شرح حديث/ ذهب أهل الدثور بالأجور - الأربعين النووية
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث/ ذهب أهل الدثور بالأجور - الأربعين النووية
الحديث
الخامس والعشرون: فضل الذكر.
عَنْ أَبي ذَرٍّ -رضي
الله عنه- أَيضَاً أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالوا للنَّبي ﷺ يَا رَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ،
يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ
بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: «أَوَ لَيْسَ قَدْ
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة،
وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تحميده صَدَقَةً، وَكُلِّ تهليله
صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ،
وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ،
أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ، أَكَانَ
عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [١].
الشرح:
قَولُه:
(أَنَّ أُنَاسَاً) هؤلاء هُم الفقراء، قَالُوا لِلنَّبيِّ ﷺ: (ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ)، أيْ: الأمْوال الكثيرة (بِالأُجورِ)
أيْ: الثَّوَاب عليْهَا، وليْس قَصدُهم بِذَلك الحسد، ولَا الاعْتراض على قَدْر
اَللَّه، لَكِن قصْدهم لَعلَّهم يَجدُون أعْمالا يسْتطيعونهَا يقومون بِهَا
تُقَابِل مَا يفْعله أَهْل الدُّثور.
قَولُه:
(يُصَلونَ كَمَا نُصَلي، وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم، وَيَتَصَدَّقونَ بِفُضولِ
أَموَالِهم) يَعنِي: ولَا نَتَصدَّق؛ لِأَنه لَيْس عِنْدنَا شَيْء، فكيْف يُمْكِن
أن نسْبقَهم أو نُكوِّن مثَّلهم، هذَا مُرَاد الصَّحابة -رَضِي اَللَّه عَنهُم-
وليْس مُرادهم قطْعًا الاعْتراض على قَدْر اَللَّه عزَّ وجلَّ، ولَا أن يَحسُدوا
هؤلاء الأغْنياء.
قال
النبي ﷺ: «أَوَ
لَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ؟».
اَلْجَواب:
بلى، ثُمَّ بَيَّن لَهُم فَقَال: «إِنَ بِكُلِّ
تَسبيحَةٍ صَدَقَةً»، أيْ: إِذَا قُلْت: سُبْحان اَللَّه فَهِي صَدقَة.
«وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً»، إِذَا قُلْت:
اَللَّه أَكبَر فَهذِه صَدقَة.
«وَبِكُلِّ تحميده صَدَقَةً»، إِذَا قُلْت: الحمْد
لِلَّه فَهذِه صَدقَة.
«وَبِكُلِّ تهليله صَدَقَة»، إِذَا قُلْت: لَا إِله
إِلَّا اَللَّه فَهِي صَدقَة.
«وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ»، إِذَا أَمرَت مِن
رأيْته مُقَصرا فِي شَيْء مِن الطَّاعات فَهِي صَدقَة.
«وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ»، إِذَا رأيْتُ شخْصًا
على مُنكَر ونهيَته فَهِي صَدقَة.
هَذِه
الأشْياء اَلتِي ذكرهَا اَلنبِي ﷺ وَقَال:
إِنَّها صَدقَة يسْتطيعهَا هؤلاء الفقراء، فأنْتم اِمْلئوا الزَّمن مِن
التَّسْبيح، والتَّكْبير، والتَّهْليل، والتَّحْميد، والْأَمْر بِالْمعْروف،
والنَّهْي عن اَلمُنكر، وَكُلهَا صَدَقات.
والْأغْنياء
يُمْكِن أن لَا يتصدَّقون كُلُّ يَوْم، وَإذَا تُصدِّقوا بِالْيَوْم لَا
يسْتوْعبون اليوْم بِالصَّدقة، فأنْتم قادرون على هذَا.
وَلمَّا
قَرَّر اَلنبِي ﷺ هذَا اِقْتنعوا -رَضِي
اَللَّه عَنهُم- لَكِن لِمَا قال: «وَفي بُضعِ
أَحَدِكُم صَدَقَةٌ»، أيْ: أنَّ الرَّجل إِذَا أتى أَهلَه فله بِذَلك
صَدقَة، قَالُوا: يَا رَسُول اَللَّه أِيأتي أَحدَنا شهْوته وَيكُون لَه فِيهَا
أَجْر؟ اِسْتفْهامًا وليْس اِعْتراضًا، لَكِن يُريدون أن يعْرفوا وَجْه ذَلِك،
كَيْف يَأتِي الإنْسان أَهلَه وَشَهوتَه ويقال إِنَّك مَأجُور؟! أيْ: أنَّ
الإنْسان قد يَستبْعِد هذَا، وَلكِن اَلنبِي ﷺ
بَيَّن لَهُم وَجْه ذَلِك فَقَال: «أَرَأيتُم لو
وَضَعَها في حَرَامٍ أَكَانَ عَليهِ وِزر؟» والْجواب: نَعِم يَكُون عليْه
وِزْر لَو وضعهَا فِي حَرَام.
قال ﷺ: «فَكَذَلِكَ
إِذَا وَضَعَها في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ»، فاسْتغْنى عن الحرَام
فَكَان مَأجُورا بِهَذا، وَهذَا مَا يُسمَّى عِنْد العلماء بِقياس العكْس، أيٌّ:
إِذَا ثبتَ هذَا ثبتَ ضِدَّه فِي ضِدِّه.
من
فوائد هذا الحديث:
١-
مُسَارعَة الصَّحابة -رَضِي اَللَّه عَنهُم- وتسابقهم إِلى العمل الصَّالح؛ لِأنَّ
هؤلاء الَّذين جَاؤُوا يقولون لِلرَّسول ﷺ: (إِنَّه
ذهب أَهْل الدُّثور بِالْأجور) لَا يُريدون الحسد، لَكِن يُريدون أن يَفتَح لَهُم
اَلنبِي ﷺ بَابَا يُدْركون بِه هذَا السَّبْق.
٢-
أنَّ الصَّحابة -رَضِي اَللَّه عَنهُم- يسْتعْملون أمْوالهم فِيمَا فِيه الخيْر
فِي الدُّنْيَا والْآخرة، وَهُو أَنهُم يتصدَّقون.
٣-
أنَّ الأعْمال البدنيَّة يَشتَرِك فِيهَا اَلغَنِي والْفقير، لِقوْلِهم:
"يَصلُون كمَا نُصلِّي، ويصومون كمَا نَصُوم" وَهُو كَذلِك، وقد يَكُون
أَدَاء اَلفقِير أَفضَل وأكْمل مِن أَدَاء اَلغَنِي.
٤-
أنَّ اَلنبِي ﷺ فَتْح لِلْفقراء أبْوابًا مِن
الخيْر، لِقوْله: «أَوَ لَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم
مَا تَصَّدَّقونَ؟» وَذكَر الأبْواب.
٥-
تَقرِير المخاطب بِمَا لَا يُمْكِنه إِنْكاره، لِقوْله: «أَوَ
لَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ؟»؛ لِأنَّ هذَا أَبلَغ فِي
إِقامة اَلحُجة عليْه.
٦-
أنَّ مَا ذَكرَه اَلنبِي ﷺ مِن الأعْمال
كُلِّه صَدقَة، لَكِن هَذِه الصَّدَقة مِنهَا وَاجِب، وَمِنهَا غَيْر وَاجِب،
وَمِنهَا مُتعَد، وَمِنهَا قَاصِر حسب مَا سنذْكره، قال: «إِنَّ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً،
وَبِكُلِّ تحميده صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تهليله صَدَقَةً»، هذَا كُلُّه
قَاصِر ومنْه وَاجِب، ومنْه غَيْر وَاجِب.
فالتَّكْبير
مِنْه وَاجِب ومنْه غَيْر وَاجِب، فَتكبِير الصَّلوات وَاجِب، وَتكبِير أَذكَار
الصَّلَاة بُعدَهَا مُستَحَب، وهكذَا يُقَال فِي التَّسْبيح والتَّهْليل.
«وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ
صَدَقَةٌ»، هذَا مِن الواجب، لَكِن الأمْر بِالْمعْروف تَارَة يُكوِّن
واجبًا وُجُوب عَيَّن على من قَدْر عليْه ولم يُوجَد غَيرُه، وَكذَلِك النَّهْي عن
اَلمنْكِر، وَتارَة يُكوِّن وَاجِب كِفاية لَمِن قُدِّر عليْه وَلكِن هُنَاك مِن
يَقُوم مُقَامه، وَتارَة يُكوِّن مُستحَبا وَذلِك فِي الأمْر بِالْمعْروف
المسْتحبِّ، والنَّهْي عن اَلمُنكر المكْروه إِن صحَّ أن يُطْلِق عليْه اِسْم
مُنكَر.
والْأَمْر
بِالْمعْروف لَا بُدَّ فِيه مِن شرْطيْنِ:
الشَّرْط
الأوَّل: أن يَكُون الأمْر عالمًا بِأنَّ هذَا مَعرُوف، فَإِن كان جاهلا فَإنَّه
لَا يَجُوز أن يَتَكلَّم؛ لِأَنه إِذَا أمر بِمَا يَجهَل فقد قال على اَللَّه
تَعالَى مَا لَا يَعلَم.
الشَّرْط
الثَّاني: أن يَعلَم أنَّ هذَا المأْمور قد ترك المعْروف، فَإِن لَم يَعلَم تَركُه
إِيَّاه فليسْتفْصل، ودليل ذَلِك أنَّ رَجُلا دخل يَوْم اَلجُمعة والنَّبيُّ ﷺ يَخطُب فَجلَس، فَقَال لَه: «أَصلَيت؟ قال: لَا، قال: قُم فَصْل ركْعتَيْنِ وَتجُوز
فِيهمَا» [٢]، فلم يَأمُره بِصلاة ركْعتَيْنِ حَتَّى سَألَه هل فِعْلهمَا
أوَّلا، فلا بدُّ أن تَعلَم أَنَّه تَارِك لِهَذا المعْروف.
والنَّهْي
عن اَلمُنكر كَذلِك لَا بُدَّ فِيه مِن شُرُوط:
الشَّرْط
الأوَّل: أنَّ تَعلُّم أنَّ هذَا مُنكَر بِالدَّليل اَلشرْعِي، لَا بِالذَّوْق
ولَا بِالْعادة ولَا بِالْغيْرة ولَا بِالْعاطفة، وليْس مُجرَّد أن ترى أَنَّه
مُنكَر يَكُون مُنْكرًا، فقد يُنْكِر الإنْسان مَا كان مَعرُوفا.
الشَّرْط
الثَّاني: أنَّ تَعلُّم أنَّ هذَا المخاطب قد وقع فِي اَلمُنكر، فَإِن لَمَّ
تَعلُّم فلَا يَجُوز أن تُنْهِي؛ لِأَنك لَو فَعلَت لِعدِّ ذَلِك مِنْك تسرُّعًا
ولأكْل النَّاس عَرضَك، بل لَا بُد أنَّ تَعلُّم أنَّ مَا وقع فِيه مُنكَر، مِثَال
ذَلِك: رأيْتُ رَجُلا فِي البلد يَأكُل ويشْرب فِي رَمَضان ولنقْل فِي اَلمسْجِد
الحرَام، فليْس لَك أن تُنْكِر عليْه حَتَّى تَسألَه هل هُو مُسَافِر أم لَا؟
لِأَنه قد يَكُون مُسافِرًا والْمسافر يَجُوز لَه أن يَأكُل ويشْرب فِي رَمَضان،
فلا بدُّ أن تَعلَم أنَّ هذَا المخاطب قد وقع فِي هذَا اَلمُنكر.
الشَّرْط
الثَّالث: أنَّ لَا يَزُول اَلمُنكر إِلى مَا هُو أَعظَم، فَإِن زال اَلمُنكر إِلى
مَا هُو أَعظَم كان إِنْكاره حرامًا؛ لِأنَّ إِنْكاره، يَعنِي: أَننَا حوَّلْنَاه
مِمَّا هُو أخفُّ إِلى مَا هُو أشدُّ، وتحْتَ هَذِه المسْألة أَربَعة أَقسَام:
القسْم
الأوَّل: أن يَزُول اَلمُنكر بِالْكلِّيَّة.
القسْم
الثَّاني: أن يُخْف.
القسْم
الثَّالث: أن يَتَحوَّل إِلى مُنكَر مَثلِه.
القسْم
الرَّابع: أن يَتَحوَّل إِلى مُنكَر أَعظَم.
فَإذَا
كان إِنكَار اَلمُنكر يَزُول فلَا شك أنَّ الإنْكار وَاجِب.
وَإذَا
كان يُخْف فالْإنْكار وَاجِب؛ لِأنَّ تَخفِيف اَلمُنكر أَمْر وَاجِب.
وَإذَا
كان يَتَحوَّل إِلى مَا هُو مَثلُه فَمحَل نظر، هل يُرجِّح الإنْكار أو لَا، فَقْد
يُرجِّح الإنْكار؛ لِأنَّ الإنْسان إِذَا تَغيرَت بِه الأحْوال وانْتَقل مِن شَيْء
إِلى شَيْء رُبمَا يَكُون أخف، وقد يَكُون الأمْر بِالْعَكْس بِحَيث يَكُون بقاؤه
على مَا هُو عليْه أَحسَن مِن نَقلِه؛ لِأَنه إِذَا تَعوَّد التَّنَقُّل اِنتقَل
إِلى مُنكرَات أُخرَى.
وَإذَا
كان يَتَحوَّل إِلى مَا هُو أَعظَم فالْإنْكار حَرَام.
فَإذَا
قال قَائِل: عَلَّل أو دَلَّل لِهَذه الأقْسام؟
فَنقُول:
أَمَّا إِذَا كان إِنْكاره يَقتَضِي زواله فَوجُوبه ظَاهِر لِقَول اَللَّه تَعالَى: {وتعاونوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:
٢] وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤]، وقول النبي ﷺ: «وَالَّذي نَفسي
بيَده لتَأمُرنَّ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَّ عَنِ المُنكَر وَلِتَأخُذنَّ عَلى يَدِ
الظَالِمِ وَلِتَأطُرَنَّهُ عَلى الحقَّ أَطراً» [٣]، وَذكَر اَلحدِيث وعيدًا
شديدًا.
أَمَّا
إِذَا كان الإنْكار يُؤدِّي إِلى تخْفيفه فالتَّعْليل أنَّ تَخفِيف اَلشَّر
وَاجِب، وقد يُقَال: إِنَّ اَلأدِلة السَّابقة دليل على هذَا؛ لِأنَّ هذَا
الزَّائد مُنكَر يَزُول بِالْإنْكار فَيكُون داخلا فِيمَا سبق.
أَمَّا
إِذَا كان يَتَحوَّل إِلى مَا هُو أَنكَر فَإِن الإنْكار حَرَام، ودليل ذَلِك
قَوْل اَللَّه عزَّ وجلَّ: {وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ
عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨]، فَنهَى عن سبِّ آلهة المشْركين مع أَنَّه
أَمْر وَاجِب؛ لِأنَّ سبَّ آلهتِهم يُؤدِّي إِلى سبِّ مِن هُو مُنزَّه عن كُلِّ
نَقْص وَهُو اَللَّه عزَّ وجلَّ، فنحْن إِذَا سبَّبْنَا آلهتهم سببنَا بِحقٍّ،
وَهُم إِذَا سبوْا اَللَّه سبوْه عَدُوا بِغَير حقٍّ.
وَيُذكَر
عن شَيْخ الإسْلام اِبْن تَيمِية -رَحمَه اَللَّه- أَنَّه مرَّ مع صَاحِب لَه على
قَوْم مِن التَّتر يشْربون الخمْر ويفْسقون، ولم ينْههم شَيْخ الإسْلام عن هذَا
فَقَال لَه صَاحبِه: لِماذَا لَا تُنْهاهم؟ وَكَان -رَحمَه اَللَّه- مِمَّن عُرِف
بِإنْكَار اَلمُنكر، فَقَال: لَو نهيْتُ هؤلاء لَقاموا إِلى بُيُوت النَّاس ونهبوهَا
وانْتهكوا أعْراضهم، وَهذَا أَعظَم مِمَّا هُم عليْه الآن -فانْظر لِلْفقْه فِي
دِين اَللَّه عزَّ وجلَّ -.
«وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ»، هَذِه الصَّدَقة قد
تَكُون مِن الواجب تَارَة، وَمِن المسْتحبِّ تَارَة إِذَا كان الإنْسان يَخَاف على
نَفسِه الزِّنى إِنَّ لَم يَأْت أَهلَه صار مِن الصَّدَقة الواجبة، وَإلَّا فَهُو
مِن الصَّدَقة المسْتحبَّة.
وظاهر
قوله: «وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ» أنَّ
ذَلِك صَدقَة وَإِن كان على سبيل الشَّهْوة لَا على سبيل الانْكفاف عن الحرَام؛
لِأَنه إِذَا كان على سبيل الانْكفاف عن الحرَام فالْأَمْر وَاضِح أَنَّه صَدقَة؛
لِأَنه يَدفَع الحرَام بِالْمباح، لَكِن إِذَا كان لِمجرَّد الشَّهْوة فَظاهِر
اَلحدِيث أنَّ ذَلِك صَدقَة، وله وَجْه، وَمِن اَلوُجوه:
الأوَّل:
أنَّ الإنْسان مَأمُور أنَّ لَا يَمنَع نَفسَه مَا تَشتَهِي إِذَا كان ذَلِك فِي
غَيْر مَعصِية اَللَّه لِقَول اَلنبِي ﷺ: «إِنَّ لِنَفسِكَ عَليكَ حَقًّا» [٤].
والثَّاني:
أَنَّه إِذَا أتى أَهلَه فقد أَحسَن إِلى أَهلِه؛ لِأنَّ المرْأة عِنْدهَا مِن
الشَّهْوة مَا عِنْد الرَّجل، فَهِي تَشتَهِي الرَّجل كمَا يشْتهيهَا، فَإذَا
أتاهَا صار مُحَسنا إِليْهَا وَصَار ذَلِك صَدقَة.
٧-
أنَّ الصَّحابة رَضِي اَللَّه عَنهُم لَا يَترُكون شيْئًا مُشَكلا إِلَّا سَألُوا
عَنْه ، لِقوْلِهم: «أَيأتي أَحَدنَا شَهوَتَهُ
وَيَكَون لَهُ فيهَا أَجر».
وَبِه
نَعلَم أنَّ كُلَّ شَيْء لَم يَسأَل عَنْه الصَّحابة مِمَّا يَظُن أَنَّه مِن
أُمُور الدِّين فَإِن السُّؤَال عَنْه بِدْعَة؛ لِأَنه لَو كان مِن دِين اَللَّه
لَقيض اَللَّه مِن يَسأَل عَنْه حَتَّى يَتَبيَّن.
وَمِن
ذَلِك: لِمَا حدث اَلنبِي ﷺ عن الدَّجَّال
أنَّ أَوَّل يَوْم مِن أَيامِه كَسنَة، قَالُوا يَا رَسُول اَللَّه: هذَا اليوْم
اَلذِي كَسنَة يكْفينَا فِيه صَلَاة وَاحِدة فَقَال: «لاَ،
اقدِروا لَهُ قَدرَهُ»، فَكُل شَيْء يَحْتاج إِلَيه النَّاس فِي دِينهم
فَإمَّا أن يَصدُر مِن اَلنبِي ﷺ اِبتِداء،
وَإمَّا أن يَسأَل عَنْه، ومَا لَم يَرُد عن اَلنبِي ﷺ
اِبتِداء ولَا جوابًا لِسؤال وَهُو مِمَّا يَتَعلَّق بِالدِّين فالسُّؤال عَنْه
بِدْعَة.
وَمِن
ذَلِك مَا يفْعله بَعْض المتنطِّعين فِي أَسمَاء اَللَّه وصفاته، أو بَعْض
المتنطِّعين فِيمَا جاء الخبر عَنْه مِن أَحوَال يَوْم القيامة، نَقُول لِهؤلَاء:
إِنَّكم مُبتدعَة، أو نَقُول على الأقلِّ إِنَّ هذَا بِدْعَة؛ لِأَنه قد يَكُون
السَّائل لَا يُريد أن يَبتَدِع فَنقُول: هذَا السُّؤَال بِدْعَة وَإِن كُنَّا لَا
نِصْف السَّائل بِأَنه مُبتَدَع.
فقد
يَكُون العمل بِدْعَة وَفاعِله لَيْس بِمبْتَدع؛ لِأَنه لَا يَعلَم، أو لِتأْوِيل
أو مَا أَشبَه ذَلِك.
٨-
حسن تَعلِيم اَلنبِي ﷺ حَيْث ضرب المثل اَلذِي
يَقتَنِع بِه المخاطب، وَهذَا مِن حُسْن التَّعْليم أن تُقرِّب اَلأُمور
الحسِّيَّة بِالْأمور العقْليَّة، وَذلِك فِي قَولِه: «أَرَأيتُمْ
لَو وَضَعَهَا فِي الحَرامِ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا
فِي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ».
٩-
أنَّ القيَاس حُجَّة، فقياس الموافقة كثير جِدًّا ولَا إِشكَال فِيه بِأن تقيس
هذَا الشَّيْء على هذَا الشَّيْء فِي حُكْم مِن الأحْكام يَجِب هذَا قِياسًا على
هذَا، وَيحرِم هذَا قِياسًا على هذَا.
لَكِن
قِيَاس العكْس صحيح أيْضًا؛ لِأنَّ اَلنبِي ﷺ
قاسٍ هذَا القيَاس قِيَاس عَكْس، يَعنِي: فَإذَا كَانَت الشَّهْوة الحرَام وِزْرًا
فالشَّهْوة الحلَال أَجْر، وَهذَا وَاضِح.
١٠-
أنَّ الاكْتفاء بِالْحلال عن الحرَام يَجعَل الحلَال قِرْبَة وَصدقَة، لِقوْله: «وَفِي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، والله الموفق.
[١]
أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف،
(١٠٠٦)، (٥٣).
[٢]
أخرجه البخاري: كتاب بدء الجمعة، باب: من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين،
(٩٣١)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، (٨٧٥)، (٥٤).
[٣]
أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المائدة، (٣٠٤٨)، وابن ماجه:
كتاب الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (٤٠٠٦)، وأبو داود: كتاب
الملاحم، باب: الأمر والنهي، (٤٣٣٦).
[٤]
أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، (١٩٦٨).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح
الأعمال
ليست هناك تعليقات: