شرح حديث (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) الأربعون النووية
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح حديث (إن أحدكم يجمع
خلقه في بطن أمه) الأربعون النووية
الحديث الرابع: مراحل الخلق.
عنْ
أبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ-
قالَ: حدَّثنا رسولُ اللهِ ﷺ، وهو الصَّادِقُ
المصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ
خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ
عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرْسَلُ
إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ:
بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ. فو الله الَّذِي
لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ
أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ
أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
الشرح:
قوله:
(حَدَّثَنَا) حدث، وأخبر في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي كذلك عند قدماء
المحدثين، لكن عند المتأخرين من صاروا يفرقون بين (حدثنا) و (أخبرنا)، وعلم ذلك
مذكورا في مصطلح الحديث.
وقوله:
(وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْق) الجملة هذه مؤكدة لقوله: رَسُولُ اللهِ؛ لأن من
اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
وقوله:
(وَهُوَ الصَّادِقُ) أي: الصادق فيما أَخْبَر به، (المَصْدُوْقُ) فيما أُخبِر به،
فإذا قلت: قدم زيد، وكان قادماً، فهذا يقال للمخبر إنه صادق. وإذا حدثني إنسانٌ
وقال: قدم زيد وهو صادق فإنه يقال لي مصدوق، أي: مخبر بالصدق.
والنبي
ﷺ
وصفه كذلك تماماً، فهو صادق فيما أخبر به، ومصدوق فيما أوحي إليه -عليه الصلاة
والسلام-.
و
إنما ذكر ابن مسعود -رضي الله عنه- هذه الجملة؛ لأن التحدث عن هذا المقام من أمور
الغيب التي تخفى، وليس في ذلك الوقت تقدم طبٍّ حتى يُعرف ما يحصل.
وهناك
ما هو فوق علم الطب وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد، فلذلك من فقه عبد
الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن أتى بهذه الجملة المؤكدة لخبر النبي ﷺ.
قال:
«إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ» وذلك أن الإنسان إذا
أتى أهله فهذا الماء المتفرق يجمع وكيفية الجمع لم يذكر في الحديث، وقيل: إن الطبّ
توصّل إلى معرفة بعض الشيء عن تكون الأجنة، والله أعلم.
«أَرْبَعِيْنَ
يَوْمَاً نُطْفَة» أي: قطرة من المني.
«ثُمَّ
يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ» وهل ينتقل فجأة من النطفة إلى العلقة؟
الجواب:
لا، بل يتكون شيئاً فشيئاً، فيحمرا حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة.
والعلقة
هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة.
«ثُمَّ
يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك» أي: أربعين يوماً، «والمضغة»: هي قطعة لحم بقدر ما
يمضغه الإنسان.
وهذه
المضغة تتطور شيئاً فشيئا، ولهذا قال الله تعالى: {ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: ٥]
فالجميع
يكون مائة وعشرين، أي: أربعة أشهر.
«ثُمَّ
يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ» والمرسِل هو الله رب العالمين عزّ وجل، فيرسل الملك
إلى هذا الجنين وهو أحد الملائكة، والمراد به الجنس لا ملك معين.
«فَيَنْفُخُ
فِيْهِ الرُّوْحَ» الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه
ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.
والروح
سئل النبي ﷺ
عنها فأمره الله أن يقول: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: ٨٥] فالروح من أمر
الله، أي: من شأنه، فهو الذي يخلقها عزّ وجل: {وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: ٨٥] وهذا فيه نوع من
التوبيخ كأنه قال: ما بقى عليكم من العلم إلا الروح حتى تسألوا عنها، ولهذا قال
الخضر لموسى -عليه السلام- لما شرب الطائر من البحر: "ما نقص علمي وعلمك من
علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر"، أي: أنه لم ينقص شيئاً.
«وَيُؤْمَرُ»
أي: الملك «بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ» والآمر هو الله عزّ وجل، بِكْتبِ رِزْقِهِ،
وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْد.
رِزْقه
الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به
الدين.
والرزق
الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق
الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.
«وَأَجَله»
أي: مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافاً متبايناً، فمن
الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائة سنة من هذه الأمة، أما من
قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح -عليه السلام- في قومه ألف سنة
إلا خمسين عاماً.
واختيار
طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن، إذ قد يحصل
الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزّ
وجل.
وهذا
الأجل لا يتقدم لحظة ولا يتأخر، فإذا تم الأجل انتهت الحياة، وأذكر لكم قصة وقعت
في عنيزة: مر دباب، أي: دراجة نارية بتقاطع، وإذا بسيارة تريد أن تقطع، فوقف صاحب
الدباب ينتظر عبور السيارة، والسيارة وقفت تنتظر عبور الدباب، ثم انطلقا جميعاً
فصُدم الدباب ومات الراكب الرديف الذي وراء السائق، فتأمل الآن، وقف هذه الدقيقة
من أجل استكمال الأجل -سبحان الله-. قال
الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا
جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: ١١].
وقال
ﷺ:
«إِنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا».
وهنا
مسألة: هل الأجل وراثي؟
الجواب:
الأجل ليس وراثياً، فكمْ من شاب مات من قبيلة أعمارهم طويلة، وكمْ من شاب عمَّر في
قبيلة أعمارها قصيرة.
«وَعَمَله»
أي: ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل.
«وَشَقِيٌّ
أَوْ سَعِيْدٌ» هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس،
قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ *
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا
مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: ١٠٥-١٠٨] فالنهاية إما
شقاء وإما سعادة، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة.
قال:
(فَو َاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ) هذه الجملة قيل إنها مدرجة من كلام ابن
مسعود -رضي الله عنه- وليست من كلام النبي ﷺ. وإذا اختلف المحدثون
في جملة من الحديث أمدرجة هي أم من أصل الحديث؟ فالأصل أنها من أصل الحديث، فلا
يقبل الإدراج إلا بدليل لا يمكن أن يجمع به بين الأصل والإدراج وعلى هذا فالصواب
أنها من كلام النبي ﷺ.
«فَوَ
اللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ» هذا قسم مؤكد بالتوحيد، القسم: "فَو
َاللهِ" والتوكيد بالتوحيد: "الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ"، أي:
لا إله حق غير الله، وإن كان توجد آلهة تعبد من دون الله لكنها ليست حقا كما قال
الله -عزّ وجل-: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ
مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: ٤٣]، وقال -عزّ وجل-: {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل}
[لقمان: ٣٠].
«إِنَّ
أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ» أي: حتى يقرب أجله تماماً. وليس المعنى حتى ما يكون
بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل؛ لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً، كما
جاء في الحديث: «إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» فيما يبدو
للناس وهو من أهل النار؛ لأنه أشكل على بعض الناس: كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما
يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فنقول:
عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع، أي: بدنو أجله، أي: أنه قريب من الموت. "فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ" فيدع العمل الأول
الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه -والعياذ بالله- هوت به إلى هاوية.
أقول
هذا لئلاّ يظن بالله ظن السوء: فو الله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل
بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.
فالله
-عزّ وجل- أكرم من عبده، لكن لا بد من بلاء في القلب.
واذكروا
قصة الرجل الذي كان مع النبي ﷺ
في غزوة من غزواته -عليه الصلاة والسلام- وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة
للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي ﷺ: «هُوَ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ» فعظم ذلك على الصحابة -رضي الله عنهم- كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟
فقال رجل: لألزمنه، أي: أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من
العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه -والعياذ بالله- ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه
على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي ﷺ وأخبره وقال: أشهد أنك
رسول الله، قال: بِمَ قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل منه كذا
وكذا. فقال النبي ﷺ
بعد ذلك: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو
للِنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
واذكروا
قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً
لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في
الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا:
ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً على قومك، أم رغبة في الإسلام، قال: بل رغبة
في الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي ﷺ السلام، فصار هذا
ختامه أن قتل شهيداً مع أنه كان منابذاً للدعوة.
من
فوائد هذا الحديث:
١-
حسن أسلوب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وهو كلماته كأنما تخرج من مشكاة
النبوة، كلمات عذبة مهذبة، وانظر إلى الأثر المروي عنه: من سرّه أن يلقى الله غداً
مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن. إلى آخر الأثر كأنما يخرج من مشكاة
النبوّة.
٢-
أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع
التأكيدات.
٣-
تأكيد الخبر بما يدل على صدقه، لقول عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: وَهُوَ
الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ..
٤-
أن الإنسان في بطن أمه يُجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي ﷺ.
٥-
أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يوماً.
وقد
يقول قائل: هذه النطفة هل يجوز إلقاؤها أولا يجوز؟
والجواب:
ذكر الفقهاء -رحمهم الله- أنه يجوز إلقاؤها بدواء مباح، قالوا: لأنه لم يتكون
إنسانا ولم يوجد فيه أصل الإنسان وهو الدم.
وقال
آخرون: لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: {فَجَعَلْنَاهُ
فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات: ٢١-٢٢] فلا يجوز
أن نتجاسر على هذا القرار المكين ونخرج الجنين منه، وهذا أقرب إلى الصواب أنه
حرام، لكنه ليس كتحريم ما بعده من بلوغه أربعة أشهر.
فإذا
قدر أن المرأة مرضت وخيف عليها، فهل يجوز إلقاء هذه النطفة؟
الجواب:
نعم يجوز؛ لأن إلقاءها الآن صار ضروريّاً.
٦-
حكمة الله -عزّ وجل- في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
٧-
أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، وجهه: أن أصل بني آدم بعد النطفة العلقة،
والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
٨-
أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة بنص القرآن كما قال
الله تعالى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: ٥]، لكن ما الذي يترتب على كونها مخلقة أو
غير مخلقة؟ الجواب: يترتب عليها مسائل:
لو
سقطت هذه المضغة غير مخلقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاساً، بل دم فساد.
ولو
سقطت هذه المضغة قبل أن تخلق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة؛ لأنه لا بد في
انقضاء العدة أن يكون الحمل مخلقاً، ولا بد لثبوت النفاس من أن يكون الحمل مخلقاً؛
لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست آدمياً، فلذلك لا نعدل إلى
إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق إنسان.
٩-
أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر، لقوله: «ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ
فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ».
وينبني
على هذا:
أ-
أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر
المسلمين ويسمى ويعق عنه؛ لأنه صار آدمياً إنساناً فيثبت له حكم الكبير.
ب-
أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن إسقاطه؛
لأن إسقاطه حينئذ يكون سبباً لهلاكه، ولا يجوز قتله وهو إنسان.
فإن
قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سبباً لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى
وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟
فالجواب:
نقول ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لا استحسان في مقابلة الشرع.
فنقول:
الثاني هو المتعيّن بمعنى أنه لا يجوز إسقاطه حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت
الأم. وقد يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان،
وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم.
والجواب
على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
أولاً:
قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، ولذلك لو فرض أن رجلين كانا في سفر في أرض
فلاة ولا زاد معهما، وكان أحدهما كبيراً والآخر عشر سنين أو تسع سنين فجاع الكبير
جداً بحيث لو لم يأكل لهلك، فلا يجوز للكبير أبداً أن يذبح الصغير ليأكله ويعيش
بإجماع المسلمين.
ولو
قدر أن الصبي مات من الجوع وبقي الكبير وهو إما أن يأكله فيبقى أو يتركه فيهلك،
فهل يجوز له الأكل من جسد الصغير؟
والجواب:
مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في المشهور عنه أنه لا يجوز أكله؛ لأن النبي ﷺ قال: «كَسْرُ عَظْمِ
الميِّتِ كَكَسْرِهِ حَيَّاً» وذبح الميت كذبحه حياً. والقول الثاني في هذه
المسألة: أنه يجوز أن يأكل منه ما يسد رمقه؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.
أولاً:
فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت الأم ثم
هلك هو فالذي أهلكهما هو الله -عزّ وجل-، أي: ليس من فعلنا.
ثانياً:
لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لا سيما في وقتنا الحاضر، إذ من الممكن إجراء
عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيى، ولهذا بعض البيطريين في الغنم وشبهها يستطيع إذا
ماتت الأم أن يخرج حملها قبل أن يموت.
وأيضاً
نقول: لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله -عزّ وجل- لا يلزم أن تموت
هي، فيُخرج؛ لأنه ميت وتبقى الأم.
الخلاصة:
أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
ومن
فوائد هذا الحديث:
١٠-
عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون بهم، ووكل
بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا دليل على عناية الله
تعالى بنا.
١١-
أن الروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: ١٢]، لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن
هذا من أمور الغيب.
١٢-
أن الروح جسم؛ لأنه ينفخ فيحل في البدن.
ولكن
هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟
الجواب:
لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: ٨٥] قال شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ولما لم
يكن عند المتكلمين والفلاسفة علم شرعي بحال الروح تخبطوا فيها، فقال بعضهم:
إن الروح عرض، أي: صفة للبدن كالطول والقصر والبياض والسواد. وقال بعضهم: إن الروح
هي الدم. وقال بعضهم: إن الروح جزء من الإنسان كيده ورجله، فتخبطوا فيها.
وأما
أهل السنة فيقولون: الروح من أمر الله عزّ وجل، ولكننا نؤمن بما علمنا من أوصافها
في الكتاب والسنة، فمن ذلك: قول الله تعالى: {قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: ١١]،
أي: يقبضكم، وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: ٦١] أي: قبضته، وثبت في الصحيح
عن النبي ﷺ
أن الملائكة إذا قبضوا الروح من الجسد إذا كان من أهل الجنة -اللهم اجعلنا منهم-
فإذا مع الملائكة كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فأخذوها من يد ملك الموت ولم
يدعوها طرفة عين ثم جعلوها في ذلك الكفن وصعدوا بها إلى السماء.
إذاً
هي جسم لكن مخالف للأجسام الكثيفة التي هي أجسادنا، والله أعلم بكيفيتها. والروح
عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن لكن ليس خروجاً تامّاً، فتجد نفسك تجوب
الفيافي ربما وصلت إلى الصين أو إلى أقصى المغرب وربما طرت بالطائرة وربما ركبت
السيارة، وأنت في مكانك واللحاف قد غطّى جسمك، ومع ذلك تتجول في الأرض، لكنها لا
تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامة، فالروح أمرها غريب ولسنا نعلم منها إلا ما
جاء في الكتاب والسنة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمهُ لله -سبحانه وتعالى-.
فإذا كنت لا تدري عن نفسك التي بين جنبيك فكيف
تحاول أن تعرف كيفية صفات الله -عزّ وجل- الذي هو أعظم وأجل من أن تحيط به.
فإذا
عرفت نفسك وأنك غير قادر على إدراك كيفية صفات الله مهما كنت، فلا تحاول إدراك
الكيفية ولا السؤال عنها، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله- في السؤال عن كيفية
الاستواء: بدعة.
وهذا
المثال -أعني مثال الروح- حجة مقنعة لمن يبحث عن كيفية صفات الله فإذا كان العبد
لا يعلم عن روحه التي هي قوام بدنه فكيف بكيفية صفات الله عزّ وجل.
١٣-
أن الملائكة عليهم السلام، عبيد يؤمرون وينهون، لقوله: «فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ
كَلِمَاتٍ» والآمرُ له هو الله عزّ وجل.
١٤-
أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. ولكن هل
معنى ذلك ألا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟
الجواب:
بلى نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
١٥-
أن الملائكة يكتبون.
فلو
قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو
العبرية، أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب:
السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلا نقول شيئاً.
هذه
الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟
الجواب:
هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة،
والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله،
ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
١٦-
أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا أمر
مسلّم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما ينفعنا وأن ندع
ما يضرنا.
١٧-
أن نهاية بني آدم أحد أمرين: إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: ١٠٥]، وقال
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: ٢]، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من
أهل السعادة إنه سميع قريب.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
جزاكم الله خير الجزاء
ردحذف