الحديث الحادي عشر/ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
الأربعين النووية
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
الحديث الحادي عشر: اترك ما شككت فيه.
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ
الحَسَنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبِي طالبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرَيْحَانَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-
قَالَ: حَفِظْتَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ:
«دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ»
رواه الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح [١].
الشرح:
الحسن
بْن عليّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِي اَللَّه عَنهُما- سِبْط اَلنبِي ﷺ، والسِّبْط هُو اِبْن البنْتِ، وابْن الابْن
يُسمَّى: حفيدًا، وقد وَصفَه اَلنبِي ﷺ بِأَنه
سَيِّد فَقَال: «إِنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌ،
وَسَيُصْلِحُ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ» [٢]، وَكَان
الأمْر كَذلِك، فَإنَّه بَعْد أن اُستُشهِد عليّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِي اَللَّه
عَنْه- وَبويِع بِالْخلافة لِلْحسْن تَنازَل عَنهَا لِمعاوية رَضِي اَللَّه عَنْه،
فأصْلح اَللَّه بِهَذا التَّنازل بَيْن أَصحَاب مُعَاويَة وأصْحَاب عليّ رِضى
اَللَّه عَنهُما، وَحصَل بِذَلك خَيْر كثير.
وَهُو
أَفضَل مِن أخيه اَلحُسين رَضِي اَللَّه عَنهُما، لَكِن تَعلقَت الرَّافضة
بِالْحسيْنِ؛ لِأنَّ قِصَّة قَتلِه -رَضِي اَللَّه عَنْه- تُثير الأحْزان، فجعلوا
ذَلِك وَسِيلَة، ولو كَانُوا صَادقِين فِي اِحتِرام آل البيْتُ لَكانوا يتعلَّقون
بِالْحسْن أَكثَر مِن اَلحُسين؛ لِأَنه أَفضَل مِنْه.
وأما
قوله: «وَرَيحَانَتهُ» الرَّيْحانة هِي تِلْك الزَّهْرة الطَّيِّبة
الرَّائحة، وقد وصف اَلنبِي ﷺ الحسن والْحسيْن
بِأنَّهمَا ريْحانتاه [٣].
وقوله:
«دَعْ» أي: اترك «مَا
يرِيْبُكَ» أيْ: مَا يلْحقك بِه رَيْب وَشْك وَقلَق إِلى «مَا لاَ يَرِيْبُكَ» أيْ: إِلى شَيْء لَا يلْحقك بِه
رَيْب ولَا قلق.
وَهذَا
اَلحدِيث مِن جَوامِع اَلكَلِم ومَا أَجوَده وأنْفَعه لِلْعبْد إِذَا سار عليْه،
فالْعَبْد يَرُد عليْه شُكُوك فِي أَشيَاء كَثِيرَة، فَنقُول: دع اَلشَّك إِلى مَا
لَا شكَّ فِيه حَتَّى تَسترِيح وَتَسلَّم، فَكُل شَيْء يلْحقك بِه شكٌّ وَقلَق
وريْب اُتْرُكه إِلى أَمْر لَا يلْحقك بِه رَيْب، وَهذَا مَا لَم يَصِل إِلى حدِّ
الوسْواس، فَإِن وصل إِلى حدِّ الوسْواس فلَا تَلتَفِت لَه.
وَهذَا
يَكُون فِي العبادات، وَيكُون فِي المعاملات، وَيكُون فِي النِّكَاح، وَيكُون فِي
كُلِّ أَبوَاب العلم.
ومثال
ذَلِك فِي العبادات: رَجُل انْتقض وَضوئِه، ثُمَّ صَلَّى، وَشْك هل تَوضَّأ بَعْد
نَقْض اَلوُضوء أم لَم يَتَوضَّأ؟ فَوقَع فِي اَلشَّك، فَإِن تَوضَّأ فالصَّلاة
صَحِيحَة، وَإِن لَم يَتَوضَّأ فالصَّلاة بَاطِلة، وَبقِي فِي قلق.
فَنقُول:
"دع مَا يُريبك إِلى مَا لَا يُريبك"،
فالرَّيْب هُنَا صِحَّة الصَّلَاة، وَعدَم الرَّيْب أن تَتَوضَّأ وتصلِّي.
وعكْس
المثَال السَّابق: رَجُل تَوضَّأ ثُمَّ صَلَّى وَشْك هل انْتقض وَضوئِه أم لَا؟
فَنقُول:
"دع مَا يُريبك إِلى مَا لَا يُريبك"،
عِنْدك شَيْء مُتَيقن وَهُو اَلوُضوء، ثُمَّ شَككَت هل طرأ على هذَا اَلوُضوء حدث
أم لَا؟ فَالذِي يَترُك هُو اَلشَّك: هل حصل حدث أو لَا؟ وَأرِح نَفسَك، واتْرك اَلشَّك.
كَذلِك
أيْضًا فِي النِّكَاح: كمَا لَو شكِّ الإنْسان فِي شاهديْ النِّكَاح هل هُمَا ذوَا
عَدْل أم لَا؟
فَنقُول:
إِذَا كان الأمْر قد تمَّ وانْتَهى فَقْد اِنتهَى على الصِّحَّة وَدَّع القلق؛
لِأنَّ الأصْل فِي اَلعُقود الصِّحَّة حَتَّى يَقُوم دليل الفسَاد.
فِي
الرَّضَاع: شكُّ المرْضعة هل أَرضَعت الطِّفْل خَمْس مَرَّات أو أَربَع مَرَّات؟
نَقُول:
اَلذِي لِا ريب فِيه الأرْبع، والْخامسة فِيهَا رَيْب، فَنقُول: دع الخامسة
واقْتَصر على أَربَع، وحينئذ لَا يُثْبِت حُكْم الرَّضَاع.
هذَا
اَلْباب باب وَاسِع لَكنَّه فِي الحقيقة طريق مُسْتقِيم إِذَا مشى الإنْسان عليْه
فِي حَياتِه حصل على خَيْر كثير: «دَعْ مَا يرِيْبُكَ
إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ».
وقد
تَقدَّم أنَّ هذَا مُقيَّد بِمَا إِذَا لَم يَكُن وسْواسًا، فَإِن كان وسْواسًا
فلَا يَلتَفِت إِلَيه، وَعدَم الالْتفات إِلى الوسْواس هُو تَرْك لَمَا يُريبه
إِلى مَا لَا يُريبه، وَلِهذَا قال العلماء -رحمهم اَللَّه- اَلشَّك إِذَا كُثُر
فلَا عِبْرَة بِه؛ لِأَنه يَكُون وسْواسًا، وَعَلامَة كَثرَتِه: أنَّ الإنْسان
إِذَا تَوضَّأ لَا يَكَاد يَتَوضَّأ إِلَّا شكٌّ، وَإذَا صَلَّى لَا يَكَاد
يُصلِّي إِلَّا شكٌّ، فَهذَا وَسْواس فلَا يَلتَفِت إِلَيه، وحينئذ يَكْون قد ترك
مَا يُريبه إِلى مَا لَا يُريبه.
مِثَال
آخر: رَجُل أَصَاب ثَوبُه نَجاسَة وَغَسلهَا، وَشْك هل النَّجاسة زَالَت أم لَم
تزل؟ يغْسلهَا ثَانِية؛ لِأنَّ زَوَالهَا الآن مَشكُوك فِيه، وَعدَم زَوالِها هُو
الأصْل، فَنقُول: دع هذَا اَلشَّك وَارجِع إِلى الأصْل واغْسلْهَا حَتَّى
تَتَيقَّن أو يَغلِب على ظَنِّك أَنهَا زَالَت.
يَقُول:
"رَوَاه التِّرْمذي والنِّسائيُّ، وَقَال التِّرْمذي: حديث حُسْن صحيح"
والْحديث كمَا قال التِّرْمذي صحيح، لَكِن فِي الجمْع بَيْن كَونِه حسنًا وكوْنه
صحيحًا إِشكَال؛ لِأنَّ المعْروف أنَّ اَلصحِيح مِن اَلحدِيث غَيْر الحسن؛ لِأنَّ
العلماء قَسمُوا اَلحدِيث إِلى: صحيح لِذاته، وصحيح لِغيْره، وَحسَن لِذاته،
وَحُسن لِغيْره، وضعيف.
فكيْف
يُجمَع بَيْن وصْفيْنِ مُتناقضيْنِ لِموْصوف وَاحِد: حسن صحيح؟ أَجَاب العلماء عن
ذَلِك: بِأَنه إِن كان هذَا اَلحدِيث جاء مِن طريق وَاحِد فمعْنَاه أنَّ الحافظ
شكَّ هل بلغ هذَا اَلطرِيق دَرجَة اَلصحِيح أو لَا زال فِي دَرجَة الحسن وَإذَا
كان مِن طريقَيْنِ فمعْنى ذَلِك: أنَّ أحد الطَّريقيْنِ صحيح والْآخر حسن.
وَهنَا
فَائِدة: فِي أَيهِما أَقوَى أن يُوصَف اَلحدِيث بِالصِّحَّة، أو بِكوْنه صحيحًا
حسنًا؟
اَلْجَواب:
نَقُول: إِذَا كان مِن طريقَيْنِ فَحسَن صحيح أَقوَى مِن صحيح، وَإِن كان مِن طريق
وَاحِد فَحسَن صحيح أَضعَف مِن صحيح، لِأنَّ الحافظ اَلذِي رَوَاه تَردُّد هل بلغ
دَرجَة الصِّحَّة أو لَا زال فِي دَرجَة الحسن.
من
فوائد هذا الحديث:
١-
أنَّ الدِّين الإسْلاميَّ لَا يُريد مِن أبْنائه أن يكونوا فِي شكٍّ ولَا قلق،
لِقوْله: «دَعْ مَا يرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ
يَرِيْبُكْ».
٢-
أَنَّك إِذَا أردْتُ الطُّمأْنينة والاسْتراحة فاتْرك المشْكوك فِيه وأطْرَحه
جانبًا، لَا سِيَّما بَعْد الفرَاغ مِن العبادة حَتَّى لَا يلْحقك القلق، ومثاله:
رَجُل طاف بِالْبَيْتِ وانْتَهى وَذهَب إِلى مَقَام إِبْراهيم لِيصلِّي، فشكَّ هل
طاف سبْعًا أو سِتًّا فماذَا يَصنَع؟
اَلْجَواب:
لَا يَصنَع شيْئًا؛ لِأنَّ اَلشَّك طرأ بَعْد الفرَاغ مِن العبادة، إِلَّا إِذَا
تَيقَّن أَنَّه طاف سِتًّا فَيكمِل إِذَا لَم يُطِل الفصْل.
مِثَال
آخر: رَجُل اِنتهَى مِن الصَّلَاة وَسلَّم، ثُمَّ شكِّ هل صَلَّى ثلاثًا أمَّ
أَربَعا، فماذَا يَصنَع؟
اَلْجَواب:
لَا يَلتَفِت إِلى هذَا اَلشَّك، فالْأَصْل صِحَّة الصَّلَاة مَا لَم يَتَيقَّن
أَنَّه صَلَّى ثلاثًا فَيأتِي بِالرَّابعة إِذَا لَم يُطِل الفصْل ويسلِّم ويسْجد
لِلسَّهْو ويسلِّم.
٣-
أنَّ اَلنبِي ﷺ أُعْطِي جَوامِع اَلكَلِم،
واخْتَصر لَه الكلَام اِخْتصارًا؛ لِأنَّ هاتيْنِ الجمْلتيْنِ: «دَعْ مَا يرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكْ» لَو
بنى عَليهِما الإنْسان مُجَلدا ضخْمًا لَم يَستوْعِب مَا يدلَّان عليْه مِن
المعاني، وَصلَّى اَللَّه على نَبِينَا مُحمَّد وَعلَى آله وَصحبِه وَسلَّم.
[١]
أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب (٢٥١٨) والنسائي: كتاب الأشربة، باب: الحث
على ترك الشبهات، (٥٧١١).
[٢] أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب: قول النبي ﷺ للحسن بن علي رضي الله عنه، (٢٧٠٤).
[٣]
أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة: مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، (٣٧٥٣).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: