باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
أحاديث رياض الصالحين: باب تعظيم حُرمات
المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:
٣٠]، وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢]، وَقالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: ٨٨]، وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: ٣٢].
الشرح:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا باب جديد من هذا الكتاب المبارك،
وهو باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم.
تعظيم حرمات المسلمين: الحرمات جمع حرمة،
وهو ما ينبغي مراعاته من حقوقهم، ويحرم انتهاكه مما يتصل بدمائهم، وأعراضهم.
وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم:
الشفقة أخص من الرحمة، هي نوع من الرحمة فيها حنو وعطف، وإرفاق كما تقول: هذا يشفق
على ولده، يعني: أنه يخاف عليه مع عطف ومراعاة وحنو على هذا الولد، وهكذا ينبغي
للمسلم أن يشفق على إخوانه المسلمين؛ لأنهم لحمة واحدة، والآصرة التي بينهم أعظم
من الآصرة التي تكون بالنسب، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:
١٠]، وقال في حق أبي لهب وهو عم النبي ﷺ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:
١] مع شدة قرابته لرسول الله ﷺ، ونحن
نترضى عن بلال رضي الله عنه، وسلمان
وصهيب وأمثال هؤلاء، فالذي يقرب ويبعد هو آصرة الإيمان والعقيدة التي تجمع هؤلاء
الناس وإن تباينت ديارهم واختلفت ألسنتهم ولغاتهم.
ونقرأ: {ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحـج:
٣٠] تعظيم حرمات الله جَلَّ وَعَلاَ، يدخل فيه تعظيم أحكامه وشرائعه الظاهرة
والباطنة، وتعظيم الكعبة والحرم، والهدي، {لاَ
تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ
الْقَلآئِدَ} [المائدة: ٢]، ويدخل فيه أيضًا تعظيم الصلاة والأذان، وتعظيم
آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي:
القرآن، وتعظيم نبيه ﷺ، وتعظيم أحكامه، كل ما
حده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ينبغي
أن يعظم، ولا يُتخذ شيء من ذلك هزوًا، فإن الله تبارك وتعالى، توعد المستهزئين
بآياته وبرسوله ﷺ: {وَلَئِن
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ
وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ
كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ
طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: ٦٥-٦٦]، فأحكام
الله تبارك وتعالى، وآياته ودينه وشرعه قصد الشارع تعظيم ذلك جميعًا، ولذلك أقول
قاعدة في هذا الباب وهي: كل مزاح أو دعابة أو ضحك يؤدي إلى استخفاف أو استهزاء أو
انتقاص بآيات الله عزَّ وجلَّ، أو
بأحكامه أو بدينه فهو محرم، ولذلك تجد حتى في بعض كتب المتقدمين نسبيًا قبل أكثر
من ثمانية قرون، في كتبهم التي أسموها طرائف شيئًا كثيرًا مما لا يجوز للمسلم أن
يتفوه به، فهناك أشياء تتعلق بالصلاة، وأشياء تتعلق بالملائكة، وأشياء تتعلق
بالمصلين، وهناك أشياء تتعلق بتالٍ كان يتلو فوقع كذا وكذا، ومع أن أصحابها لم
يقصدوا الاستهزاء لكنهم لا يوافَقون على إيراد مثل هذه الأمور.
وهذا أمر قد يقع فيه بعض أهل الفضل
والدين والخير والصلاح من غير قصد، فيصدر أحدهم مجلة أو كتيبًا أو شريطًا أو نحو
ذلك ويورد فيه شيئًا من هذا، من باب التسلية والضحك وإيجاد شيء من المؤانسة،
وأتذكر أني سألت الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، في سنة ١٤٠٦ للهجرة عن طرفة موجودة
في كتاب من هذه الكتب التي أشرت إليها، مصلٍّ كان يصلي فحصل كذا وكذا، ونشرت في
مجلة في مدرسة من المدراس، فقال: هذا كفر بالله تَبارَك وتعالى، ينبغي على من
نشره أن يتوب وأن يعلن في المكان الذي نشره فيه توبته.
فهذه القاعدة ينبغي أن نضبطها؛ لأن بعض
الناس إذا جلسوا في استراحة أو في نزهة أو نحو ذلك توسعوا في هذا وأوردوا طرائف
تتعلق بهذه القضايا العظام، ليضحكوا، والمزاح لا يدخل في هذا الباب لا تصريحًا ولا
تعريضًا، وإنما يدخل في أبواب أخرى كأن نقول: أكل فلان فحصل له كذا، أو نام
إنسان فحصل له كذا.
ولكننا نلاحظ بعض البرامج التي تقدم
في رمضان، وفي غير رمضان، وفيها استهزاء صريح بالدين وبأهله وبالصدقات
وبالمتصدقين، وهذا كله لا يجوز، بل هو من صفات المنافقين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:
٧٩]، فإذا جاء إنسان بصدقة كثيرة قالوا: هذا مرآء، ويسخرون من الذين يجمعون
الصدقات ويتهمونهم، ويسخرون من لحى الملتحين ويستهزئون بهم.
وهذه الآية: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ} [التوبة: ٦٥]، كان استهزاؤهم بالصحابة عبارة عن ممازحة ومفاكهة
وملاطفة، يقطعون بها الطريق الطويل إلى تبوك على حد زعمهم، فقالوا: "والله
إنهم أرغبنا بطونا، وأخشانا عند اللقاء، وأضعفنا قلوبا".
فالإسلام لا يحرم المزاح الذي لا يؤدي
إلى الضحك في قضايا تتعلق بالدين والآيات والقرآن وما أشبه هذا.
ثم ذكر آية أخرى وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن
تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحـج: ٣٢]، وتعظيم شعائر الله جَلَّ وَعَلاَ، أول ما يدخل فيه تعظيم
الشعائر الظاهرة: الوقوف بعرفة، والكعبة، والطواف والتلبية، والذبح والهدي.
والمشركون في الجاهلية كانوا يعظمون
البُدن غاية التعظيم، وتعرفون ما وقع في يوم صلح الحديبية كان النبي ﷺ يعرضها لبعضهم، وقد علق فيها القلائد، فلما رآها
بعضهم قالوا: "والله لا يرد مثل هؤلاء عن البيت، كيف يردون وقد ساقوا البدن؟!"
وبعض الناس ذهب وحج وطاف وسعى ووقف
بعرفة، ثم رجع يقول لأصحابه: ما رأينا شيئًا يذكر، جلسنا ليلة في مزدلفة، وفي
النهار كنا في عرفة ثم رجعنا، يقول هذا استهزاًء وسخريًة، وهذا آخر يقول في قناة
من القنوات يسمعه القريب والبعيد والعدو والصديق: "طوافكم بالكعبة ورميكم
للجمار ومسحكم على الحجر فيه نوع من الوثنية، فالشيطان في قلوبكم فارموه"
فالقائل بهذا الكفر رجل ينتسب إلى الدعوة.
ففي قوله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} يدخل فيه
تعظيم الأذان، قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: ٥٨] فالأذان
يعظم، وصلاة الجماعة كذلك.
الحجاب من شعائر الله تَبارَك
وتعالى، ومن
الأمور الظاهرة، على تفسير من فسر الشعائر بالأمور الظاهرة، وليس الاستهزاء به
أمرًا سهلًا، وهؤلاء الذين يستهزئون به صباحًا ومساًء في صحفهم الصفراء ويسخرون من
المحجبة، بل يقول أحدهم: إن الذي يأمر امرأته بتغطية وجهها بالحجاب عنده وسواس
قهري، ألم يعلم القائل بهذا الكلام قول الله تَبارَك وتعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى
أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: ٥٩]؟ ويقول أيضاً تَبارَك
وتعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:
٥٣] فهذا خطاب لأمهات المؤمنين، فكيف بنا اليوم وفينا من يقول: إن الذي يأمر
امرأته بتغطية وجهها بالحجاب عنده وسواس قهري؟!
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: ٨٨] يعني: ألن جانبك، الإنسان
ينبغي أن يكون لين الجانب ذليلًا مع إخوانه المؤمنين؛ لأن العزة لا تكون على
المؤمنين، بل تكون على الكافرين، وكثير من الناس يعكس هذه القضية، فإذا تكلم عن
الكفار أظهر الود والحب لهم في كلامه، بل دعا لهم بالرحمة والمغفرة، ويذكر
محاسنهم، ويغض الطرف عن مساويهم التي أولها الشرك بالله، ويقول بعضهم: ليس بيننا
وبينهم عداوة، بل يشتركون معنا في الإيمان بالله، والله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، سماهم
أهل كتاب.
وبعضهم يقول: هؤلاء لا يجوز أن يقال لهم:
كفار، ليسوا بكفار، بل هؤلاء يدخلون الجنة.
وإذا تكلم على المسلمين لاسيما على
الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالغ
في التهكم عليهم والتحريض ضدهم وأساء إليهم غاية الإساءة، كما قال الله تعالى: {سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:
١٩]، فلا يقول: هؤلاء إخواننا وإن اختلفنا معهم في وجهة النظر، لا يجوز الوقيعة في
أعراضهم والكلام عليهم.
فأقول: هذه بلايا ورزايا لا يجوز للمؤمن
أن يكون واقعًا فيها، بل يجب عليه أن يكون ذليلًا على المؤمنين عزيزًا على
الكافرين، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ
حَدِيثًا} [النساء: ٨٧] وقال تعالى: {وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: ١٢٢].
وقال تعالى: {مَن
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
[المائدة: ٣٢]، {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ}، يعني: أو بغير فساد في الأرض، هذا هو المعنى،
إذاً متى يجوز للإنسان أن يقتل؟ بيّن ذلك النبي ﷺ
فقال: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ
أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ:
النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ
لِلْجَماعَةِ» [١]، هؤلاء الثلاثة، والله جَلَّ جَلَالُهُ يقول: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:
٣٣]، فهؤلاء هم المحاربون، والذي يقتلهم هو الإمام، وأرجح ما قيل في تفسير قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} إن الحرمة
مستوية، فلا فرق بين نفس ونفس، والمسلمون تتكافؤ دماؤهم، {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}،
المعنى: أحياها بمعنى كف عن قتلها، فيسلم جميع الخلق من غائلته، ومن عدوانه على
النفوس، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري، والحافظ ابن كثير، وعليه
عامة المحققين، وبعض أهل العلم قال: أحياها، يعني: عفا عنه من قصاص مثلاً قد وجب
عليه، إن كان هو ولي الدم عفا، وإن لم يكن ولي الدم يُعطِي أو يُرضِي ولي المقتول
من أجل أن يعفو، لكن المعنى ما ذكرت، والله تعالى أعلم.
[١] صحيح البخاري: (٦٨٧٨)، ومسلم: (١٦٧٦) باختلاف
يسير.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: