باب
تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
أحاديث رياض الصالحين: باب تعظيم حُرمات
المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم.
٢٣١- وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها، قَالَتْ:
قدِم ناسٌ مِن الأَعْرابِ عَلَى رسولِ اللَّه ﷺ
فقالوا: أَتُقبِّلونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»،
قالوا: لَكِنَّا واللَّه مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «أَوَ أَمْلِكُ إِنْ
كَانَ اللَّه نَزعَ مِنْ قُلُوبِكُم الرَّحمَةَ» [١] متفقٌ عَلَيْهِ.
٢٣٢- وعن جريرِ بنِ عبدِ اللَّه رضي اللَّه
عنه، قال:
قال رسولُ اللَّه ﷺ: «مَنْ لا يَرْحَم النَّاس لا يَرْحَمْهُ اللَّه» [٢] متفقٌ عَلَيهِ.
٢٣٣- وعن أَبي هُريرةَ رضي اللَّه عنه، أَنَّ
رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: «إِذا صَلَّى أَحدُكُمْ للنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ
فِيهِم الضَّعِيفَ وَالسَّقيمَ والْكَبِيرَ، وإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ
فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ» [٣] متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ: «وذَا
الْحاجَةِ».
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله تعالى، فيما نقله
عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: جاء قوم من الأعراب إلى النبي ﷺ فسألوا: هل تقبلون صبيانكم؟ قال النبي ﷺ: «نعم»، الأعراب كما
نعلم جميعًا جفاة، وعندهم غلظة وشدة ولا سيما رعاة الإبل منهم، فإن عندهم من
الغلظة والشدة ما يجعل قلوبهم كالحجارة، نسأل الله العافية. قالوا: إنا لسنا نقبل
صبياننا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَوَ
أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّه نَزعَ مِنْ قُلُوبِكُم الرَّحمَةَ»، يعني: لا
أملك لكم شيئًا إذا نزع الله الرحمة من قلوبكم.
وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصبيان شفقة
عليهم، ورقة لهم، ورحمة بهم. وفيه دليلٌ على أن الله تعالى، قد أنزل في قلب
الإنسان الرحمة، وإذا أنزل الله في قلب الإنسان الرحمة فإنه يرحم غيره، وإذا رحم
غيره، رحمه الله عزَّ وجلَّ.
كما في الحديث الثاني حديث عائشة رضي
الله عنها، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ لا يَرْحَم النَّاس لا يَرْحَمْهُ اللَّه» نسأل
الله العافية.
الذي لا يرحم الناس لا يرحمه الله عزَّ وجلَّ،
والمراد بالناس: الناس الذين هم أهل للرحمة كالمؤمنين وأهل الذمة ومن شابههم، وأما
الكفار الحربيون فإنهم لا يُرحمون، بل يقتلون؛ لأن الله تعالى قال في وصف النبي ﷺ، وأصحابه: {أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
[الفتح: ٢٩]، وقال تعالى للنبي ﷺ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
[التوبة: ٧٣].
ذكر الله تعالى هذه الآية في سورتين من
القرآن الكريم بهذا اللفظ نفسه: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ذكرها الله في سورة التوبة
وفي سورة التحريم، وقال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ
مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا
كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: ١٢٠].
وكذلك أيضًا رحمة الدواب والبهائم فإنها
من علامات رحمة الله عزَّ وجلَّ، للإنسان؛ لأنه إذا رق قلب المرء رحم كل شيء ذي
روح، وإذا رحم كل شيء ذي روح رحمه الله. قيل: يا رسول الله؛ ألنا في البهائم أجر؟
قال: «نعم، في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ»
[٤].
ومن الشفقة والرحمة بالمؤمنين أنه إذا
كان الإنسان إمامًا لهم، فإنه لا ينبغي له أن يطيل عليهم في الصلاة. ولهذا قال
النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذا صَلَّى أَحدُكُمْ
للنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِم الضَّعِيفَ وَالسَّقيمَ والْكَبِيرَ وذَا الْحاجَةِ»، يعني:
من ورائه أهل الأعذار الذين يحتاجون إلى التخفيف، والمراد بالتخفيف ما وافق سنة
النبي ﷺ، هذا هو التخفيف وليس المراد بالتخفيف
ما وافق أهواء الناس، حتى صار الإمام يركض في صلاته ولا يظمئن. قال أنس بن مالك
رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام قطّ أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ﷺ، ومع ذلك فكأن يقرأ في فجر الجمعة: {آلم (١) تَنزِيلُ} السجدة كاملة في الركعة الأولى. و
{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ} [الإنسان: ١] كاملة في الركعة
الثانية، وكان يقرأ بسورة الدخان في المغرب، ويقرأ فيها بالمرسلات، ويقرأ فيها
بالطور، ربما قرأ فيها بالأعراف، ومع هذا فهي خفيفة، قال أنس رضي الله عنه: "ما
صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ﷺ"
[٥].
وليس هذا الحديث حجة للذين يريدون من
الأئمة أن يخففوا تخفيفًا ينقص الأجر ويخالف السُّنَّة. ثم أعلم أنه قد يكون
التخفيف عارضًا طارئًا، مثل ما كان النبي ﷺ يفعل،
كان يدخل في الصلاة وهو يريد أن يطيل فيها، فيسمع بكاء الصبي فيوجز مخافة أن تفتتن
أمه. فإذا حصل طارئ يوجب أن يخفف الإنسان صلاته فليخفف، لكن على وجه لا يخف
بالواجب.
فالتخفيف نوعان:
تخفيف دائم: وهو ما وافق سُّنَّة النبي ﷺ. وتخفيف طارئ يكون أخفّ، وهو ما دعت إليه الحاجة،
وهو أيضًا من السُّنَّة، فإن النبي ﷺ كان إذا
سمع بكاء الصبي خفف الصلاة حتى لا تفتتن أمه، والمهم أنه ينبغي للإنسان مراعاة
أحوال الناس ورحمتهم. وفق الله الجميع.
[١] أخرجه البخاري: (٥٩٩٨)، ومسلم: (٢٣١٧).
[٢] أخرجه البخاري: (٧٣٧٦)، ومسلم:
(٢٣١٩).
[٣] أخرجه البخاري: (٧٠٣)، ومسلم: (٤٦٧).
[٤] أخرجه البخاري: (٢٣٦٣)، ومسلم: (٢٢٤٤).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ
اِرْحم مَوْتَانا مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم