شرح العلامة الشيخ عبد
العزيز بن عبد الله بن باز
شرح حديث/ لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى - الأربعين النووية
الحديث
التاسع والعشرون: أبواب الخير.
عَن مُعَاذ بن جَبَلٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
قُلتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ
النار قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ
وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ
اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا، وَتُقِيْمُ الصَّلاة، وَتُؤتِي الزَّكَاة،
وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ». ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ
جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ،
وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ثُمَّ تَلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى
بَلَغَ: {يَعْلَمُونْ} [السجدة: ١٦-١٧]
ثُمَّ قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ
الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا
رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ
الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» ثُمَّ
قَالَ: «أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» قُلْتُ:
بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ
وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ
فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ
أَلسِنَتِهِمْ» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح [١].
الشرح:
اَلحدِيث
التَّاسع والْعشْرون: حديث مُعَاذ -رَضِي اَللَّه عَنْه- قال: (يَا رَسُولَ الله،
أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ، وَيُبَاعدني منٍ النار؟) سُؤَال عظيم،
كمَا قال رَسُول ﷺ: «لقَدْ
سَأَلْتَني عَنْ عَظِيْمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ»،
أَعمَال الجنَّة يَسِيرَة على من كَتَب اَللَّه لَه السَّعادة ويسْرهَا عليْه،
شَدِيدَة على أَهْل البطالةِ، وَمِن كَتَب عَليهِم الشَّقَاء، نَسأَل اَللَّه
العافية.
ثم
قال ﷺ: «تَعْبُدُ
اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا»، وَهذَا أَصْل الدِّين، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: ٥]، صلاتُك وذبْحُك وصدقاتُك وصوْمُك وغيْر
ذَلِك كُلُّه لِلَّهِ وَحدَه، تُعبِّد اَللَّه وَحدَه فِي كُلِّ العبادات مِن
صَلَاة وصوْم، ودعاء واسْتغاثة، وَنذَر، وَذبَح، إِلى غَيْر ذَلِك، كُلُّه لِلَّهِ
وَحدَه، لَا تُعبِّد معه غَيرُه سُبْحانه وَتَعالَى: {وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: ١٨]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: ٥٦]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:
٣٦]، {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}
[الزمر: ٢].
ثم
قال ﷺ: «وَتُقِيْمُ
الصَّلاة، وَتُؤتِي الزَّكَاة، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ»، هَذِه
أَركَان الإسْلام، الأوَّل التَّوْحيد مع شَهادَة أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه،
ثُمَّ الصَّلَاة والزَّكاة والصِّيام والْحجُّ هَذِه أَركَان الإسْلام الظَّاهرة.
ثم
قال ﷺ: «أَلاَ
أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟»؛ يَعنِي: أَلَّا أُرشِدك إِلى
أَبوَاب مِن أَبوَاب الخيْر؟!
«الصَّوْمُ جُنَّةٌ»؛ يَعنِي: جَنَّة مِن النَّار، أو
مِن أَسبَاب دُخُول الجنَّة والنَّجاة مِن النَّار، وَفِي اَلحدِيث اَلصحِيح: «الصِّيامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أحدِكمْ من القِتالِ»
[٢]؛ يَعنِي: إِذَا اِسْتقَام عليْه وصانه.
«وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ
المَاءُ النَّارَ»؛ يَعنِي: مِن أَسبَاب تَكفِير السَّيِّئات؛ الصَّدقات،
يَمحُو اَللَّه بِهَا السَّيِّئات: {إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}
[هود: ١١٤].
«وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»، كَذلِك
يَمحُو اَللَّه بِهَا السَّيِّئات، مِن أَسبَاب تَكفِير السَّيِّئات التَّهَجُّد
بِاللَّيْل يَرجُو مَا عِنْد اَللَّه، يَتَقرَّب إِلَيه بِأنْوَاع العبادة: مِن
ذِكْر ودعاء وَصَلاة وَغيَّر ذَلِك.
ثم
تلا النبي ﷺ: {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: ١٦-١٧]، هَذِه
مِن أَوصَاف عِبَاد اَللَّه المؤْمنين {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، فِي اللَّيْل يقومون لِلتَّهَجُّد لِأداء َّسَّنةُ
اللَّيْل؛ مِن التَّهَجُّد والْوَتر، {يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}؛ مع العبادة والصِّدْق يخافون اَللَّه
ويطْمعون فِي ثَوابِه؛ فيتعبَّدون رَجَاء وخوْفًا، لَا رِيَاء ولَا سُمعَة، ولَا
عجبًا ولَا مِنَّا؛ وَلكِن عن خَوْف، وعن رَجَاء، عن إِخلَاص، وعن صِدْق، وعن
خُشُوع لِلَّه، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}؛
مِن زَكَاة اَلْمال والصَّدقات وَغيرِها، {فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}؛ مِن أَنوَاع
اَلنعِيم كمَا أَخفَوا عِبادتهم بيْنهم وبيْن اَللَّه، وتهجَّدوا بِاللَّيْل سِرًّا
بيْنهم وبيْن رَبهم، اَللَّه جلَّ وَعلَا، أعدَّ لَهُم مَا لَا عَيْن رأتْ، ولَا
أُذُن سُمعَت، ولَا خطر على قَلْب بشر كمَا فِي اَلحدِيث اَلصحِيح، يَقُول اَلنبِي
ﷺ: «يقول الله عز
وجل: أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصَّالحين ما لا عَيْنٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا
خَطَر على قَلب بَشَر، واقْرَؤُوا إن شِئْتُمْ: {فَلَا تَعَلُّمَ نَفْسِ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةَ أَعْيُن} [السجدة: ١٧]» [٣].
أعدَّ
اَللَّه -عزَّ وجلَّ- لِخواصّ عِباده المؤْمنين مِن أَنوَاع اَلنعِيم مَا لَم تره
عَيْن ولم تسْمعْه أُذُن، ولم يَخطُر على قَلْب بشر، مِن عِظم اَلنعِيم، ومَا فِيه
مِن أَنوَاع اللَّذَّة والْخَيْر.
ثم
قال ﷺ: «أَلا أَدُلُكَ
بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟»، قال: بلى يَا
رَسُول اَللَّه؛ قال: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ»؛
يَعنِي: الشَّهادتيْنِ، وقد سَمَّى الشَّهادتيْنِ الإسْلام؛ لِأنَّهَا أَصْل
الإسْلام وأساسه.
«وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ»، أَعظَم العُمدِ بَعْد
الشَّهادتيْنِ الصَّلَاة، والزَّكاة مِن عُمُدِة، وصيام رَمَضان مِن عُمُدِة،
والْحجُّ مِن عُمُدِة؛ لَكِن أَعظَم العمْد وأفْرضهَا وأوْجبهَا بَعْد
الشَّهادتيْنِ الصَّلَاة.
«وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»، أَعلَاه الجهَاد؛
فَبِه يَرفَع الإسْلام، وَبِه يَكثُر أَهلَه، وَبِه يُنصَرُ أَهلُه.
ثم
قال ﷺ: «أَلا أُخبِرُكَ
بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»؛ يَعنِي: بِمَا يَملِك عليْك هذَا الخيْر
ويحْفَظه عليْك، قال: بلى يَا رَسُول اَللَّه، فَأخَذ ﷺ
بِلسانه وَقَال: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا؟»،
فقال: يا نبي الله، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ﷺ: «ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ يَا مُعَاذُ»، كَلمَة يقولهَا العرب عِنْد الإنْكار: ثَكِلَتْكَ؛
أي: فَقَدَتكَ، «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي
النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ؟»،
فَالذِي يَحفَظ عليْه هذَا الخيْر، وَيملِك عليْه هذَا الخيْر -بِتوْفِيق اَللَّه-
أن يَحرِص على حِفْظ لِسانه، فَرُب كَلمَة أهْلكَتْه، وَهلَك بِهَا، وَبطَل بِهَا
جميع مَا عمل، كمَا فِي اَلحدِيث اَلصحِيح: «إنَّ
الْعَبْد لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ، مَا يَتَبيَّنُ فيهَا، يَهوِي بهَا في
النَّارِ، أبْعَدَ مَا بيْنَ المشْرِقِ والمغْرِبِ» [٤]، في اللفظ الآخر: «فيكْتُبُ اللَّه علَيهِ بهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ»
[٥].
فالْواجب
الحذر مِن زَلَّات اللِّسَان وأخْطاره. رِزْق اَللَّه اَلجمِيع التَّوْفيق
والْهداية [٦].
[١]
سنن الترمذي (٢٦١٦).
[٢]
رواه النسائي (٢٢٣٠)، (٢٢٣١)، وابن ماجه (١٦٣٩) من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي
رضي الله عنه، والحديث صححه ابن حبان (١٦١).
[٣]
رواه البخاري ٣٢٤٤، (٤٧٧٩)، ومسلم (٢٨٢٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[٤]
رواه البخاري (٦٤)، (٤٦٧٨)، ومسلم (٢٩٨٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[٥]
رواه الترمذي (٢٣١٩)، وابن ماجه (٣٩٦٩) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله
عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[٦]
ينظر: شرح رياض الصالحين (٤/٢٤٦-٢٤٩).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح
الأعمال