي هذا» [٣]. ولم يحجّ النبيُّ ﷺ
بعد الهجرة إلا هذه المرة فقط، وقد ذُكر أنه حجّ قبل الهجرة مرتين، ولكن
الظاهر-والله أعلم- أنه حج أكثر؛ لأنه كان هناك في مكة، وكان يخرج في الموسم يدعو
الناس والقبائل إلى دين الله عزَّ وجلّ، فيبعد أنه يخرج ولا يحجّ، وعلى كل حال الذي
همنا أنه ﷺ حجّ في آخر عمره في السنة العاشرة
من الهجرة ولم يحج قبلها بعد هجرته وذلك؛ لأن مكة كانت بأيدي المشركين إلى السنة
الثامنة، ثم خرج بعد ذلك إلى الطائف، وغزا ثقيفًا وحصلت غزوة الطائف المشهورة، ثم
رجع بعد هذا ونزل في الجعرانة، وأتي بعمرة ليلًا، ولم يطلع عليه كثير من الناس، ثم
عاد إلى المدينة. هذا في السنة الثامنة.
وفي
السنة التاسعة كانت الوفود تردُ إلى النبي ﷺ
من كل ناحية، فبقي في المدينة، ليتلقى الوفود، حتى لا يثقل عليهم بطلبه، حتى إذا
جاء الوفود إلى المدينة وجدوا النبي ﷺ ولم
يتعبوا في طلبه ويحلقونه يمينًا وشمالًا، فلم يحجّ في السنة التاسعة لتلقي الوفود،
هذا من وجه.
ومن
وجه آخر: في السنة التاسعة حجَّ مع المسلمين المشركون؛ لأنهم لم يمنعوا من دخول
مكة، ثم منعوا من دخول مكة، وانزل الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: ٢٨]، وأذن مؤذن
رسول الله ﷺ بأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا
يطوف بالبيت عريان.
وكان
أمير الناس في تلك الحجة -أعني: حجة سنة تسع- أبا بكر رضي الله عنه، ثم أردفه
النبي ﷺ بعلي بن أبي طالب، وأعلن النبي ﷺ أنه سيحج، وقدم المدينة بشرٌ كثير يقدّرون بنحو
مائة ألف، والمسلمون كلهم مائه وأربعة وعشرون الفًا، أي: لم يتخلف عن المسلمين إلا
القليل، فحجوا مع النبي ﷺ هذه الحجة التي سميت
"حجة الوداع"؛ لأن النبي ﷺ ودّع
الناس فيها بقوله: «لعلي لا القاكم بعد عامي هذا»
فصار الأمر كذلك، فإنه تُوفي بعد رجوعه من المدينة في ربيع الأول، أي: بعد حجه.
فمضي محرم وصفر وأثنا عشر يومًا من ربيع الأول -صلوات الله وسلامه عليه.
كان
ﷺ في حجة الوداع يخطب الناس. فخطبهم في عرفة،
وخطبهم في منى، فذكر المسيح الدجال، وعظّم من شأنه، وحذر منه تحذيرًا بالغًا، وفعل
ذلك أيضًا في المدينة، ذكر الدجال وحذر منه، وبالغ في شأنه، حتى قال الصحابة: كنا
نظنُّ أنه في أفراخ النخل أي: قد جاء ودخل، من شدة قول النبي ﷺ فيه، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام، أنه ما من نبي
إلا أنذره قومه، فكل الأنبياء ينذرون قومهم من الدجال، يخوفونهم ويعظمون شأنه
عندهم.
وإنما
كانوا ينذرون قومهم الدجال مع أن الله يعلم أنه لن يكون إلا في آخر الدنيا، من أجل
الاهتمام به، وبيان خطورته، وأن جميع الملل تحذر منه؛ لأن هذا الدجال -وقانا الله
وإياكم فتنته وأمثاله- يأتي إلى الناس، يدعوهم إلى أن يعبدوه، ويقول: أنا ربكم،
وإن شئتم أريتكم أني ربكم، فيأمر السماء يقول لها: أمطري فتُمطر، ويأمر الأرض
فيقول لها: أنبتي فتنبت، أما إذا عصوا أمر الأرض فأمحلت، والسماء فقحطت، وأصبح
الناس ممحلين. هذا لا شك أنه خطر عظيم، لا سّيما في البادية التي لا يتعرف إلا
الماء والمرعى، فيتبعه أناسٌ كثيرون إلا من عصم الله.
ومع
هذا فله علامات بينة تدل على أنه كذاب.
منها:
أنه مكتوب بين عينيه كافر «ك. ف. ر» [٤]،
يقرأها المؤمن فقط وإن كان لا يعرف القراءة، ويعجز عنها الكافر وإن كان يقرأ؛ لأن
هذه الكتابة ليست كتابة عادية، إنما هي كتابة إلهية من الله عزّ وجلّ.
ومن
علاماته: أنه أعور العين اليمنى: والرب عزّ وجلّ، ليس بأعور، الرب عزّ وجلّ، كامل
الصفات، ليس في صفاته نقص بوجه من الوجوه. أما هذا فإنه أعور، عينه اليمنى كأنها
عنبة طافية. وهذه علامة حسية واضحة كل يعرفها.
فإن
قال قائل: إذا كان فيه هذه العلامة الظاهرة الحسية فكيف يفتتن الناس به؟
نقول:
إن الله قال في كتابه: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: ١٠١]، الذين أضلهم
الله لا تنفعهم علامات الضلال تحذيرًا، ولا علامات الهدى تبشيرًا، ولا يستفيدون
وإن كانت العلامات ظاهرة.
ثم
بين الرسول ﷺ أن هذه العلامات لا تخفى على
أحد، وبين في حديث آخر أنه إن خرج والنبي ﷺ
فيهم فهو حجيجه دونهم، يحجه النبي ﷺ ويكشف
زيغه وضلاله قال: «وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيجُ نفسه، والله خليفتي على كلّ
مسلم» [٥] فوكّل الله عزّ وجلّ.
فالحاصل
أن الرسول عليه الصلاة والسلام، حذر من الدجال تحذيرًا بالغًا، وأخبر [٦] أن
الدجال الأكبر يخرج في آخر الزمان، ويبقى في الأرض أربعين يومًا فقط، ولكن اليوم
الأول كسنة (اثنا عشر شهرًا) تبقى الشمس في أوج السماء ستة أشهر من المشرق إلى
المغرب ما تغيب هذه الفترة الطويلة، وتبقى غائبة ليلًا ستة أشهر، هذا أول يوم.
واليوم الثاني كشهر، والثالث كجمعة، وبقية الأيام سبعة، وثلاثون يومًا كسائر
الأيام، ولما حدث النبي ﷺ الصحابة بهذا
الحديث، لم يستشكلوا كيف تبقى الشمس سنة كاملة لا تدور على الأرض، وهي تدور عليها
في كل أربع وعشرين ساعة، فقدرة الله فوق ذلك، والله على شيء قدير.
والصحابة
لا يسألون في الغالب عن المسائل الكونية والقدرية؛ لأنهم يعلمون قدرة الله عزّ
وجلّ، لكن يسألون عن الأمور التي تهمهم، وهي الأمور الشرعية، فلما حدثهم بأن اليوم
الأول الذي كسنة: قالوا: يا رسول الله اليوم الذي كسنة. هل تكفينا فيه صلاة واحدة؟
قال: «لا، اقدروا له قدره» يعني: قدروا ما بين
الصلاتين وصلوا.
فمثلًا
إذا طلع الصبح نصلي الصبح، وإذا مضى الوقت ما بين الصبح والزوال صلينا الظهر، حتى
لو كانت الشمس في أول المشرق، وهي تكون أول المشرق؛ لأنها تبقى ستة أشهر كاملة،
فيقدرون له قدره، إذًا نصلي في اليوم الأول صلاة سنة، والصيام نصوم شهرًا، ونقدر
للصوم، والزكاة كذلك، وهذا ربما يلغز بها فيقال: (مال لم يمض عليه إلا يوم وجبت
فيه الزكاة).
كذلك
اليوم الثاني نقدّر فيه صلاة شهر، والثالث صلاة أسبوع، والرابع تعود الأيام كما
هي، وفي إلهام الله للصحابة أن يسألوا هذا السؤال عبرة؛ لأنه يوجد الآن في شمالي
الأرض وجنوبي الأرض، أناسٌ تغيب عنهم الشمس ستة أشهر، لولا هذا الحديث لأشكل على
الناس، كيف يصلي هؤلاء، وكيف يصومون، لكن الآن نطبّق هذا الحديث على حال هؤلاء
فنقول: هؤلاء الذين تكون الشمس عندهم ستة أشهر كاملة يقدرون للصلاة وقتها، كما
أرشد النبي ﷺ الصحابة في أيام الدجال.
[١] أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (٤٤٠٢،٤٠٣).
[٢]
أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، رقم (١٦٩).
[٣]
أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، رقم (١٢٧٩)، ولفظه:
"لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجٌ بعد حجتي هذه"، وأخرجه
ايضًا البيهقي في سننه ولفظه: "خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي
هذا".
[٤]
أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، رقم (٧١٣١)، ومسلم، كتاب
الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (٢٩٣٣).
[٥]
أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (٢٩٣٧).
[٦]
أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (٢٩٣٧).
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال