شرح حديث/ إن لله ما أخذ وله ما أعطى
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّبر
شرح حديث/ إن لله ما أخذ وله ما أعطى
أحاديث رياض الصالحين
باب الصبر الحديث رقم 30
عن
أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ
وحِبِّه وابن حبه، رضي الله عنهما، قال: أرسلت بنت النبي ﷺ: إن ابني قد احتُضر فاشْهَدنا،
فأرسل يقرئ السلام ويقول: (إن لله ما أخذ وله ما
أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب) فأرسلت إليه تُقسٍم عليه ليأتينها
فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله
عنهم، فرفع إلى رسول الله ﷺ
الصبي فأقعده في حجره ونفسُه تَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما
هذا؟
فقال:
(هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده)
وفي
رواية (في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من
عباده الرحماء) متفق عليه.
ومعنى
(تَقَعْقَعُ) تتحرك وتضطرب.
الشرح
قال
المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله
عنهما-، وزيد بن حارثة كان مولى لرسول الله ﷺ،
وكان عبدًا، فأهدته إليه خديجة- رضي الله عنها- فأعتقه، فصار مولى له، وكان
يُلَقَّب بِحِبِّ رسول الله ﷺ؛ أي حبيبه،
وابنه أيضًا حِبّ، فأسامة حبه وابن حبه رضي الله عنهما، ذكر أن إحدى بنات الرسول ﷺ أرسلت إليه رسولا، تقول له إن ابنها قد احتضر، أي:
حضره الموت. وأنها تطلب من النبي ﷺ أن يحضر،
فَبَلَّغَ الرسولُ رسولَ الله ﷺ فقال له النبي
ﷺ (مُرْها
فَلْتَصْبِر وِلْتَحْتَسِبْ، فإنَّ لله ما أخَذَ ولَهُ ما أَعْطى، وكُلُّ شيءٍ
عندَهُ بأجلٍ مُسَمَّى).
أمر
النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي أرسلته ابنتُهُ أن يأمر ابنتَهُ- أم هذا
الصبي- بهذه الكلمات:
قال:
(فَلْتَصْبِر) أي: تحتسب الأجر على الله
بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب، يصبر على المعصية ولا يتضجَّر، لكنه ما
يؤمل أجرها على الله فيفوته بذلك خير كثير، لكن إذا صبر واحتسب الأجر على الله،
يعني: أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره، فهذا هو الاحتساب (مُرْها فَلْتَصْبِرْ) يعني على هذه المصيبة (وَلْتَحْتَسِبْ) أجرها على الله عز وجل. قوله (فإنَّ لله ما أخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى) هذه الجملة
عظيمة؛ إذا كان الشيء كله لله، إن أخذ منك شيئًا فهو ملكه، وإن أعطاك شيئًا فهو
ملكه، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو؟
عليك
إذا أخذ الله منك شيئا محبوبًا لك؛ أن تقول: هذا لله، له أن يأخذ ما شاء، وله أن
يعطي ما شاء.
ولهذا
يُسَنُّ للإنسان إذا أُصيب بمصيبة أن يقول (إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يعني: نحنُ ملكٌ لله يفعلُ بِنا ما
يَشاء، كذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له- عز وجل- له ما أخذ وله ما
أعطى، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه، هو لله، ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيما أعطاك
الله إلا على الوجه الذي أذن لك فيه؛ وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك
قاصر، ما نتصرف فيه تصرفا مطلقًا، فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفًا مطلقا
على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له أمسك، لا يمكن؛ لأن المال مال الله، كما قال
سبحانه ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ﴾ (النور 33)، المال مال الله،
فلا تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أُذِن لك فيه.
ولهذا
قال: (ولله ما أخذ وله ما أعطى) فإذا كان لله
ما أخذ، فكيف نجزع؟ كيف نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالى؟ هذا خلاف
المعقول وخلاف المنقول!
قال:
(وكل شيء عنده بأجل مسمى) كل شيء عنده بمقدار،
كما قال الله تعالى في القرآن الكريم ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ (الرعد 8)،
بمقدار في زمانه، ومكانه، وذاته، وصفاته، وكل ما يتعلق به فهو عند الله مُقدَّر.
(بأجل مسمى) أي: معين، فإذا أيقنت بهذا؛ إن لله ما
أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ اقتنعت. وهذه الجملة الأخيرة تعني أن
الإنسان لا يمكن أن يغيِّر المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير، كما قال الله ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (يونس 49): فإذا كان الشيء مقدرًا لا يتقدم
ولا يتأخر؛ فلا فائدة من الجزع والتسخط؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغيِّر شيئًا
من المقدور.
ثم
إن الرسول أبلغ بنت النبي ﷺ ما أمره أن
يُبَلِّغَه إياها، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر، فقام عليه الصلاة والسلام هو
وجماعة من أصحابه، فوصل إليها، فرُفِعَ إليه الصبي ونفسه تتقعقع؛ أي تضطرب، تصعدُ
وتنزل، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمَعَت عيناه. فقال سعد بن عباده وكان
معه- هو سيد الخزرج- ما هذا؟ ظنَّ أن الرسول ﷺ
بكى جزعًا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام (هذه رحمة)
أي بكيت رحمة بالصبي لا جزعًا بالمقدور.
ثم
قال عليه الصلاة والسلام: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)
ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب.
إذا
رأيت مصابًا في عقله أو بدنه، فبكيت رحمة به، فهذا دليل على أن الله تعالى جعل في
قلبك رحمة، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمة كان من الرحماء الذين يرحمهم الله
عز وجل. نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
ففي
هذا الحديث دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول ﷺ
قال: (مرها فلتصبر ولتحتسب).
وفيه
دليل أيضًا على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة، أفضل من قوله بعض الناس: (أعظم
الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك) هذه صيغة اختارها بعض العلماء، لكن الصيغة
التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام (اصبر
واحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى) أفضل؛ لأن
المصاب إذا سمعها اقتنع أكثر.
والتعزية
في الحقيقة ليست تهنئه كما ظنها بعض العوام، يحتفل بها، وتوضع لها الكراسي، وتُوقد
لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، بل هي تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر، ولهذا
لو أن أحدًا لم يُصَب بالمصيبة، كما لو مات له ابن عم ولم يهتمَّ به؛ فإنه لا
يُعزى، ولهذا قال العلماء رحمهم الله (تُسَنُّ تعزية المصاب) ولم يقولوا تسن تعزية
القريب، لأن القريب ربما لا يُصاب بموت قريبه، والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما
مثلًا.
فالتعزية
للمصاب لا للقريب. أما الآن- مع الأسف- انقلبت الموازين وصارت التعزية للقريب، حتى
وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يُعزَّى، ربما يكون بعض الناس فقيرًا،
وبينه وبين ابن عمه مشاكل كثيرة، ومات ابن عمه وله ملايين الدراهم، هل يفرح إذا
مات ابن عمه في هذه الحال أو يصاب؟ غالبا يفرح، ويقول: الحمد لله الذي خلصني من
مشاكله وورَّثني ماله! فهذا لا يُعزَّى، هذا يُهنَّأ لو أردنا أن نقول شيئًا.
والمهم
أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر وتسليته، فيختار لها
من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية، ولا أحسن من الكلمات التي صاغها
نبينا ﷺ. والله الموفق.
الحمد لله رب العالمين
شرح حديث/ إن لله ما أخذ وله ما أعطى
Reviewed by احمد خليل
on
1:52:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: